مدينه منوره (تاريخيا)
Almadina al-munawara - Almadina al-munawara
المدينة المنورة
المدينة المنورة هي المدينة التي لن يستطيع أحد أن ينافس المسلمين فخرهم كما يفتخرون بها، فهي عاصمة الإسلام الأولى ومتبوأ الهدى ودار الإيمان والفرقان، حاضنة مسجد رسول الله وقبره الشريف، منها انبعثت مبادئ الإسلام إلى الناس كافة، وتحت رايتها توحدت الجزيرة العربية لأول مرة في التاريخ وانضوت تحت لوائها كل من مصر والشام والعراق وفارس لتصبح القبائل العربية أمة تحقق على يديها وعد الله فكانت جديرة بحمل هذا المجد المتألق جيلاً بعد جيل.
تقع المدينة بين خط الطول 36 ً:39 ْ شرقاً، وخط العرض 28 ً:24 ْ شمالاً في إقليم الحجاز من الجزيرة العربية، وهو الإقليم الذي يحجز سهل تهامة عن مرتفعات نجد، على بعد نحو 335 كم إلى الشمال من مكة، وعلى مسافة 160كم إلى الشرق من البحر الأحمر، عندها ينتهي وادي القرى ويبدأ وادي العقيق في منبسط من الأرض، تطوقها الحدائق والدوحات من مختلف الجهات وتحيطها الجبال من كل جانب إلا من الجهة الجنوبية الشرقية، وهي بهذا الموقع صلة الوصل بين بادية نجد والبحر الأحمر، وبين اليمن والشام، من هنا وصفها بعضهم بمدينة القوافل. في جهتها الشمالية وعلى مسافة 4كم من المسجد النبوي يقع جبل أحد الذي تنسب إليه معركة أحد الشهيرة وهو يمتد من الغرب إلى الشرق بطول 6كم تعلوه هضاب مشوبة بالحمرة وتتخلله عروق صخرية متعددة الألوان، وفيه قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وفي جهتها الجنوبية والجنوبية الغربية يقع جبل عير، وهو عبارة عن جبلين أحمرين متقاربين، أحدهما عير الوارد والثاني عير الصادر، وفي جهتها الشرقية بقيع الغرقد، وفي الجهة الجنوبية قرية قباء أحد أحياء المدينة اليوم، وفي أطرافها حراتها المشهورة، حرة واقم في الجهة الشرقية، وهي من أشهر حرات بلاد العرب، وحرة الوبرة في الغرب تشرف على وادي العقيق ـ عندها يبدأ الطريق إلى مكة ـ وحرة قباء في الجنوب، وهذه الحرات عبارة عن بقع بركانية مغطاة بالبازلت الأسود تتخللها واحات خضراء تكثر فيها العيون والينابيع لمسافات بعيدة وسط الفيافي والقفار، وفي المدينة ومحيطها تتقاطع مجموعة من الأودية أهمها وادي بطحان وهو إلى الجهة الغربية منها، ووادي رانون الذي يبدأ من جبل عير ويلتقي وادي بطحان في الجهة الجنوبية، ووادي مذينيب في الجهة الجنوبية الشرقية، ووادي قناة في الشمال الشرقي، ووادي مهزور في جنوب شرقي المدينة، وقد أصبحت أجزاء كثيرة من هذه الأودية داخل المدينة نفسها في الوقت الحاضر بحكم الامتداد والتوسع العمراني. ترتفع المدينة عن سطح البحر نحو 620م، ويطلق على الأجزاء المرتفعة من المدينة في الجنوب الشرقي العوالي، أو علية المدينة وعلى الجزء الشمالي سافلتها. تسقط أمطارها شتاء فتجري السيول والأودية في كثير من الأحيان، وقد تعرضت عبر تاريخها الطويل للعديد من الكوارث بسبب غزارة الأمطار كما حدث في خلافة عثمان، إذ كادت المدينة تغرق لو لم يبادر الخليفة نفسه إلى ندب الناس لردم السيل ورده عنها، وتكرر ذلك في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. وعلى العموم فإن مناخ المدينة أقرب إلى الاعتدال؛ فأتيح لكثير من سكانها الاشتغال بالزراعة. التي من أشهرها زراعة أشجار النخيل الذي تزيد أنواعه على 20 صنفاً والعنب والرمان والحبوب والخضار إلى جانب أعشاب العطارة والبرسيم.
ورد ذكر يثرب في الكتابات المعينية وهذا يعني أن اسم يثرب معروف ومتداول قبل القرن السابع ق.م، أما الجغرافي بطلميوس فقد ذكرها بلفظ iatrrippe، في حين اختلف الإخباريون العرب في بيان أصل التسمية، فزعم بعضهم أن يثرب مشتق من التثريب الذي هو بمعنى الفساد، ومنهم من قال إنها نسبة إلى يثرب رئيس العماليق، وغير ذلك من التفسيرات، وقد ورد في الأثر أن النبيr نهى عن تسميتها بيثرب، وسماها طيبة أو طابة، ومثلما اختلف الإخباريون في تحديد معنى يثرب، فإنهم اختلفوا أيضاً في عدد أسمائها فقد جعل لها السمهودي 94 اسماً، وابن زبالة 11 اسماً وذكر لها آخرون 29 اسماً وهو الأعم، وهذه الأسماء هي: طيبة - طابة - المسكينة - العذراء - الجابرة - المحببة - المجبورة - يثرب - الناجية - آكلة البلدان - المحفوفة - المحفوظة - البارة - الحسيبة - الخيرة - دار الأبرار- دار الأخيار - ذات الحرار - ذات النخيل - دار الهجرة - دار السنة - العاصمة - المرزوقة - المرحومة - المحرمة - القاصمة - الشافية - المختارة - المدينة. والاسم الأخير هو الذي اتفق عليه من قبل جمهور المسلمين فأصبح علماً عليها إذا أطلق من دون إضافة.
يختلف تخطيط المدينة عن تخطيط مكة: ففي المدينة تنتشر الحصون والآطام (الأطم البناء المرتفع). وكان منها عند الهجرة حصن كعب بن الأشرف، سيد بني النضير في الجنوب الشرقي من المدينة على حرّة واقم عند أطراف وادي مذينيب، وأطم الضحيان في الجنوب الغربي، ولاتزال آثارهما بادية.
أما بقية الحصون التي ذكرها الجغرافيون والمؤرخون العرب في المدينة فقد درست معالمها، وكان لكل قسم من أقسام الأوس والخزرج منازلهم في علية المدينة أو سافلتها ولهم حصونهم التي يمتنعون فيها عند الحرب أو الخطر، وتعتمد هذه الحصون على آبارها الخاصة لتوفير الماء في الظروف العادية ووقت الحرب، واستفاد أهلها من توفر الماء الجوفي، فتعددت الحصون والآطام وكثرت في المدينة الدور والبساتين.
