عوام اشبيلي ()
Ibn al-Awam al-Ishbili - Ibn al-Awam al-Ishbili
ابن العوام الإشبيلي
(…ـ نحو عام 580هـ/… ـ نحو 1184م)
أبو زكريا، يحيى بن محمد بن محمد بن أحمد بن العوام الإشبيلي الأندلسي، عالم بالنبات والفلاحة، ومهندس ري.
ولد في مدينة العلم والفن إشبيلية، عروس بلاد الأندلس في القرن السادس الهجري، وبها نشأ وتعلم. وأخذ عن علماء عصره وشيوخه جميع العلوم المختلفة، التي كانت منتشرة يومئذٍ، كما شغف في دراسة العلوم الزراعية والنباتية، وزاد في شغفه أن كانت إشبيلية تمتاز بوفرة خصبها ونضرتها، يخترقها نهر الوادي الكبير فينشر الجمال والخضرة في بساتينها وحدائقها، ويطل عليها جبل الشرف الغني بالأشجار المثمرة.
كان يرى أن علم الزراعة فن من الفنون المهمة لحياة الفرد، ولذلك تبحر في دراسة هذا العلم، وأدلى بدلوه فيه، حتى ذاع صيته في الأوساط العلمية، ونال شهرة عظيمة، وخاصة عندما وضع كتابه «الفلاحة الأندلسية»، كما وضع «رسالة في تربية الكروم».
اطلع ابن العوام على علوم كثيرة ساعدته على التأليف والتصنيف، فمن المؤكد أنه اطلع على علم الفلك والكيمياء والطبيعة والنبات وغيرها من العلوم، ولعل فصول كتابه الخمسة الأخيرة التي تحدث فيها عن تربية المواشي والدواجن والطيور ونحل العسل، وحديثه عن الفصول الموافقة للتلاقح والأعلاف ومعالجة الأمراض التي تصيبها، تدل على أنه كان على علم واسع في علم البيطرة أيضاً.
ويبدو متعذراً ذكر أسماء الشيوخ الذين درس عليهم، ولكنه بلا شك قد اطلع على كثير من مؤلفات الفلاحة العربية وغير العربية في مجال الفلاحة والعلوم الأخرى، حتى بلغ مجموع ما ذكرهم ما يزيد على المئة، وقد اعتمد على ما كان يقوم به من تجارب على جبل الشرف بإشبيلية، وما سجله من ملاحظات علمية، وهذا قلما يُلاحظه عند باقي علماء الفلاحة من العرب أو غيرهم؛ فقد كانت كتبهم تعتمد على ما ينقلونه أو يسمعونه. كذلك كان بحق من العلماء الذين انتهجوا الأسلوب العلمي والتطبيقي في علوم الفلاحة، بل إن كتاب «الفلاحة» هو الكتاب الموسوعي الوحيد في العلوم الفلاحية الذي وصل إلينا، وفيه نظريات زراعية عدة، إضافة إلى تجارب قام بها في إشبيلية.
كتب كتاب «الفلاحة الأندلسية» في سفرين، وقد عرض فيهما مختلف علوم الفلاحة وبصيغة شمولية وعلمية. قال عنهما: «ضمنت الأول منهما معرفة اختيار الأرضين والمياه وصفة العمل في الغراسة والتركيب…، وضمنت السفر الثاني الزراعة وما إليها وفلاحة الحيوان». وقدم لكتابه بمقدمة طويلة مهمة ضمنها بعض الأحاديث النبوية الشريفة فيما يخص الزراعة والزرع، كما ذكر بعض الأقوال المأثورة والحكم التي تتعلق بالفلاحة. كما أفرد للجزء الأول (السفر الأول) من كتابه (16) باباً اختصت في علم التربة والتسميد والري وعلم البستنة والتقويم الزراعي وتأثير العوامل البيئية في الزراعة وفي تربية النبات، أما الجزء الثاني (السفر الثاني) فيضم (19) باباً اختصت في أهمية الطاقة الشمسية لإصلاح الأرض والزرع وعلم المحاصيل الحقلية والخضر ونباتات الحدائق والزينة ووقاية المزروعات ومكافحة الآفات وعلوم الإنتاج الحيواني والصحة الحيوانية (علم البيطرة).
