علاء معري ()
Abu al-Alaa al-Ma’ari - Abu al-Alaa al-Ma’ari
أبو العلاء المعري
(363 ـ 449هـ/973ـ 1057م)
أحمد بن عبد الله بن سليمان بن داود بن المُطَّهَر بن زياد بن ربيعة، ينتهي نسبه إلى قضاعة، وعند تيم اللات تجتمع أنساب تنوخ من أهل معرة النعمان. ولد ومات في المعرة بسورية، وأصابه الجدري سنة 367هـ، ونطق بالشعر لما بلغ الحادية عشرة من عمره، وقد أخذ علوم القراءات القرآنية بإسناد عن الشيوخ، كما تعلم الحديث في سن مبكرة، ورحل إلى بغداد سنة 398هـ، وأقام فيها سنة وسبعة أشهر، ثم قفل عائداً إلى بلده، فلزم بيته، وأغلق عليه بابه فلم يسمح لغير طلاب العلم بمخالطته. وسلوكه هذا يشير إلى إخفاق الرحلة التي لم يعد منها بشيء، كان متوقد الذهن قوي الذاكرة يحفظ لغات العجم التي يسمعها من غير فهم معانيها، فكأن نعمة البصر تحولت طاقتها إلى قوة الحافظة، فكان عجيب الحفظ والفهم، يؤكد ذلك ماحكاه تلميذه أبو زكريا التبريزي من أنه رأى بعض جيرانه في مسجد معرة النعمان، وكان يقرأ بعض تصانيف أبي العلاء عليه، فتغير من الفرح، فأحس أبو العلاء بذلك من غير أن يرى وجهه، فأخبره الخبر، فأذن له بمخاطبة قريبه، فكلمه بلسان الأذرية ـ نسبة إلى أذربيجان ـ فأعاد أبو العلاء عليه الحديث بلسانهم من غير أن يفهم منه شيئاً.
وهو من أسرة علمٍ تسنمت به قبة القضاء والفتيا على المذهب الشافعي مدة طويلة بين حمص ومعرة النعمان. قال ياقوت الحموي فيه: «كان غزيرَ الفضلِ، شائعَ الذكرِ، وافر العلمِ، غاية الفهمِ، عالماً باللغةِ، حاذقاً بالنحوِ، جَيّدَ الشعرِ، جزلَ الكلامِ. شُهرتُهُ تُغني عن صفته، وفضله ينطقُ بسجيته».
فأبو العلاء ـ عند ياقوت ـ ذو فضل في مواقفه وعطائه، وصاحب صيت وشهرة بالعلم لغة ونحواً وفلسفة، وذو مهارة بالشعر، وجزالة في الكلام نثراً وشعراً، و في شهرته آية ناطقة بصحة وصفه، وطيب سجيته التي جُبِلَ عليها.
ومن كانت فيه سجايا أبي العلاء المعري، وعمق رؤيته فلابد له من أن يلقى في زمنه كيداً وحسداً، وربما نسبوا إليه ما ليس له، من ذلك وضع الشعر الإلحادي على لسانه، أو نسبة ما يحكيه على لسان غيره إليه، ولو كانت حكاية الرأي المختلف عما يحكيه وارداً في القصيدة نفسها، فإنه ينسب جهلاً أو عمداً إليه، وهو إنما يحاول حكاية الرؤى السائدة في عصره، وقد اتهمه بعض المعاصرين أنه فاطمي، وواقع الأمر خلاف ذلك، فيأتي رجل بعلم عبد الله العلايلي لينسبه إلى غير مذهبه بحجج واهنة في كتابه «المعري ذلك المجهول»، ويتناسى أن أبا العلاء أرسل إليه داعي الدعاة الفاطمي هبة الله الشيرازي برسائل، فقد كان أبو العلاء يجادل داعي الدعاة ويحاوره في رسائل عدة ولايستجيب له، ومات أبو العلاء وهو يراسل داعي الدعاة.
وكان أبو العلاء نفسه كتب رداً على متهميه بالإلحاد أسماه «زجر النابح» أوضح فيه طرائقه الشعرية في عرض آراء الفرق المختلفة، ومقاصده الأصلية من أشعاره. وكشف في كتاب آخر أسماه «الفصول والغايات» عن إيمانه بعذاب القبر والبعث والنشور، وبكل ما له علاقة بعقيدة الأمة فيما يتصل بالغيب.