يكتنف الغموض تاريخ الحجاز عامة، وكذلك تاريخ المدينة خاصة، لكن أكثر المؤرخين يذهبون إلى أن أول من سكن المدينة جيل من الناس عرفوا باسم «العماليق» نسبة إلى عملاق أو عمليق، من أحفاد سام بن نوح، تكاثرت مع الزمن أحفاده وذراريه، وأصبحوا على شكل قبائل أشهرها بنو هف وبنو سعد وبنو مطرويل. وعند بداية ظهور المسيحية واعتناقها ديانة مقدسة في الامبراطورية الرومانية قام اليهود بما يشبه التمرد والعصيان؛ فتعرضوا للقمع والتشريد من جانب الدولة، وهاجر بعضهم إلى الجزيرة العربية لائذاً ببعض واحاتها كفدك وتيماء وخيبر ويثرب، وهناك من يرى أن هذه الهجرة جاءت في أعقاب عملية السبي التي تعرض لها اليهود في العهد الآشوري والكلداني، وقد استقبلهم العرب على عادتهم في إكرام الضيف وإيواء الغريب. ومن الباحثين من يعتقد أن يهود المدينة ومعهم يهود الجزيرة العربية عموماً إنما هم من العرب الذين اعتنقوا اليهودية عن طريق التبشير، شأنهم شأن العرب الذين اعتنقوا النصرانية بعد ظهورها، وكيفما كان الأمر فإن اليهود أقاموا في يثرب إلى جانب بقايا العماليق وبعض العرب من بلى وقيس عيلان وتأثروا بهم واتخذوا لأنفسهم أسماء عربية وأصبحوا مع الزمن قبائل وبطوناً، فكانت منهم بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع وغيرهم، وقد تكون أسماء بعض المواضع في المدينة منسوبة إليهم، فوادي مهزور المعروف يعني بالعبرية مجرى الماء، ووادي بطحان معناه الاعتماد، أما بئر أريس فليس هناك من شخص اسمه أريس، وإنما أريس في العبرية معناها الفلاح أو الحارث. وبعد هجرة الأوس والخزرج عقب أحداث سيل العرم وانهيار سد مأرب عند منتصف القرن السادس الميلادي نزل الأوس جنوبي يثرب وشرقيها، وأقام الخزرج في الشمال الغربي وجاوروا بني قينقاع، ومع الأيام أصبح لهم من الضياع والأموال ما جعل اليهود يخافون من الأوس والخزرج على أنفسهم وأموالهم؛ فعقدوا معهم جواراً مع أنهم كانوا متغلبين على يثرب، لكنهم أرادوا من هذا الحلف أن تستمر بهم السيادة عليها بالوقت الذي قنع فيه الأوس والخزرج بما كانوا يحققونه من مكاسب على المستوى الزراعي أو التجاري، لكن اليهود عادوا فنقضوا ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج، ولجؤوا إلى بث الدسائس والمؤامرات لتفريق الكلمة فيما بينهم، وانتهى الأمر بقيام حروب ووقائع امتدت إلى ماقبل هجرة النبيr إلى المدينة بقليل ومن أشهر تلك الوقائع حرب سمير - حرب حاطب - حرب بعاث، تكبد فيها كل من الأوس والخزرج خسائر فادحة في الأموال والأرواح، وحينما صحا الفريقان من سكرتهم وتنبهوا إلى مايقوم به اليهود من مكايد انتهت تلك الحروب بعد أن وهن وثاق الأخوة بين القبيلتين العربيتين، وكان لسيد الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول العوفي، وسيد الأوس أبي عامر عبد عمر بن صيفي بن النعمان دور لافت في تجاوز تلك الخلافات، لكن نجم هذين السيدين أفل مع ظهور الإسلام بسبب موقفهما من الدعوة لاعتقادهما أن العهد الجديد استلب منهما الملك المؤثل، فتظاهر الأول بالدخول في الإسلام ولكن على دخن منه، في حين أبى الثاني إلا الكفر، فغادر إلى الشام حيث مات هناك بعيداً عن القوم والديار.
المدينة المنورة في العهد الإسلامي:
في سنة 620م جرى أول اتصال بين النبيr وأهل يثرب، وتكرر ذلك إلى أن وصل إليها مهاجراً يوم الاثنين 8 ربيع الأول/2 تموز622م، واستقر به المقام فيها ليصبح آمناً راضياً، ومع دخوله الميمون تحول الخصمان المتصارعان (الأوس والخزرج) إلى أنصار، وتحول هؤلاء الأنصار مع من هاجر إليهم ليصبح الجميع (صحابة) وبهم بدأ تاريخ الدولة الإسلامية، أول دولة قائمة على الشورى.
كان من أول الأعمال التي باشرها النبيr بناء المسجد الذي خطه بيده ليصبح مركز الجماعة ورمزها، أنشأه في وسط المدينة بموضع كان يجفف فيه التمر، وهو إلى شرقي المدينة أقرب، أقيم على هيئة مستطيل، طوله 70×63 ذراعاً بنيت جدرانه من الحجارة والطين، وعمده من أعجاز النخيل، وسقفه من الجريد، وكان بناء المسجد القاعدة التي ارتكز عليها عمران المدينة فيما بعد، وأنشئ إلى جواره بيت النبيr الذي توفي فيه، وعلى مقربة منه أقيمت منازل الصحابة، فإلى الشرق دار عثمان بن عفان، وإلى الجنوب دار آل الخطاب، وبمحاذاتها من جهة الغرب دار العباس ومروان بن الحكم، وفي الغرب دار أبي بكر الصديق وإلى الشمال دار عبد الرحمن بن عوف، وقد أدى تكرار توسعة المسجد إلى إزالة بعضها، ويبدو أن أول توسعة تمت في عهد النبيr بعد فتح خيبر فأصبحت مساحته 100×100 ذراع، وفي عهد الخلفاء الراشدين تتابعت أعمال التوسع فيه فكانت توسعة عمر بن الخطاب سنة 17هـ/638م وفي عهد عثمان استبدلت بأعجاز النخيل عمد الحديد وجعل سقفه من خشب الساج، وبنيت جدرانه بالحجارة المنقوشة وزاد عثمان في مساحته واستحدث فيه المقصورة التي لاتزال تعرف إلى اليوم بمحراب عثمان.