إن غنى كتاب «الفلاحة الأندلسية» يجعل من الصعب تلخيص مضمونه، وفيما يآتي مجمل المنهج العلمي الذي اتبعه ابن العوام في كتابه:
ـ قصد الجمع بين التبحر العلمي في المصادر القديمة التي سبقته، وبين المعارف العملية التطبيقية التي استقاها من تجاربه الخاصة، ولذلك قدّم وصفاً دقيقاً لأكثر من (585) طريقة زراعة لنباتات مختلفة، منها (55) طريقة تتعلق بالأشجار المثمرة. وهذا ما قاده إلى تعرف أطوار نمو النباتات وصفاتها، ولهذا لم يتردد «ماكس مايرهوف» في التصريح بأن هذا الكتاب ينبغي أن يعد أحسن الكتب العربية في العلوم الطبيعية، وخاصة علم النبات.
ـ عالج الأمور الزراعيةً بأسلوب سهل جذاب وتنسيق علمي، لاتمل قراءته.
ـ اتسم بالأمانة العلمية في العرض والاستشهاد بأقوال غيره.
ـ كان ينبّه مراراً على التجارب العلمية التي أجراها بنفسه في جبل الشرف، وقد توصل إلى نظريات جديدة لم يأت ذكرها في الكتب الزراعية القديمة، وكثيراً ماكان يشير إلى المنطقة التي أجرى فيها تجاربه الزراعية، نحو: «زرعت حبة الصحاح في الشرف» و«أما في جبل الشرف فما رأيت قط شجرة تين بين غرس في كرم»، إلى غير ذلك. «ولم أثبت فيه شيئاً من رأي إلا ما جربته مراراً فصحَّ».
ـ يعدّ أول من عرف وحدد التربة على أساس نوعها، والنباتات التي تختص بتربة من دون غيرها، وهذا ما يسمى في عرف العلم الحديث «أن النباتات كواشف للبيئة».
ـ استعمل مسميات ومصطلحات علمية عربية لمدة ذكرها في كتابه، وأغلب هذه المصطلحات غفل عنها كثير من العلماء الذين سبقوه.
ـ ما قدمه في كتابه نابع من البيئة الأندلسية، والمنهج العلمي الذي اتبعه يتلاءم مع هذه البيئة، والمعايير التي استعملها في تبويب كتابه، وتصنيف النباتات التي تتفق مع ظروف البيئة الأندلسية كلها ذات منهج علمي أصيل.
ـ تمكن من استنباط طرق عدة تُنَجّح ما يبكر بزراعته، ومن أبرز هذه الطرق استعمال «المشارق المكنة» و«البيوت المكنة» التي ليست عند التأمل والتدقيق فيها إلا صورة سابقة للبيوت البلاستيكية اليوم.
ـ يعدّ أول من ابتكر طريقة الري بالتنقيط المنتشرة اليوم، وخاصة في المنطقة العربية، وذلك بغية توفير كمية مياه الري، وقد سمى هذه الطريقة باسم «طريقة الري بواسطة الجرار»؛ وذلك لأنه استخدم في تطبيقها جِراراً فخارية صغيرة ثبتها داخل التربة بجانب جذوع الأشجار، بحيث تصل المياه للشجرة نقطة نقطة. وقد عوضت الجرار الفخارية بالمواد البلاستيكية، وهذه الطريقة توفر أكثر من (70%) من المياه اللازمة للزراعة.
يمكن ملاحظة أسس المدرسة العربية في الفلاحة في هذا الكتاب، بل يمكن القول إن ما كتبه ابن العوام في كتابه «الفلاحة» ما هو إلا فصول دراسية شملت مختلف العلوم الزراعية، وهذه الأسس المنهجية في الدراسة مازالت متبعة في الدراسة الجامعية في الجامعات الغربية والشرقية، فكانت بحق مناهج دراسية لنيل المعرفة في الفلاحة والاختصاص، مما ساعد على تقدم الفلاحة ليس في الأندلس وحسب، ولكن في العالم الغربي أيضاً، ولذلك ترجم الكتاب إلى لغات عالمية عدة.