ألف أبو العلاء كتباً كثيرة بفضل عزلته وغزارة علمه وقوة حافظته وسرعة فهمه، من ذلك رسائله التي تتألف من ثلاثة أقسام، كما يقول ياقوت: «الأول: رسائل طوال تجري مجرى الكتب المصنفة، مثلُ كتاب رسالة الملائكة وكتاب الرسالة السِّندية،ِ جزءٌ، وكتاب رسالة الغُفران، جزءٌ، وكتاب رسالة الفَرض جزء، نحو ذلك (من مثل رسالة الصاهل والشاحج المؤلفة في الأدب الرمزي إذ شبه العلماء الذين يحيطون بالسلاطين بالحصان الصاهل والبغل الشاحج والجمل الحاقد فهم طبقات شتى من الطبائع والعلم).
والثاني رسائل دون هذه في الطُّول، مثل كتاب رسالة المَنِيحِ (سهم من سهام الميسر)، وكتاب رسالة الإغريض (الطلع وكل أبيض طري).
والثالث: كتاب الرسائل القصار، كنحو ما تجري به العادة في المُكاتبةِ (فيه رسائل إلى الأهل والأصدقاء والأدباء والعلماء والقضاة …)، قيل: إنه أربعون جزءاً، وقيل: إنه ثمانمئة كُرَّاسةٍ، وخادم الرسائل، في تفسير ما تضمنته هذه الرسائل (أي من غريب اللغة) …».
ومن كتبه أيضاً «نظم السور»، وكتاب «عظات السور»، وكتاب «الراحلة» في ثلاثة أجزاء في تفسير «لزوم ما لا يلزم»، وهو ديوان شعر رتبه على حروف المعجم، يذكر كل حرف من حروف الهجاء سوى الألف، التزم فيه أوزان الخليل كلها، ومنه هذه الأبيات التي ألزم نفسه فيها بالتاء والألف قبل الروي بالباء:
أَقَـرُّوا بـالإلهِ وَأَثْبَـتـُوهُ
وقـالـوا لانَـبيَّ ولا كـتابُ
ووطءُ بناتنا حلٌّ مباحٌ
رويدكُمُ فقد بَطَلَ العتابُ
تمادَوا في العِتاب ولم يتوبوا
ولو سَمعوا صليلَ السيفِ تابوا
فهذه أبيات محكية عن فئة ضئيلة في الأمة ليست من العرب في شيء، ذلك أن العرب ـ كما يقول التوحيدي ـ حَرَّمُوا البنات والأخوات والأمهات من الجاهلية قبل الإسلام، فهو يحكي رأي أناس أعلنوا إسلامهم خوفاً من السيف، وأخفوا عقائدهم، فكأنما وجدوا متنفساً في زمنه فشرعوا بإعلان مثل هذه العقائد. وله كتاب «راحة اللزوم»، شرح فيه غريب لغته نحو مئة كراسة، وكتاب «زجر النابح» يتعلق بلزوم ما لايلزم، أبطل ادعاء خصومه عليه في المشتبه من قوله أو المحكي على لسان بعض الفرق أو المستهدف بعض آرائها بسخرية أو تعريض، وثمة كتاب آخر أسماه «بحر الزجر». ولم يصل إلينا كتاب تفسير لزوم ما لايلزم، وله كتاب آخر في المنظوم اسمه: «استغفر واستغفري» مقداره مئة كراسة فيه نحو عشرة آلاف بيت من شعره على نحو ما وصفه ياقوت، وله ديوان «سقط الزَّند».
وله شعر كثير منه قوله على لسان رجلٍ أسن وضعف عن لبس الدرع:
أَرَاني وَضَعتُ السَّردَ عنِّي وَعَزَّني
جَوادي ولَمْ يَنهضْ إلى الغَزوِ أمثالي
وَقِيدَ بيَ العَوْدُ البطيءُُ وَقِيـلَ لي:
وراءَكَ إنَّ الذئب منك على بــالِ
فأبو العلاء يتحدث عن رجل مسن عجز عن حمل الدرع والخروج إلى القتال، وصار يقود الإبل المسنة الضعاف من أمثاله، ويوصيه أهله الاحتراس من الذئب، فعاد كالأطفال بعد أن كان من الفرسان، فكأن أبا العلاء يعزي نفسه بعد أن أصابه الوهن وبلغت به الأيام ما صارت إليه أحواله، فرأى نفسه في ذلك الفارس المقعد.