استمرت المدينة عاصمة للدولة الإسلامية حتى ظهرت الفتنة الأولى في عهد عثمان التي انتهت بمقتله في بيته، ومع أن علي بن أبي طالب بويع بالخلافة في مسجدها سنة 36هـ/656م فإنه غادرها إلى الكوفة قبل أحداث موقعة الجمل فانتقل دور الزعامة منها ولم تعد سوى مركز يقصده العلماء والفقهاء للأخذ عن صحابة النبيr والتابعين، وفي العهد الأموي أصبحت المدينة إمارة من إمارات الدولة الأموية، لكن ذلك لم يصرف الخلفاء الأمويين عن الاهتمام بها والعناية بشؤونها، ففي عهدهم تولى إمارتها أشهر رجالاتهم مثل مروان بن الحكم وسعيد ابن العاص والوليد بن عتبة بن أبي سفيان وأبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز. وكانت المدينة محل عنايتهم ورعايتهم منذ أيام معاوية، وفي خلافة الوليد بن عبد الملك (86 -96هـ) أعيد بناء المسجد بعد أن أضيف إليه مكان بيوت أزواج النبيr وبعض الأبنية والأراضي التي تحيط به، وغدت مساحته 200×200 ذراع وأصبح للمسجد أربع مآذن وعشرون باباً، واستُقدم إليه البناؤون من مصر والشام، وجُعل المحراب على شكل فجوة في الحائط واستمر فيه العمل أكثر من سنتين، وفي عهد مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية توسعت عمارة المدينة وأنشئت القصور وصممت الحدائق الغناء واتصلت أجزاء السهل بعضها ببعض ترويها العيون والآبار.
استمرت أعمال الترميم والإضافات طوال العهد العباسي، ففي عهد المهدي 169هـ/785م أصبحت مساحة المسجد 2450م2 وأحيطت هذه الزيادة بأروقة من العمد والقباب، وفي عام 576هـ/1180م زاد فيه الناصر صلاح الدين الأيوبي قبة الصحن لحفظ التحف والذخائر وما كان يساق إليه من الهدايا، وعلى إثر الحريق الذي أتى على معظم أجزائه سنة 654هـ/1256م أمر الخليفة المستعصم بالله بإعادة بنائه من جديد وألحق فيه بعض الإضافات. وفي عهد المماليك تعرض المسجد للحريق مرة ثانية سنة 886هـ/1481م وأتت النار على معظم أجزائه واحترق معظم ما فيه من المخطوطات والمصاحف فقام السلطان الأشرف قايتباي بتوجيه الصناع والأخشاب والرصاص من مصر وإعادة بناء المسجد على الصورة التي كان عليها. أما العثمانيون فقد كان اهتمامهم بالحرمين لافتاً منذ أيام السلطان سليم الثاني سنة 980هـ/1572م الذي أمر بتشييد محراب القبلة وطعمه بالفسيفساء المنقوشة بماء الذهب، وبنى السلطان محمود الثاني سنة 1233هـ/1817م القبة الشريفة وفي عهد السلطان عبد المجيد أضيفت إلى المسجد أقسام جديدة وشيدت القباب ذات النوافذ المحاطة بشبابيك من النحاس والحديد إلى جانب المئذنة المجيدية والكتابات والنقوش التي لاتزال ماثلة إلى العيان حتى اليوم. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز أُقيمت أكبر توسعة في تاريخ المسجد النبوي بدأت عام 1405هـ/1984م تضمنت هذه التوسعة تعمير وتحسين المسجد النبوي والمدينة المنورة بكاملها، تبلغ مساحة المسجد بعد التوسعة الكبرى 165.500م2 ويستوعب 257 ألفاً من المصلين، من هذه المساحة 67 ألف متر لمساحة السطح تستوعب90 ألفاً من المصلين وتميزت هذه التوسعة بإضافة 6 مآذن جديدة ليصبح عددها 10 مآذن، وأصبح عدد أبواب الحرم 81 باباً كما تم تركيب 18 سلماً تؤدي إلى سطح المسجد، وزود المسجد بـ(27) قبة متحركة لها خاصية الانزلاق، يتحكم في فتحها وإغلاقها حاسوب مركزي، وتمّ تزويد المسجد بمولدات كهربائية ومحطة ضخمة لتبريد الجو وتكييفه.
والمدينة المنورة كبقية المدن العربية القديمة كانت محاطة بسور ارتبط إنشاؤه بالأحداث التاريخية التي تعرضت لها.
ففي العهد الأموي تمرد أهلها سنة 63هـ/682م على يزيد بن معاوية فوجه إليهم جيشاً قوامه اثنا عشر ألف رجل بقيادة مسلم بن عقبة المري، فواجهه المدنيون بحفر خندق وإنشاء سور من جهة المدينة الشمالية لكن هذا التمرد انتهى بدخول مسلم وجنده إلى المدينة وإعادة الأمور إلى نصابها في خبر طويل. وفي العصر العباسي أقيم سور كامل حولها حينما تحصن فيها محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية، الحفيد الأكبر للحسن بن علي ابن أبي طالب 145هـ/762م ويبدو أنه كان على شكل ساتر ترابي يتلوه خندق، أما أول سور حقيقي مبني من الطوب والحجارة فقد أقامه إسحاق بن محمد الجعدي سنة 263هـ/876م وهدمه عضد الدولة البويهي بعد مئة سنة ليقيم على أنقاضه سوراً جديداً من الحجارة لصد غارات البدو، وأعيد تجديده سنة 558هـ/1162م في عهد نور الدين محمود حينما تعرضت ينبع للهجوم من قبل بعض الصليبيين، وقد احتفظ سور المدينة بشكله طوال العهدين الأيوبي والمملوكي، وفي العصر العثماني أعيد تجديده مرتين الأولى في عهد السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر والثانية سنة 1285هـ/1868م في عهد السلطان عبد العزيز، بعد أن استحدث فيه عدة أبواب هي: الباب المجيدي وباب الحمام والباب المصري وباب القاسمية، وقد أزيلت معالم هذا السور سنة 1950م ولم يبق ما يدل عليه سوى جزء يسير يشتمل على الباب المصري.
إضافة إلى هذه المعالم تضم المدينة عدداً من المساجد ارتبط إنشاؤها بمناسبات تاريخية مختلفة، قدرها بعضهم بنحو 56 مسجداً تهدم معظمها مع الزمن ولم يبق منها إلا القليل، ومن المساجد الباقية: مسجد الغمامة ومسجد فاطمة ومسجد بلال ابن رباح ومسجد القشلة (مسجد العسكر) ومسجد الخليفة أو مسجد الشجرة (دخل مؤخراً في التوسعة التي تمت للمسجد النبوي)، ومسجد السقيا ومسجد المنارتين ومسجد عروة ومسجد المعرس ومسجد الجمعة أو مسجد الوادي، ومسجد بنات النجار بمحلة قباء ومسجد القبلتين شمال غربي المدينة، عرف بهذا الاسم لأن النبيr صلى فيه وأصحابه متوجهاً إلى بيت المقدس، وبه أمر بالتحول إلى المسجد الحرام في السنة الثانية من الهجرة، ومسجد الإجابة والمساجد السبع أو مساجد الفتح ومسجد أبي ذر الغفاري ومسجد السجدة ومسجد الراية ومسجد سيد الشهداء حمزة، على أن أهم هذه المساجد مسجد قباء، أول مسجد في الإسلام أنشأه النبيr حينما قدم إلى المدينة مهاجراً، وهو في الجهة الغربية من المدينة أعيد تعميره وترميمه عدة مرات وهو اليوم مزار مشهور.