يعد ابن العوام قدوة لكبار العلماء الذين ذاع صيتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وفي ذلك يقول المستشرق الفرنسي لوسيان لوكلير L. Leclerc: «ابن العوام كان عملاقاً في حقل الفلاحة، فقد قدم للإنسانية من المعارف التطبيقية ما تحتاج إليه».
محمد هشام النعسان
Ibn al-Awam al-Ishbili - Ibn al-Awam al-Ishbili
ابن العوام الإشبيلي
(…ـ نحو عام 580هـ/… ـ نحو 1184م)
أبو زكريا، يحيى بن محمد بن محمد بن أحمد بن العوام الإشبيلي الأندلسي، عالم بالنبات والفلاحة، ومهندس ري.
ولد في مدينة العلم والفن إشبيلية، عروس بلاد الأندلس في القرن السادس الهجري، وبها نشأ وتعلم. وأخذ عن علماء عصره وشيوخه جميع العلوم المختلفة، التي كانت منتشرة يومئذٍ، كما شغف في دراسة العلوم الزراعية والنباتية، وزاد في شغفه أن كانت إشبيلية تمتاز بوفرة خصبها ونضرتها، يخترقها نهر الوادي الكبير فينشر الجمال والخضرة في بساتينها وحدائقها، ويطل عليها جبل الشرف الغني بالأشجار المثمرة.
كان يرى أن علم الزراعة فن من الفنون المهمة لحياة الفرد، ولذلك تبحر في دراسة هذا العلم، وأدلى بدلوه فيه، حتى ذاع صيته في الأوساط العلمية، ونال شهرة عظيمة، وخاصة عندما وضع كتابه «الفلاحة الأندلسية»، كما وضع «رسالة في تربية الكروم».
اطلع ابن العوام على علوم كثيرة ساعدته على التأليف والتصنيف، فمن المؤكد أنه اطلع على علم الفلك والكيمياء والطبيعة والنبات وغيرها من العلوم، ولعل فصول كتابه الخمسة الأخيرة التي تحدث فيها عن تربية المواشي والدواجن والطيور ونحل العسل، وحديثه عن الفصول الموافقة للتلاقح والأعلاف ومعالجة الأمراض التي تصيبها، تدل على أنه كان على علم واسع في علم البيطرة أيضاً.
ويبدو متعذراً ذكر أسماء الشيوخ الذين درس عليهم، ولكنه بلا شك قد اطلع على كثير من مؤلفات الفلاحة العربية وغير العربية في مجال الفلاحة والعلوم الأخرى، حتى بلغ مجموع ما ذكرهم ما يزيد على المئة، وقد اعتمد على ما كان يقوم به من تجارب على جبل الشرف بإشبيلية، وما سجله من ملاحظات علمية، وهذا قلما يُلاحظه عند باقي علماء الفلاحة من العرب أو غيرهم؛ فقد كانت كتبهم تعتمد على ما ينقلونه أو يسمعونه. كذلك كان بحق من العلماء الذين انتهجوا الأسلوب العلمي والتطبيقي في علوم الفلاحة، بل إن كتاب «الفلاحة» هو الكتاب الموسوعي الوحيد في العلوم الفلاحية الذي وصل إلينا، وفيه نظريات زراعية عدة، إضافة إلى تجارب قام بها في إشبيلية.
كتب كتاب «الفلاحة الأندلسية» في سفرين، وقد عرض فيهما مختلف علوم الفلاحة وبصيغة شمولية وعلمية. قال عنهما: «ضمنت الأول منهما معرفة اختيار الأرضين والمياه وصفة العمل في الغراسة والتركيب…، وضمنت السفر الثاني الزراعة وما إليها وفلاحة الحيوان». وقدم لكتابه بمقدمة طويلة مهمة ضمنها بعض الأحاديث النبوية الشريفة فيما يخص الزراعة والزرع، كما ذكر بعض الأقوال المأثورة والحكم التي تتعلق بالفلاحة. كما أفرد للجزء الأول (السفر الأول) من كتابه (16) باباً اختصت في علم التربة والتسميد والري وعلم البستنة والتقويم الزراعي وتأثير العوامل البيئية في الزراعة وفي تربية النبات، أما الجزء الثاني (السفر الثاني) فيضم (19) باباً اختصت في أهمية الطاقة الشمسية لإصلاح الأرض والزرع وعلم المحاصيل الحقلية والخضر ونباتات الحدائق والزينة ووقاية المزروعات ومكافحة الآفات وعلوم الإنتاج الحيواني والصحة الحيوانية (علم البيطرة).