وقال أبو العلاء في موضع آخر على لسان بعضهم، كما ورد في شروح «سقط الزند»:
كَـمْ بَـلْـدَةٍ فـارقـتُها ومعاشرٍ
يَذرُونَ مِنْ أسفٍ عليَّ دموعا
وإذا أَضاعتني الخطوب فلنْ أُرَىُ
لِودادِ إخوانِ الصَّفـاءِ مُضيعا
خاللتُ توديـعَ الأصـادقِ للنوى
فمتى أُوَدِّعُ خِــلِّـيَ التوديعا
فهو قد ملَّ الأسفار والترحال وملَّ توديع الناس الذين تعلقوا به مودة جعلتهم يذرفون الدموع لفراقه وكان لهم خِلَّ وفاءٍ وأخا صفاءٍ، وسئم صحبة هذه الحال فاشتاق إلى توديع السفر نفسه ليطمئن إلى حياته.
وأظن الشاعر يجد نفسه في هذا الملل أو يجد فيه بعض تجاربه، وسبب تركه السفر ولزوم بيته. ومن شعره ما يظهر عقيدته في المصائب، وذلك إذ يقول:
جاءَكَ هــذا الحُـزنُ مُسْتَجْدِياً
أَجْـرَكَ فـي الصبر فلا تُجْـِدهِ
سَـلِّـمْ إلـى الـلـهِ فَكُلُّ الذي
سـاءكَ أو سَـرَّكَ مِـن عِنـدِهِ
لا يَعـدمُ الأسـمرُ فـي غـابه
حَـتْـفـاً ولا الأبيضُ في غِمدِهِ
إنَّ الــذي الوَحشـةُ في داره
تـؤنسُـهُ الرحمةُ في لـَحـدِهِ
هذا موقف الرجل من الأحزان والمصائب وهو مبني على التسليم لله عز وجل، فمنه ما قضي للإنسان في هذه الحياة من أقدار من الشر أو الخير، وقدم الشر لموقف الرثاء، ورأى أن حياة القبر ربما كانت أنيسة بالرحمة على خلاف الوحشة التي كانت في الدنيا.
وله كتاب يُعرفُ بـ «الرسالة الحَضِّيَّة»، وكتاب «رسائل المعونة»، وهي رسائل كتبت على ألسن قوم.
وله كتاب اللامع العزيزي في تفسير شعر المتنبي، مقداره مئة وعشرون كراسة. وله كتاب «مثقال العروض»، وكتاب «ملقى السبيل» فيه شعر ونثر، وله «رسالة الغفران» أو الخسران على مذهبه في تضاد لفظ الغفران، وجاءت هذه الرسالة في سياق رد أبي العلاء على رسالة ابن القارح أي علي بن منصور الأديب الحلبي الشيخ الذي خدم آل المغربي بمصر، وتنكر لأبي القاسم المغربي لما وقع في محنته، فهرب إلى مكة، وأرسل رسالة إلى أبي العلاء يعلن فيها براءته من الزندقة (إظهار خلاف ما يبطن) والنفاق والنمائم، ويريد العودة إلى صفاء الإسلام في طوره الأول قبل الخلاف والاختلاف، غير أن أبا العلاء أراد به سخرية مُرَّةً جعلها وسيلة لاستعراض التراث الأدبي اللغوي والشعري، فجعل ابتداء كلامه ترحيباً بتوبة ابن القارح آخذاً الرجل على ظاهره، مضمراً الإشارة إلى ماضيه في الزندقة وإظهار اتباع المذهب الفاطمي، فجعل توبته موضع شك في إدخاله الجنة، ولم يدخل إلا بشفاعة موكب فاطمة ـ رضي الله عنها ـ مما يعني تذكيره بما كان عليه من اعتقاد يبنى على حسن الظن في الظاهر وسوء الباطن، مما جاء يذمه لأبي العلاء، وهل يُصدَّق رجل في توبته، وقد قضى عمره يكذب ويتحرى الكذب، ويعد ويخلف، فكانت جنة الأوهام والخسران، ولذلك جعله يتشوق إلى الجنة بما نعتها من أوصاف أشجارها وخمرها وأباريقها وعسلها وسمكها، وجعل يطل على مجلس من مجالس العلماء الذين سمع بذكرهم يوم عمل لأبي علي الفارسي طلباً لعلوم العربية، فكان بمرآهُ المبرد وابن دريد والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة ويونس بن حبيب والضبي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأحمد بن يحيى ثعلب وسيبويه والكسائي وأبو عبيدة والأصمعي، وينطلق به في الجنة ليرى عجباً، ففيها الأعشى وزهير وعبيد بن الأبرص والنابغتان الذبياني والجعدي، وعدي بن زيد الذي صحبه في رحلة صيد في عرصات الجنة، وعلى أطراف الجنة تبدو الخنساء، وهي تتألم للنار التي تضطرم برأس أخيها صخر لقولها في الدار الفانية فيه (كأنه علمٌ في رأسه نار) على ظاهر اللغة مما يفسد المعنى، وسياقه سياق الهزء والسخرية، وأبعد منها كوخ صغير للحطيئة العبسي، ودونهم الجن وعفاريت الشعراء، وكشف له عن أسباب دخول هؤلاء الشعراء الجنة، ثم يأخذه إلى الجحيم ليرى فيها بشار بن برد وامرأ القيس وعنترة العبسي وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلِّزة ومهلهلاً والشنفرى وسواهم من الخلق، ويعود به مرة أخرى إلى الجنة، ثم يختم الرسالة بإجابات محددة لأسئلة ابن القارح وما ادعاه لأبي العلاء أو لغيره.