الأنشطة العلمية:
شهدت المدينة منذ بداية العصر الإسلامي حركة علمية نشطة استمرت عبر القرون والعصور، ومن مسجدها الذي تلقى فيه المسلمون الأوائل مبادئ الدين الحنيف انطلق الرواد الأوائل إلى مكة والكوفة والبصرة ودمشق حاملين معهم مشاعل الفكر والثقافة إلى الأمم والشعوب كافة، ولقد حرص الخلفاء والملوك والسلاطين على دعم دور المدينة التعليمي، فأنشؤوا فيها العديد من المدارس والمكتبات التي كانت موئلاً للعلماء وطلاب العلم والمجاورين من مختلف ديار الإسلام، ومن المدارس التي كانت معروفة في المدينة المدرسة الرستمية، على مقربة من المسجد النبوي، أصبحت في آخر العهد العثماني مركزاً أو مقراً لكبار موظفي الدولة العثمانية، أزيلت مؤخراً وأدخلت في توسعة المسجد النبوي. ومدرسة قره باشي ومدرسة محمود آغا ومدرسة الشفاء التي كانت معروفة باسم «دار السيادة» ومدرسة الساقزلي والمدرسة الجديدة المعروفة باسم «مدرسة كوبريلي»، أنشئت في عهد السلطان العثماني محمد الرابع في القرن السابع عشر، وهي منسوبة إلى الصدر الأعظم محمد باشا الشهير بكوبريلي، والمدرسة المحمودية التي أنشئت في عهد السلطان محمود الثاني (1808- 1839م)، موقعها في الجهة الغربية من الحرم النبوي أزيلت سنة 1951م وأصبحت داخل توسعة الحرم. والمدرسة الحميدية التي أنشئت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني 1876 - 1909م في إطار اهتمامه وعنايته بتطوير الحركة العلمية. ومن المدارس المزالة مدرسة حسين آغا، والمدرسة الإحسائية، والمدرسة الخاسكية التي ألحقت فيما بعد بدار الحكومة، ثم أقيم على أنقاضها مستشفى عسكري خاص بالقوات المسلحة، ومثلما اشتهرت المدينة بمدارسها، فإنها اشتهرت بمكتباتها الضخمة التي اشتملت محتوياتها على آلاف الكتب المتنوعة والمخطوطات التراثية، ومن هذه المكتبات: المكتبة المحمودية كانت ملحقة بالمدرسة المحمودية خصص لها اليوم مكان في الطابق العلوي من المسجد بعد التوسعة وهي تضم آلافاً من الكتب المطبوعة وآلاف المخطوطات يعود معظمها إلى وقت المحدث الشهير محمد السندي، ومن المكتبات المهمة مكتبة عارف حكمت أحد رجال القضاء في القرن التاسع عشر، وتعد مكتبته من أشهر المكتبات في الجزيرة العربية. وهناك مكتبات أخرى ضمت إلى مكتبة الملك عبد العزيز التي أصبحت تعرف اليوم بـ«مجمع المكتبات الأثرية بالمدينة المنورة». إضافة إلى هذه المعالم الحضارية كانت المدينة حتى عهد قريب تزخر بالعديد من الأماكن الأثرية التي تعبر عن رمزية المكان والزمان، وكان الزوار والحجاج يقصدونها للتبرك فيها مثل دار أبي أيوب الأنصاري الصحابي الشهير، وهي الدار التي نزل بها النبيr عند قدومه إلى المدينة، وقد أقيم على أنقاضها في وقت سابق مدرسة تحولت فيما بعد إلى مسجد ثم دخلت ضمن توسعة المسجد النبوي، ومن الأماكن الأثرية دار الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ودار جعفر الصادق وغيرها من الدور المزالة في أثناء توسعة الحرم وشق الشوارع المؤدية إليه، ومن الأماكن ذات الطبيعة الأثرية أرض البقيع، وهي مقبرة أهل المدينة منذ أيام النبيr ولاتزال كذلك إلى اليوم، موقعها إلى الشرق من المسجد النبوي وفيها قبور دارسة لكبار الصحابة من جملتهم الخليفة عثمان بن عفان وزوجات النبي وبعض بناته وأهل بيته من بني هاشم، وقد تم مؤخراً تسوير هذه المقبرة التي أصبحت اليوم على شكل بيداء بوسط المدينة لحمايتها وإتاحة الفرصة أمام الزائرين للوقوف على أطلالها على مدار العام. ومن مآثر المدينة محطة الشام وهي على غرار محطة الحجاز في دمشق، أنشئت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني بعد الانتهاء من مدّ سكة حديد الشام - الحجاز، التي ربطت المدينة المنورة ومعها مكة المكرمة ببلاد الشام التي كانت بدورها مرتبطة بمدينة إصطنبول حاضرة الدولة العثمانية.
السكان:
يقدر عدد السكان في آخر فترة قبل الإسلام ما بين 12- 25 ألف نسمة على امتداد المنطقة، ولما هاجر المسلمون الأوائل من مكة إلى المدينة تغيرت المعادلة السكانية، ومرت بمراحل مدّ وجزر، إذ وفدت إليها مجموعات قبلية وأفراد من مكة والبادية، وكان r قد أجلى عنها من بقي من اليهود، وقدّر عدد سكانها أيام وفاة رسول اللهr بنحو ثلاثين ألفاً.
وبعد ذلك تقلب عدد سكان المدينة بين زيادة ونقص، تبعاً للأحوال الأمنية والاقتصادية، ولكنه هبط في أوائل القرن العاشر الهجري إلى ثلاثة آلاف تقريباً، ثم ازداد في العهد العثماني، ووصل في القرن الثالث عشر إلى عشرين ألف نسمة تقريباً
وفي القرن الرابع عشر الهجري ازدهرت المدينة عندما وصلها الخط الحديدي الحجازي، ووصل سكانها إلى ثمانين ألفاً، لكنه عاد وانخفض انخفاضاً حاداً عندما قامت الحرب العالمية الأولى، وأُجبر معظم أهلها على الخروج منها، حتى لم يبق فيها من أهلها إلا العشرات بسبب الصراع بين العثمانيين والهاشميين.
