علنت المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN هذا الشهر عن اكتشاف أربعة جسيمات جديدة في مصادم الهادرونات الكبير LHC في جنيف، وهو ما يرفع من حصيلة الجسيمات التي اكتُشفت منذ انطلاق عمله عام 2009 إلى 59 جسيمًا، إضافةً إلى جسيم «هيغز بوزون» الذي نال عليه صاحبه جائزة نوبل.
ويُستعمل هذا المُصادم في تسريع الجسيمات دون الذرية كالبروتونات واصطدامها، وهي الجسيمات التي تُشكّل مع النيوترونات النواة الذرية.
المثير في هذا الاكتشاف أنّه رغم أن بعض هذه الجسيمات الجديدة كانت متوقعة بناءً على نظرياتنا الراسخة، فإن بعضها كان أكثر إثارة للدهشة.
ويهدف مصادم الهادرونات إلى اكتشاف بنية المادة من أقصر وحداتها إلى أعلى طاقة ممكنة لها داخل المختبر، وذلك من أجل اختبار أفضل نظرياتنا الحالية حول الطبيعة: النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات. ومكّن مصادم LHC العلماء من اكتشاف جسيم هيغز بوزون، وهو القطعة الأخيرة المفقودة من النموذج. مع ذلك، ما زالت النظرية بعيدة عن تزويدنا بفهم كامل.
إحدى أكثر الخصائص إثارة لهذه النظرية هي وصفها للقوة الشديدة التي تحافظ على تماسك النواة الذرية المُتشكّلة من البروتونات والنيوترونات، التي تتكون كل منها بدورها من ثلاثة جسيمات صغيرة تسمى الكواركات (تصنف الكواركات إلى ستة أنواع وتسمى بالنكهات وهي: العلوي والسفلي والساحر والغريب والقمي والقاعي).
إذا عطلنا القوة الشديدة ثانيةً واحدةً فقط، فإن كل المادة ستتفكك على الفور وتتحول إلى حساء من الكواركات التائهة، وهي حالة كان عليها الكون للحظة عابرة في بدايته.
وتقوم نظرية القوة النووية الشديدة التي تُسمّى أيضًا التفاعل القوي أو الكروموديناميكا الكمومية، على أسس صلبة للغاية وتصف كيفية تفاعل الكواركات مع القوة الشديدة من طريق تبادل جسيمات تُسمّى الغلوونات. يمكنك التفكير في الغلوونات على أنها مُماثلة للفوتونات، جسيمات الضوء الحاملة للقوة الكهرومغناطيسية.
مع ذلك، فإن الطريقة التي تتفاعل بها الغلوونات مع الكواركات تجعل القوة الشديدة تتصرف بطريقة مختلفة تمامًا عن الكهرومغناطيسية، فبينما تضعف القوة المغناطيسية عند فصل جسمين مشحونين عن بعضهما، تزداد القوة الشديدة عند فصل كواركين.
لهذا تُحبس الكواركات -ما لم تُحطّم بسرعات هائلة كما في سيرن- للأبد داخل جسيمات تُسمّى هادرونات، وهي جسيمات مُكوّنة من كواركين أو أكثر، وتشمل البروتونات والنيوترونات.
ولتصبح الأمور أكثر تعقيدًا، تحتوي جميع الجسيمات في النموذج القياسي على جسيمات مضادة متطابقة تقريبًا مع نفسها ولكن بشحنة معاكسة (أو خاصية كمومية أخرى). إذا تسببنا في فصل كوارك واحد عن البروتون، فستنتج قوة في آخر المطاف تكون شديدة بما يكفي لتكوين زوج من الكوارك والكوارك المضاد، مع رجوع الكوارك المُكوّن حديثًا إلى بروتونه.
سنحصل في نهاية العملية على بروتون و «ميزون»، وهو جسيم مصنوع من كوارك وكوارك مضاد. قد يبدو لك هذا الأمر غريبًا، لكن وفقًا لميكانيكا الكم التي تحكم الكون في مقياسه الأصغر، يُمكن للجسيمات أن تظهر من الفراغ.
وقد أُثبت ذلك مرارًا وتكرارًا بواسطة التجارب؛ لم نشهد كواركًا منفردًا من قبل. الميزة غير السارة لنظرية القوة الشديدة هي أن حساباتها قد تُصبح معقدة على نحو مستحيل مقارنة بالقوة المغناطيسية، لذلك لا يمكننا (حتى الآن) الإثبات نظريًا أن الكواركات لا يُمكن أن تتواجد بمفردها، والأسوأ أننا لا نستطيع أيضا معرفة أي التوليفات من الكواركات مُمكنة في الطبيعة.