تلك رسالة الغفران بنيت برؤية دينية وحملت مشكلات العلماء والشعراء والمغنين والمغنيات والآراء والفرق، إنها رسالة الفن والعلم والخيال والواقع والثنائيات، بناها أبو العلاء لتكون قبراً لابن القارح وأمثاله من الانتهازيين والمتسلقين، وهم نماذج بشرية تتراءى صورها في كل زمان ومكان على اختلاف الأحوال.
وله كتب كثيرة أحصاها عدداً بعض المعاصرين من أمثال محمد سليم الجندي وسواه.
هذا هو أبو العلاء المعري فيلسوف الشعراء وأديب الفلاسفة، لم يكن زنديقاً من زنادقة الإسلام كما تراءى لبعض المؤرخين، بل كان ذا فضل في العلم والأدب والشعر ومواقف الحياة، والله أعلم.
عبد الكريم محمد حسين
Abu al-Alaa al-Ma’ari - Abu al-Alaa al-Ma’ari
أبو العلاء المعري
(363 ـ 449هـ/973ـ 1057م)
أحمد بن عبد الله بن سليمان بن داود بن المُطَّهَر بن زياد بن ربيعة، ينتهي نسبه إلى قضاعة، وعند تيم اللات تجتمع أنساب تنوخ من أهل معرة النعمان. ولد ومات في المعرة بسورية، وأصابه الجدري سنة 367هـ، ونطق بالشعر لما بلغ الحادية عشرة من عمره، وقد أخذ علوم القراءات القرآنية بإسناد عن الشيوخ، كما تعلم الحديث في سن مبكرة، ورحل إلى بغداد سنة 398هـ، وأقام فيها سنة وسبعة أشهر، ثم قفل عائداً إلى بلده، فلزم بيته، وأغلق عليه بابه فلم يسمح لغير طلاب العلم بمخالطته. وسلوكه هذا يشير إلى إخفاق الرحلة التي لم يعد منها بشيء، كان متوقد الذهن قوي الذاكرة يحفظ لغات العجم التي يسمعها من غير فهم معانيها، فكأن نعمة البصر تحولت طاقتها إلى قوة الحافظة، فكان عجيب الحفظ والفهم، يؤكد ذلك ماحكاه تلميذه أبو زكريا التبريزي من أنه رأى بعض جيرانه في مسجد معرة النعمان، وكان يقرأ بعض تصانيف أبي العلاء عليه، فتغير من الفرح، فأحس أبو العلاء بذلك من غير أن يرى وجهه، فأخبره الخبر، فأذن له بمخاطبة قريبه، فكلمه بلسان الأذرية ـ نسبة إلى أذربيجان ـ فأعاد أبو العلاء عليه الحديث بلسانهم من غير أن يفهم منه شيئاً.
وهو من أسرة علمٍ تسنمت به قبة القضاء والفتيا على المذهب الشافعي مدة طويلة بين حمص ومعرة النعمان. قال ياقوت الحموي فيه: «كان غزيرَ الفضلِ، شائعَ الذكرِ، وافر العلمِ، غاية الفهمِ، عالماً باللغةِ، حاذقاً بالنحوِ، جَيّدَ الشعرِ، جزلَ الكلامِ. شُهرتُهُ تُغني عن صفته، وفضله ينطقُ بسجيته».