وعندما بدأ العهد السعودي أخذت المدينة في النمو والازدهار، وارتفع عدد السكان تدريجياً، وعاد إليها كثيرون من أهلها المهاجرين، ووصل العدد في عام 1391هـ/1971 إلى 137 ألف نسمة، وقد شهدت المدينة المنورة تطوراً وازدهاراً كبيرين في العقود الثلاثة الأخيرة، وتضاعف عدد سكانها عدة أضعاف، فبلغ 608 آلاف نسمة حسب تعداد 1413هـ/1992م، ينتمون إلى قبائل وأعراق مختلفة، بعضهم من أهل المدينة المقيمين فيها منذ قرون طويلة، وبعضهم من الوافدين إليها من أنحاء المملكة، وبعضهم من القادمين إليها من البلاد العربية والإسلامية.
ويتوزع السكان في ثلاث دوائر عمرانية، مركزها المسجد النبوي الشريف، ومحيطها الأخير خلف جبل أحد شمالاً وذي الحليفة (آبار علي) غرباً وسد بطحان جنوباً والعاقول شرقاً.
ونتيجة للتطورات العمرانية توزع السكان على أحياء المدينة وتغيرت الكثافة السكانية فيها، فتضاعفت في الأحياء الداخلية حول المسجد النبوي بسبب إعادة عمران المنطقة، والتوجه نحو توفير مناطق سكنية وتجارية تخدم الزوار فيها، وازدادت في المناطق الآتية: قربان وقباء والحرة الشرقية والحرة الغربية…إلخ، وفي أطراف المدينة مثل آبار علي ومنطقة العاقول ومنطقة سيد الشهداء. وإضافة إلى المقيمين الدائمين في المدينة يفد إليها أعداد كبيرة من الزوار في موسم الحج، وفي بقية السنة لأداء العمرة فيمكثون فيها أياماً وأسابيع قليلة، ثم يعودون إلى بلادهم.
مصطفى الخطيب، صفوح خير
Almadina al-munawara - Almadina al-munawara
المدينة المنورة
المدينة المنورة هي المدينة التي لن يستطيع أحد أن ينافس المسلمين فخرهم كما يفتخرون بها، فهي عاصمة الإسلام الأولى ومتبوأ الهدى ودار الإيمان والفرقان، حاضنة مسجد رسول الله وقبره الشريف، منها انبعثت مبادئ الإسلام إلى الناس كافة، وتحت رايتها توحدت الجزيرة العربية لأول مرة في التاريخ وانضوت تحت لوائها كل من مصر والشام والعراق وفارس لتصبح القبائل العربية أمة تحقق على يديها وعد الله فكانت جديرة بحمل هذا المجد المتألق جيلاً بعد جيل.
ورد ذكر يثرب في الكتابات المعينية وهذا يعني أن اسم يثرب معروف ومتداول قبل القرن السابع ق.م، أما الجغرافي بطلميوس فقد ذكرها بلفظ iatrrippe، في حين اختلف الإخباريون العرب في بيان أصل التسمية، فزعم بعضهم أن يثرب مشتق من التثريب الذي هو بمعنى الفساد، ومنهم من قال إنها نسبة إلى يثرب رئيس العماليق، وغير ذلك من التفسيرات، وقد ورد في الأثر أن النبيr نهى عن تسميتها بيثرب، وسماها طيبة أو طابة، ومثلما اختلف الإخباريون في تحديد معنى يثرب، فإنهم اختلفوا أيضاً في عدد أسمائها فقد جعل لها السمهودي 94 اسماً، وابن زبالة 11 اسماً وذكر لها آخرون 29 اسماً وهو الأعم، وهذه الأسماء هي: طيبة - طابة - المسكينة - العذراء - الجابرة - المحببة - المجبورة - يثرب - الناجية - آكلة البلدان - المحفوفة - المحفوظة - البارة - الحسيبة - الخيرة - دار الأبرار- دار الأخيار - ذات الحرار - ذات النخيل - دار الهجرة - دار السنة - العاصمة - المرزوقة - المرحومة - المحرمة - القاصمة - الشافية - المختارة - المدينة. والاسم الأخير هو الذي اتفق عليه من قبل جمهور المسلمين فأصبح علماً عليها إذا أطلق من دون إضافة.
يختلف تخطيط المدينة عن تخطيط مكة: ففي المدينة تنتشر الحصون والآطام (الأطم البناء المرتفع). وكان منها عند الهجرة حصن كعب بن الأشرف، سيد بني النضير في الجنوب الشرقي من المدينة على حرّة واقم عند أطراف وادي مذينيب، وأطم الضحيان في الجنوب الغربي، ولاتزال آثارهما بادية.
أما بقية الحصون التي ذكرها الجغرافيون والمؤرخون العرب في المدينة فقد درست معالمها، وكان لكل قسم من أقسام الأوس والخزرج منازلهم في علية المدينة أو سافلتها ولهم حصونهم التي يمتنعون فيها عند الحرب أو الخطر، وتعتمد هذه الحصون على آبارها الخاصة لتوفير الماء في الظروف العادية ووقت الحرب، واستفاد أهلها من توفر الماء الجوفي، فتعددت الحصون والآطام وكثرت في المدينة الدور والبساتين.