Illustration of a tetraquark. (CERN)
عندما اكتُشفت الكواركات أول مرة، استنتج العلماء أن الكثير من التوليفات يجب أن تكون مُمكنة نظريًا: الكواركات والكواركات المضادة (الميزونات) ؛ ثلاثة كواركات (باريونات)؛ ثلاثة من الكواركات المضادة (باريونات مضادة)؛ اثنان من الكواركات واثنان من الكواركات المضادة (رُباعي الكواركات أو تتراكوارك) ؛ وأربعة كواركات وواحد من الكواركات المضادة (خُماسي الكواركات أو بنتاكواركات).
لُوحظت الباريونات والميزونات فقط في التجارب فترةً طويلة، لكن في عام 2003، اكتشفت تجربة بيل Belle في اليابان جسيمًا لا تنطبق عليه أي من المواصفات السابقة. اتّضح لاحقًا أن هذا الجسيم هو الأول من نوعه في سلسلة طويلة من التيتراكواركات.
يليه في سنة 2015 اكتشاف تجربة مصادم الهادرونات الكبير لجسيمين من البنتاكوارك.
وتعد الجسيمات الأربعة الجديدة من رباعيات الكوارضكات: زوج من الكوارك الساحر وكواركان آخران. يُذكر أن هذه الأجسام المُكتشفة حديثًا هي جسيمات تحاكي البروتون والنيوترون، لكنها ليست جسيمات أساسية: الكواركات والإلكترونات هي لبنات البناء الحقيقية للمادة.
Is a pentaquark tightly (above) or weakly bound (see image below)? (CERN)
جسيمات جديدة ساحرة:
اكتشف LHC حتى الآن 59 هادرونًا جديدًا. بما في ذلك التيتراكواركات التي اكتُشفت حديثًا، ولكن أيضًا الميزونات والباريونات الجديدة. وكل هذه الجسيمات الجديدة تحتوي على كواركات ثقيلة: الكوارك الساحر والكوارك القعري.
تكمن أهمية هذه الهادرونات أنها تكشف لنا عن التوليفات المُمكنة من الكواركات في الطبيعة، حتى ولو فترات قصيرة جدًا، كما تُخبرنا أيضًضا عن التوليفات المستحيلة، مثلًا: لماذا يحتوي كل تتراكوارك وبنتاكوارك على زوج من الكوارك الساحر (مع وجود استثناء واحد)؟ ولماذا لا توجد جسيمات لا تحتوي على أزواج من الكوارك الغريب؟ لا يوجد حاليًا أي تفسير.
Is a pentaquark a molecule? A meson (left) interacting with a proton (right). (CERN)
هناك لغز آخر يتمثل في كيفية ارتباط هذه الجسيمات بعضها ببعض بواسطة القوة الشديدة.
فبينما يعتبر بعض الفيزيائيين النظريين أن هذه الجسيمات عبارة عن أقراص مُدمجة، مثل البروتون أو النيوترون، يدّعي البعض الآخر أنّها تُشبه «الجزيئات» التي تتكون من اثنين من الهادرونات غير المُترابطة.
يسمح كل هادرون مُكتشف حديثًا للتجارب بقياس كتلته وخصائصه الأخرى، التي تخبرنا شيئًا عن سلوك القوة الشديدة. وهذا سيساعدنا على سد الفجوة بين التجربة والنظرية؛ فكلما وجدنا المزيد من الهادرونات، كان بإمكاننا ضبط النماذج بشكل أفضل مع الحقائق التجريبية.
هذه النماذج ضرورية لتحقيق الهدف النهائي لمُصادم LHC: إيجاد فيزياء تتجاوز النموذج القياسي. فرغم نجاحاته، إلا أنّه بالتأكيد ليس الكلمة الأخيرة لفهم عالم الجسيمات. إنه على سبيل المثال غير متوافق مع النماذج الكونية التي تصف تشكّل الكون.
من هذا، يبحث المصادم LHC عن جسيمات أساسية جديدة يمكن أن تفسر هذه التناقضات. قد تكون هذه الجسيمات مرئية في مختبر LHC، لكنها تتوارى خلف تفاعلات الجسيمات. أو يمكن أن تظهر كتأثيرات ميكانيكية كمومية صغيرة في عمليات معروفة.
في كلتا الحالتين، لكي نعثر على هذه الجسيمات فنحن في حاجة ماسّة إلى فهم أفضل للقوة الشديدة. ومع اكتشاف كل هادرون جديد، تتحسّن معرفتنا بقوانين الطبيعة، مما يقودنا إلى وصف أفضل لأهم خصائص المادة.