فأبو العلاء ـ عند ياقوت ـ ذو فضل في مواقفه وعطائه، وصاحب صيت وشهرة بالعلم لغة ونحواً وفلسفة، وذو مهارة بالشعر، وجزالة في الكلام نثراً وشعراً، و في شهرته آية ناطقة بصحة وصفه، وطيب سجيته التي جُبِلَ عليها.
ومن كانت فيه سجايا أبي العلاء المعري، وعمق رؤيته فلابد له من أن يلقى في زمنه كيداً وحسداً، وربما نسبوا إليه ما ليس له، من ذلك وضع الشعر الإلحادي على لسانه، أو نسبة ما يحكيه على لسان غيره إليه، ولو كانت حكاية الرأي المختلف عما يحكيه وارداً في القصيدة نفسها، فإنه ينسب جهلاً أو عمداً إليه، وهو إنما يحاول حكاية الرؤى السائدة في عصره، وقد اتهمه بعض المعاصرين أنه فاطمي، وواقع الأمر خلاف ذلك، فيأتي رجل بعلم عبد الله العلايلي لينسبه إلى غير مذهبه بحجج واهنة في كتابه «المعري ذلك المجهول»، ويتناسى أن أبا العلاء أرسل إليه داعي الدعاة الفاطمي هبة الله الشيرازي برسائل، فقد كان أبو العلاء يجادل داعي الدعاة ويحاوره في رسائل عدة ولايستجيب له، ومات أبو العلاء وهو يراسل داعي الدعاة.
وكان أبو العلاء نفسه كتب رداً على متهميه بالإلحاد أسماه «زجر النابح» أوضح فيه طرائقه الشعرية في عرض آراء الفرق المختلفة، ومقاصده الأصلية من أشعاره. وكشف في كتاب آخر أسماه «الفصول والغايات» عن إيمانه بعذاب القبر والبعث والنشور، وبكل ما له علاقة بعقيدة الأمة فيما يتصل بالغيب.
ألف أبو العلاء كتباً كثيرة بفضل عزلته وغزارة علمه وقوة حافظته وسرعة فهمه، من ذلك رسائله التي تتألف من ثلاثة أقسام، كما يقول ياقوت: «الأول: رسائل طوال تجري مجرى الكتب المصنفة، مثلُ كتاب رسالة الملائكة وكتاب الرسالة السِّندية،ِ جزءٌ، وكتاب رسالة الغُفران، جزءٌ، وكتاب رسالة الفَرض جزء، نحو ذلك (من مثل رسالة الصاهل والشاحج المؤلفة في الأدب الرمزي إذ شبه العلماء الذين يحيطون بالسلاطين بالحصان الصاهل والبغل الشاحج والجمل الحاقد فهم طبقات شتى من الطبائع والعلم).
والثاني رسائل دون هذه في الطُّول، مثل كتاب رسالة المَنِيحِ (سهم من سهام الميسر)، وكتاب رسالة الإغريض (الطلع وكل أبيض طري).
والثالث: كتاب الرسائل القصار، كنحو ما تجري به العادة في المُكاتبةِ (فيه رسائل إلى الأهل والأصدقاء والأدباء والعلماء والقضاة …)، قيل: إنه أربعون جزءاً، وقيل: إنه ثمانمئة كُرَّاسةٍ، وخادم الرسائل، في تفسير ما تضمنته هذه الرسائل (أي من غريب اللغة) …».