يكتنف الغموض تاريخ الحجاز عامة، وكذلك تاريخ المدينة خاصة، لكن أكثر المؤرخين يذهبون إلى أن أول من سكن المدينة جيل من الناس عرفوا باسم «العماليق» نسبة إلى عملاق أو عمليق، من أحفاد سام بن نوح، تكاثرت مع الزمن أحفاده وذراريه، وأصبحوا على شكل قبائل أشهرها بنو هف وبنو سعد وبنو مطرويل. وعند بداية ظهور المسيحية واعتناقها ديانة مقدسة في الامبراطورية الرومانية قام اليهود بما يشبه التمرد والعصيان؛ فتعرضوا للقمع والتشريد من جانب الدولة، وهاجر بعضهم إلى الجزيرة العربية لائذاً ببعض واحاتها كفدك وتيماء وخيبر ويثرب، وهناك من يرى أن هذه الهجرة جاءت في أعقاب عملية السبي التي تعرض لها اليهود في العهد الآشوري والكلداني، وقد استقبلهم العرب على عادتهم في إكرام الضيف وإيواء الغريب. ومن الباحثين من يعتقد أن يهود المدينة ومعهم يهود الجزيرة العربية عموماً إنما هم من العرب الذين اعتنقوا اليهودية عن طريق التبشير، شأنهم شأن العرب الذين اعتنقوا النصرانية بعد ظهورها، وكيفما كان الأمر فإن اليهود أقاموا في يثرب إلى جانب بقايا العماليق وبعض العرب من بلى وقيس عيلان وتأثروا بهم واتخذوا لأنفسهم أسماء عربية وأصبحوا مع الزمن قبائل وبطوناً، فكانت منهم بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع وغيرهم، وقد تكون أسماء بعض المواضع في المدينة منسوبة إليهم، فوادي مهزور المعروف يعني بالعبرية مجرى الماء، ووادي بطحان معناه الاعتماد، أما بئر أريس فليس هناك من شخص اسمه أريس، وإنما أريس في العبرية معناها الفلاح أو الحارث. وبعد هجرة الأوس والخزرج عقب أحداث سيل العرم وانهيار سد مأرب عند منتصف القرن السادس الميلادي نزل الأوس جنوبي يثرب وشرقيها، وأقام الخزرج في الشمال الغربي وجاوروا بني قينقاع، ومع الأيام أصبح لهم من الضياع والأموال ما جعل اليهود يخافون من الأوس والخزرج على أنفسهم وأموالهم؛ فعقدوا معهم جواراً مع أنهم كانوا متغلبين على يثرب، لكنهم أرادوا من هذا الحلف أن تستمر بهم السيادة عليها بالوقت الذي قنع فيه الأوس والخزرج بما كانوا يحققونه من مكاسب على المستوى الزراعي أو التجاري، لكن اليهود عادوا فنقضوا ما كان بينهم وبين الأوس والخزرج، ولجؤوا إلى بث الدسائس والمؤامرات لتفريق الكلمة فيما بينهم، وانتهى الأمر بقيام حروب ووقائع امتدت إلى ماقبل هجرة النبيr إلى المدينة بقليل ومن أشهر تلك الوقائع حرب سمير - حرب حاطب - حرب بعاث، تكبد فيها كل من الأوس والخزرج خسائر فادحة في الأموال والأرواح، وحينما صحا الفريقان من سكرتهم وتنبهوا إلى مايقوم به اليهود من مكايد انتهت تلك الحروب بعد أن وهن وثاق الأخوة بين القبيلتين العربيتين، وكان لسيد الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول العوفي، وسيد الأوس أبي عامر عبد عمر بن صيفي بن النعمان دور لافت في تجاوز تلك الخلافات، لكن نجم هذين السيدين أفل مع ظهور الإسلام بسبب موقفهما من الدعوة لاعتقادهما أن العهد الجديد استلب منهما الملك المؤثل، فتظاهر الأول بالدخول في الإسلام ولكن على دخن منه، في حين أبى الثاني إلا الكفر، فغادر إلى الشام حيث مات هناك بعيداً عن القوم والديار.
المدينة المنورة في العهد الإسلامي:
المدينة المنورة |
كان من أول الأعمال التي باشرها النبيr بناء المسجد الذي خطه بيده ليصبح مركز الجماعة ورمزها، أنشأه في وسط المدينة بموضع كان يجفف فيه التمر، وهو إلى شرقي المدينة أقرب، أقيم على هيئة مستطيل، طوله 70×63 ذراعاً بنيت جدرانه من الحجارة والطين، وعمده من أعجاز النخيل، وسقفه من الجريد، وكان بناء المسجد القاعدة التي ارتكز عليها عمران المدينة فيما بعد، وأنشئ إلى جواره بيت النبيr الذي توفي فيه، وعلى مقربة منه أقيمت منازل الصحابة، فإلى الشرق دار عثمان بن عفان، وإلى الجنوب دار آل الخطاب، وبمحاذاتها من جهة الغرب دار العباس ومروان بن الحكم، وفي الغرب دار أبي بكر الصديق وإلى الشمال دار عبد الرحمن بن عوف، وقد أدى تكرار توسعة المسجد إلى إزالة بعضها، ويبدو أن أول توسعة تمت في عهد النبيr بعد فتح خيبر فأصبحت مساحته 100×100 ذراع، وفي عهد الخلفاء الراشدين تتابعت أعمال التوسع فيه فكانت توسعة عمر بن الخطاب سنة 17هـ/638م وفي عهد عثمان استبدلت بأعجاز النخيل عمد الحديد وجعل سقفه من خشب الساج، وبنيت جدرانه بالحجارة المنقوشة وزاد عثمان في مساحته واستحدث فيه المقصورة التي لاتزال تعرف إلى اليوم بمحراب عثمان.
استمرت المدينة عاصمة للدولة الإسلامية حتى ظهرت الفتنة الأولى في عهد عثمان التي انتهت بمقتله في بيته، ومع أن علي بن أبي طالب بويع بالخلافة في مسجدها سنة 36هـ/656م فإنه غادرها إلى الكوفة قبل أحداث موقعة الجمل فانتقل دور الزعامة منها ولم تعد سوى مركز يقصده العلماء والفقهاء للأخذ عن صحابة النبيr والتابعين، وفي العهد الأموي أصبحت المدينة إمارة من إمارات الدولة الأموية، لكن ذلك لم يصرف الخلفاء الأمويين عن الاهتمام بها والعناية بشؤونها، ففي عهدهم تولى إمارتها أشهر رجالاتهم مثل مروان بن الحكم وسعيد ابن العاص والوليد بن عتبة بن أبي سفيان وأبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز. وكانت المدينة محل عنايتهم ورعايتهم منذ أيام معاوية، وفي خلافة الوليد بن عبد الملك (86 -96هـ) أعيد بناء المسجد بعد أن أضيف إليه مكان بيوت أزواج النبيr وبعض الأبنية والأراضي التي تحيط به، وغدت مساحته 200×200 ذراع وأصبح للمسجد أربع مآذن وعشرون باباً، واستُقدم إليه البناؤون من مصر والشام، وجُعل المحراب على شكل فجوة في الحائط واستمر فيه العمل أكثر من سنتين، وفي عهد مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية توسعت عمارة المدينة وأنشئت القصور وصممت الحدائق الغناء واتصلت أجزاء السهل بعضها ببعض ترويها العيون والآبار.
استمرت أعمال الترميم والإضافات طوال العهد العباسي، ففي عهد المهدي 169هـ/785م أصبحت مساحة المسجد 2450م2 وأحيطت هذه الزيادة بأروقة من العمد والقباب، وفي عام 576هـ/1180م زاد فيه الناصر صلاح الدين الأيوبي قبة الصحن لحفظ التحف والذخائر وما كان يساق إليه من الهدايا، وعلى إثر الحريق الذي أتى على معظم أجزائه سنة 654هـ/1256م أمر الخليفة المستعصم بالله بإعادة بنائه من جديد وألحق فيه بعض الإضافات. وفي عهد المماليك تعرض المسجد للحريق مرة ثانية سنة 886هـ/1481م وأتت النار على معظم أجزائه واحترق معظم ما فيه من المخطوطات والمصاحف فقام السلطان الأشرف قايتباي بتوجيه الصناع والأخشاب والرصاص من مصر وإعادة بناء المسجد على الصورة التي كان عليها. أما العثمانيون فقد كان اهتمامهم بالحرمين لافتاً منذ أيام السلطان سليم الثاني سنة 980هـ/1572م الذي أمر بتشييد محراب القبلة وطعمه بالفسيفساء المنقوشة بماء الذهب، وبنى السلطان محمود الثاني سنة 1233هـ/1817م القبة الشريفة وفي عهد السلطان عبد المجيد أضيفت إلى المسجد أقسام جديدة وشيدت القباب ذات النوافذ المحاطة بشبابيك من النحاس والحديد إلى جانب المئذنة المجيدية والكتابات والنقوش التي لاتزال ماثلة إلى العيان حتى اليوم. وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز أُقيمت أكبر توسعة في تاريخ المسجد النبوي بدأت عام 1405هـ/1984م تضمنت هذه التوسعة تعمير وتحسين المسجد النبوي والمدينة المنورة بكاملها، تبلغ مساحة المسجد بعد التوسعة الكبرى 165.500م2 ويستوعب 257 ألفاً من المصلين، من هذه المساحة 67 ألف متر لمساحة السطح تستوعب90 ألفاً من المصلين وتميزت هذه التوسعة بإضافة 6 مآذن جديدة ليصبح عددها 10 مآذن، وأصبح عدد أبواب الحرم 81 باباً كما تم تركيب 18 سلماً تؤدي إلى سطح المسجد، وزود المسجد بـ(27) قبة متحركة لها خاصية الانزلاق، يتحكم في فتحها وإغلاقها حاسوب مركزي، وتمّ تزويد المسجد بمولدات كهربائية ومحطة ضخمة لتبريد الجو وتكييفه.
والمدينة المنورة كبقية المدن العربية القديمة كانت محاطة بسور ارتبط إنشاؤه بالأحداث التاريخية التي تعرضت لها.
ففي العهد الأموي تمرد أهلها سنة 63هـ/682م على يزيد بن معاوية فوجه إليهم جيشاً قوامه اثنا عشر ألف رجل بقيادة مسلم بن عقبة المري، فواجهه المدنيون بحفر خندق وإنشاء سور من جهة المدينة الشمالية لكن هذا التمرد انتهى بدخول مسلم وجنده إلى المدينة وإعادة الأمور إلى نصابها في خبر طويل. وفي العصر العباسي أقيم سور كامل حولها حينما تحصن فيها محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية، الحفيد الأكبر للحسن بن علي ابن أبي طالب 145هـ/762م ويبدو أنه كان على شكل ساتر ترابي يتلوه خندق، أما أول سور حقيقي مبني من الطوب والحجارة فقد أقامه إسحاق بن محمد الجعدي سنة 263هـ/876م وهدمه عضد الدولة البويهي بعد مئة سنة ليقيم على أنقاضه سوراً جديداً من الحجارة لصد غارات البدو، وأعيد تجديده سنة 558هـ/1162م في عهد نور الدين محمود حينما تعرضت ينبع للهجوم من قبل بعض الصليبيين، وقد احتفظ سور المدينة بشكله طوال العهدين الأيوبي والمملوكي، وفي العصر العثماني أعيد تجديده مرتين الأولى في عهد السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر والثانية سنة 1285هـ/1868م في عهد السلطان عبد العزيز، بعد أن استحدث فيه عدة أبواب هي: الباب المجيدي وباب الحمام والباب المصري وباب القاسمية، وقد أزيلت معالم هذا السور سنة 1950م ولم يبق ما يدل عليه سوى جزء يسير يشتمل على الباب المصري.
إضافة إلى هذه المعالم تضم المدينة عدداً من المساجد ارتبط إنشاؤها بمناسبات تاريخية مختلفة، قدرها بعضهم بنحو 56 مسجداً تهدم معظمها مع الزمن ولم يبق منها إلا القليل، ومن المساجد الباقية: مسجد الغمامة ومسجد فاطمة ومسجد بلال ابن رباح ومسجد القشلة (مسجد العسكر) ومسجد الخليفة أو مسجد الشجرة (دخل مؤخراً في التوسعة التي تمت للمسجد النبوي)، ومسجد السقيا ومسجد المنارتين ومسجد عروة ومسجد المعرس ومسجد الجمعة أو مسجد الوادي، ومسجد بنات النجار بمحلة قباء ومسجد القبلتين شمال غربي المدينة، عرف بهذا الاسم لأن النبيr صلى فيه وأصحابه متوجهاً إلى بيت المقدس، وبه أمر بالتحول إلى المسجد الحرام في السنة الثانية من الهجرة، ومسجد الإجابة والمساجد السبع أو مساجد الفتح ومسجد أبي ذر الغفاري ومسجد السجدة ومسجد الراية ومسجد سيد الشهداء حمزة، على أن أهم هذه المساجد مسجد قباء، أول مسجد في الإسلام أنشأه النبيr حينما قدم إلى المدينة مهاجراً، وهو في الجهة الغربية من المدينة أعيد تعميره وترميمه عدة مرات وهو اليوم مزار مشهور.