ومن كتبه أيضاً «نظم السور»، وكتاب «عظات السور»، وكتاب «الراحلة» في ثلاثة أجزاء في تفسير «لزوم ما لا يلزم»، وهو ديوان شعر رتبه على حروف المعجم، يذكر كل حرف من حروف الهجاء سوى الألف، التزم فيه أوزان الخليل كلها، ومنه هذه الأبيات التي ألزم نفسه فيها بالتاء والألف قبل الروي بالباء:
أَقَـرُّوا بـالإلهِ وَأَثْبَـتـُوهُ
وقـالـوا لانَـبيَّ ولا كـتابُ
ووطءُ بناتنا حلٌّ مباحٌ
رويدكُمُ فقد بَطَلَ العتابُ
تمادَوا في العِتاب ولم يتوبوا
ولو سَمعوا صليلَ السيفِ تابوا
فهذه أبيات محكية عن فئة ضئيلة في الأمة ليست من العرب في شيء، ذلك أن العرب ـ كما يقول التوحيدي ـ حَرَّمُوا البنات والأخوات والأمهات من الجاهلية قبل الإسلام، فهو يحكي رأي أناس أعلنوا إسلامهم خوفاً من السيف، وأخفوا عقائدهم، فكأنما وجدوا متنفساً في زمنه فشرعوا بإعلان مثل هذه العقائد. وله كتاب «راحة اللزوم»، شرح فيه غريب لغته نحو مئة كراسة، وكتاب «زجر النابح» يتعلق بلزوم ما لايلزم، أبطل ادعاء خصومه عليه في المشتبه من قوله أو المحكي على لسان بعض الفرق أو المستهدف بعض آرائها بسخرية أو تعريض، وثمة كتاب آخر أسماه «بحر الزجر». ولم يصل إلينا كتاب تفسير لزوم ما لايلزم، وله كتاب آخر في المنظوم اسمه: «استغفر واستغفري» مقداره مئة كراسة فيه نحو عشرة آلاف بيت من شعره على نحو ما وصفه ياقوت، وله ديوان «سقط الزَّند».
وله شعر كثير منه قوله على لسان رجلٍ أسن وضعف عن لبس الدرع:
أَرَاني وَضَعتُ السَّردَ عنِّي وَعَزَّني
جَوادي ولَمْ يَنهضْ إلى الغَزوِ أمثالي
وَقِيدَ بيَ العَوْدُ البطيءُُ وَقِيـلَ لي:
وراءَكَ إنَّ الذئب منك على بــالِ
فأبو العلاء يتحدث عن رجل مسن عجز عن حمل الدرع والخروج إلى القتال، وصار يقود الإبل المسنة الضعاف من أمثاله، ويوصيه أهله الاحتراس من الذئب، فعاد كالأطفال بعد أن كان من الفرسان، فكأن أبا العلاء يعزي نفسه بعد أن أصابه الوهن وبلغت به الأيام ما صارت إليه أحواله، فرأى نفسه في ذلك الفارس المقعد.
وقال أبو العلاء في موضع آخر على لسان بعضهم، كما ورد في شروح «سقط الزند»:
كَـمْ بَـلْـدَةٍ فـارقـتُها ومعاشرٍ
يَذرُونَ مِنْ أسفٍ عليَّ دموعا
وإذا أَضاعتني الخطوب فلنْ أُرَىُ
لِودادِ إخوانِ الصَّفـاءِ مُضيعا
خاللتُ توديـعَ الأصـادقِ للنوى
فمتى أُوَدِّعُ خِــلِّـيَ التوديعا
فهو قد ملَّ الأسفار والترحال وملَّ توديع الناس الذين تعلقوا به مودة جعلتهم يذرفون الدموع لفراقه وكان لهم خِلَّ وفاءٍ وأخا صفاءٍ، وسئم صحبة هذه الحال فاشتاق إلى توديع السفر نفسه ليطمئن إلى حياته.
وأظن الشاعر يجد نفسه في هذا الملل أو يجد فيه بعض تجاربه، وسبب تركه السفر ولزوم بيته. ومن شعره ما يظهر عقيدته في المصائب، وذلك إذ يقول:
جاءَكَ هــذا الحُـزنُ مُسْتَجْدِياً
أَجْـرَكَ فـي الصبر فلا تُجْـِدهِ
سَـلِّـمْ إلـى الـلـهِ فَكُلُّ الذي
سـاءكَ أو سَـرَّكَ مِـن عِنـدِهِ
لا يَعـدمُ الأسـمرُ فـي غـابه
حَـتْـفـاً ولا الأبيضُ في غِمدِهِ
إنَّ الــذي الوَحشـةُ في داره
تـؤنسُـهُ الرحمةُ في لـَحـدِهِ
هذا موقف الرجل من الأحزان والمصائب وهو مبني على التسليم لله عز وجل، فمنه ما قضي للإنسان في هذه الحياة من أقدار من الشر أو الخير، وقدم الشر لموقف الرثاء، ورأى أن حياة القبر ربما كانت أنيسة بالرحمة على خلاف الوحشة التي كانت في الدنيا.
وله كتاب يُعرفُ بـ «الرسالة الحَضِّيَّة»، وكتاب «رسائل المعونة»، وهي رسائل كتبت على ألسن قوم.
وله كتاب اللامع العزيزي في تفسير شعر المتنبي، مقداره مئة وعشرون كراسة. وله كتاب «مثقال العروض»، وكتاب «ملقى السبيل» فيه شعر ونثر، وله «رسالة الغفران» أو الخسران على مذهبه في تضاد لفظ الغفران، وجاءت هذه الرسالة في سياق رد أبي العلاء على رسالة ابن القارح أي علي بن منصور الأديب الحلبي الشيخ الذي خدم آل المغربي بمصر، وتنكر لأبي القاسم المغربي لما وقع في محنته، فهرب إلى مكة، وأرسل رسالة إلى أبي العلاء يعلن فيها براءته من الزندقة (إظهار خلاف ما يبطن) والنفاق والنمائم، ويريد العودة إلى صفاء الإسلام في طوره الأول قبل الخلاف والاختلاف، غير أن أبا العلاء أراد به سخرية مُرَّةً جعلها وسيلة لاستعراض التراث الأدبي اللغوي والشعري، فجعل ابتداء كلامه ترحيباً بتوبة ابن القارح آخذاً الرجل على ظاهره، مضمراً الإشارة إلى ماضيه في الزندقة وإظهار اتباع المذهب الفاطمي، فجعل توبته موضع شك في إدخاله الجنة، ولم يدخل إلا بشفاعة موكب فاطمة ـ رضي الله عنها ـ مما يعني تذكيره بما كان عليه من اعتقاد يبنى على حسن الظن في الظاهر وسوء الباطن، مما جاء يذمه لأبي العلاء، وهل يُصدَّق رجل في توبته، وقد قضى عمره يكذب ويتحرى الكذب، ويعد ويخلف، فكانت جنة الأوهام والخسران، ولذلك جعله يتشوق إلى الجنة بما نعتها من أوصاف أشجارها وخمرها وأباريقها وعسلها وسمكها، وجعل يطل على مجلس من مجالس العلماء الذين سمع بذكرهم يوم عمل لأبي علي الفارسي طلباً لعلوم العربية، فكان بمرآهُ المبرد وابن دريد والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة ويونس بن حبيب والضبي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأحمد بن يحيى ثعلب وسيبويه والكسائي وأبو عبيدة والأصمعي، وينطلق به في الجنة ليرى عجباً، ففيها الأعشى وزهير وعبيد بن الأبرص والنابغتان الذبياني والجعدي، وعدي بن زيد الذي صحبه في رحلة صيد في عرصات الجنة، وعلى أطراف الجنة تبدو الخنساء، وهي تتألم للنار التي تضطرم برأس أخيها صخر لقولها في الدار الفانية فيه (كأنه علمٌ في رأسه نار) على ظاهر اللغة مما يفسد المعنى، وسياقه سياق الهزء والسخرية، وأبعد منها كوخ صغير للحطيئة العبسي، ودونهم الجن وعفاريت الشعراء، وكشف له عن أسباب دخول هؤلاء الشعراء الجنة، ثم يأخذه إلى الجحيم ليرى فيها بشار بن برد وامرأ القيس وعنترة العبسي وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلِّزة ومهلهلاً والشنفرى وسواهم من الخلق، ويعود به مرة أخرى إلى الجنة، ثم يختم الرسالة بإجابات محددة لأسئلة ابن القارح وما ادعاه لأبي العلاء أو لغيره.
تلك رسالة الغفران بنيت برؤية دينية وحملت مشكلات العلماء والشعراء والمغنين والمغنيات والآراء والفرق، إنها رسالة الفن والعلم والخيال والواقع والثنائيات، بناها أبو العلاء لتكون قبراً لابن القارح وأمثاله من الانتهازيين والمتسلقين، وهم نماذج بشرية تتراءى صورها في كل زمان ومكان على اختلاف الأحوال.
وله كتب كثيرة أحصاها عدداً بعض المعاصرين من أمثال محمد سليم الجندي وسواه.
هذا هو أبو العلاء المعري فيلسوف الشعراء وأديب الفلاسفة، لم يكن زنديقاً من زنادقة الإسلام كما تراءى لبعض المؤرخين، بل كان ذا فضل في العلم والأدب والشعر ومواقف الحياة، والله أعلم.
عبد الكريم محمد حسين