الأنشطة العلمية:
شهدت المدينة منذ بداية العصر الإسلامي حركة علمية نشطة استمرت عبر القرون والعصور، ومن مسجدها الذي تلقى فيه المسلمون الأوائل مبادئ الدين الحنيف انطلق الرواد الأوائل إلى مكة والكوفة والبصرة ودمشق حاملين معهم مشاعل الفكر والثقافة إلى الأمم والشعوب كافة، ولقد حرص الخلفاء والملوك والسلاطين على دعم دور المدينة التعليمي، فأنشؤوا فيها العديد من المدارس والمكتبات التي كانت موئلاً للعلماء وطلاب العلم والمجاورين من مختلف ديار الإسلام، ومن المدارس التي كانت معروفة في المدينة المدرسة الرستمية، على مقربة من المسجد النبوي، أصبحت في آخر العهد العثماني مركزاً أو مقراً لكبار موظفي الدولة العثمانية، أزيلت مؤخراً وأدخلت في توسعة المسجد النبوي. ومدرسة قره باشي ومدرسة محمود آغا ومدرسة الشفاء التي كانت معروفة باسم «دار السيادة» ومدرسة الساقزلي والمدرسة الجديدة المعروفة باسم «مدرسة كوبريلي»، أنشئت في عهد السلطان العثماني محمد الرابع في القرن السابع عشر، وهي منسوبة إلى الصدر الأعظم محمد باشا الشهير بكوبريلي، والمدرسة المحمودية التي أنشئت في عهد السلطان محمود الثاني (1808- 1839م)، موقعها في الجهة الغربية من الحرم النبوي أزيلت سنة 1951م وأصبحت داخل توسعة الحرم. والمدرسة الحميدية التي أنشئت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني 1876 - 1909م في إطار اهتمامه وعنايته بتطوير الحركة العلمية. ومن المدارس المزالة مدرسة حسين آغا، والمدرسة الإحسائية، والمدرسة الخاسكية التي ألحقت فيما بعد بدار الحكومة، ثم أقيم على أنقاضها مستشفى عسكري خاص بالقوات المسلحة، ومثلما اشتهرت المدينة بمدارسها، فإنها اشتهرت بمكتباتها الضخمة التي اشتملت محتوياتها على آلاف الكتب المتنوعة والمخطوطات التراثية، ومن هذه المكتبات: المكتبة المحمودية كانت ملحقة بالمدرسة المحمودية خصص لها اليوم مكان في الطابق العلوي من المسجد بعد التوسعة وهي تضم آلافاً من الكتب المطبوعة وآلاف المخطوطات يعود معظمها إلى وقت المحدث الشهير محمد السندي، ومن المكتبات المهمة مكتبة عارف حكمت أحد رجال القضاء في القرن التاسع عشر، وتعد مكتبته من أشهر المكتبات في الجزيرة العربية. وهناك مكتبات أخرى ضمت إلى مكتبة الملك عبد العزيز التي أصبحت تعرف اليوم بـ«مجمع المكتبات الأثرية بالمدينة المنورة». إضافة إلى هذه المعالم الحضارية كانت المدينة حتى عهد قريب تزخر بالعديد من الأماكن الأثرية التي تعبر عن رمزية المكان والزمان، وكان الزوار والحجاج يقصدونها للتبرك فيها مثل دار أبي أيوب الأنصاري الصحابي الشهير، وهي الدار التي نزل بها النبيr عند قدومه إلى المدينة، وقد أقيم على أنقاضها في وقت سابق مدرسة تحولت فيما بعد إلى مسجد ثم دخلت ضمن توسعة المسجد النبوي، ومن الأماكن الأثرية دار الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ودار جعفر الصادق وغيرها من الدور المزالة في أثناء توسعة الحرم وشق الشوارع المؤدية إليه، ومن الأماكن ذات الطبيعة الأثرية أرض البقيع، وهي مقبرة أهل المدينة منذ أيام النبيr ولاتزال كذلك إلى اليوم، موقعها إلى الشرق من المسجد النبوي وفيها قبور دارسة لكبار الصحابة من جملتهم الخليفة عثمان بن عفان وزوجات النبي وبعض بناته وأهل بيته من بني هاشم، وقد تم مؤخراً تسوير هذه المقبرة التي أصبحت اليوم على شكل بيداء بوسط المدينة لحمايتها وإتاحة الفرصة أمام الزائرين للوقوف على أطلالها على مدار العام. ومن مآثر المدينة محطة الشام وهي على غرار محطة الحجاز في دمشق، أنشئت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني بعد الانتهاء من مدّ سكة حديد الشام - الحجاز، التي ربطت المدينة المنورة ومعها مكة المكرمة ببلاد الشام التي كانت بدورها مرتبطة بمدينة إصطنبول حاضرة الدولة العثمانية.
السكان:
يقدر عدد السكان في آخر فترة قبل الإسلام ما بين 12- 25 ألف نسمة على امتداد المنطقة، ولما هاجر المسلمون الأوائل من مكة إلى المدينة تغيرت المعادلة السكانية، ومرت بمراحل مدّ وجزر، إذ وفدت إليها مجموعات قبلية وأفراد من مكة والبادية، وكان r قد أجلى عنها من بقي من اليهود، وقدّر عدد سكانها أيام وفاة رسول اللهr بنحو ثلاثين ألفاً.
وبعد ذلك تقلب عدد سكان المدينة بين زيادة ونقص، تبعاً للأحوال الأمنية والاقتصادية، ولكنه هبط في أوائل القرن العاشر الهجري إلى ثلاثة آلاف تقريباً، ثم ازداد في العهد العثماني، ووصل في القرن الثالث عشر إلى عشرين ألف نسمة تقريباً
وفي القرن الرابع عشر الهجري ازدهرت المدينة عندما وصلها الخط الحديدي الحجازي، ووصل سكانها إلى ثمانين ألفاً، لكنه عاد وانخفض انخفاضاً حاداً عندما قامت الحرب العالمية الأولى، وأُجبر معظم أهلها على الخروج منها، حتى لم يبق فيها من أهلها إلا العشرات بسبب الصراع بين العثمانيين والهاشميين.
وعندما بدأ العهد السعودي أخذت المدينة في النمو والازدهار، وارتفع عدد السكان تدريجياً، وعاد إليها كثيرون من أهلها المهاجرين، ووصل العدد في عام 1391هـ/1971 إلى 137 ألف نسمة، وقد شهدت المدينة المنورة تطوراً وازدهاراً كبيرين في العقود الثلاثة الأخيرة، وتضاعف عدد سكانها عدة أضعاف، فبلغ 608 آلاف نسمة حسب تعداد 1413هـ/1992م، ينتمون إلى قبائل وأعراق مختلفة، بعضهم من أهل المدينة المقيمين فيها منذ قرون طويلة، وبعضهم من الوافدين إليها من أنحاء المملكة، وبعضهم من القادمين إليها من البلاد العربية والإسلامية.
ويتوزع السكان في ثلاث دوائر عمرانية، مركزها المسجد النبوي الشريف، ومحيطها الأخير خلف جبل أحد شمالاً وذي الحليفة (آبار علي) غرباً وسد بطحان جنوباً والعاقول شرقاً.
ونتيجة للتطورات العمرانية توزع السكان على أحياء المدينة وتغيرت الكثافة السكانية فيها، فتضاعفت في الأحياء الداخلية حول المسجد النبوي بسبب إعادة عمران المنطقة، والتوجه نحو توفير مناطق سكنية وتجارية تخدم الزوار فيها، وازدادت في المناطق الآتية: قربان وقباء والحرة الشرقية والحرة الغربية…إلخ، وفي أطراف المدينة مثل آبار علي ومنطقة العاقول ومنطقة سيد الشهداء. وإضافة إلى المقيمين الدائمين في المدينة يفد إليها أعداد كبيرة من الزوار في موسم الحج، وفي بقية السنة لأداء العمرة فيمكثون فيها أياماً وأسابيع قليلة، ثم يعودون إلى بلادهم.
مصطفى الخطيب، صفوح خير