إن غنى كتاب «الفلاحة الأندلسية» يجعل من الصعب تلخيص مضمونه، وفيما يآتي مجمل المنهج العلمي الذي اتبعه ابن العوام في كتابه:
ـ قصد الجمع بين التبحر العلمي في المصادر القديمة التي سبقته، وبين المعارف العملية التطبيقية التي استقاها من تجاربه الخاصة، ولذلك قدّم وصفاً دقيقاً لأكثر من (585) طريقة زراعة لنباتات مختلفة، منها (55) طريقة تتعلق بالأشجار المثمرة. وهذا ما قاده إلى تعرف أطوار نمو النباتات وصفاتها، ولهذا لم يتردد «ماكس مايرهوف» في التصريح بأن هذا الكتاب ينبغي أن يعد أحسن الكتب العربية في العلوم الطبيعية، وخاصة علم النبات.
ـ عالج الأمور الزراعيةً بأسلوب سهل جذاب وتنسيق علمي، لاتمل قراءته.
ـ اتسم بالأمانة العلمية في العرض والاستشهاد بأقوال غيره.
ـ كان ينبّه مراراً على التجارب العلمية التي أجراها بنفسه في جبل الشرف، وقد توصل إلى نظريات جديدة لم يأت ذكرها في الكتب الزراعية القديمة، وكثيراً ماكان يشير إلى المنطقة التي أجرى فيها تجاربه الزراعية، نحو: «زرعت حبة الصحاح في الشرف» و«أما في جبل الشرف فما رأيت قط شجرة تين بين غرس في كرم»، إلى غير ذلك. «ولم أثبت فيه شيئاً من رأي إلا ما جربته مراراً فصحَّ».
ـ يعدّ أول من عرف وحدد التربة على أساس نوعها، والنباتات التي تختص بتربة من دون غيرها، وهذا ما يسمى في عرف العلم الحديث «أن النباتات كواشف للبيئة».
ـ استعمل مسميات ومصطلحات علمية عربية لمدة ذكرها في كتابه، وأغلب هذه المصطلحات غفل عنها كثير من العلماء الذين سبقوه.
ـ ما قدمه في كتابه نابع من البيئة الأندلسية، والمنهج العلمي الذي اتبعه يتلاءم مع هذه البيئة، والمعايير التي استعملها في تبويب كتابه، وتصنيف النباتات التي تتفق مع ظروف البيئة الأندلسية كلها ذات منهج علمي أصيل.
ـ تمكن من استنباط طرق عدة تُنَجّح ما يبكر بزراعته، ومن أبرز هذه الطرق استعمال «المشارق المكنة» و«البيوت المكنة» التي ليست عند التأمل والتدقيق فيها إلا صورة سابقة للبيوت البلاستيكية اليوم.
ـ يعدّ أول من ابتكر طريقة الري بالتنقيط المنتشرة اليوم، وخاصة في المنطقة العربية، وذلك بغية توفير كمية مياه الري، وقد سمى هذه الطريقة باسم «طريقة الري بواسطة الجرار»؛ وذلك لأنه استخدم في تطبيقها جِراراً فخارية صغيرة ثبتها داخل التربة بجانب جذوع الأشجار، بحيث تصل المياه للشجرة نقطة نقطة. وقد عوضت الجرار الفخارية بالمواد البلاستيكية، وهذه الطريقة توفر أكثر من (70%) من المياه اللازمة للزراعة.
يمكن ملاحظة أسس المدرسة العربية في الفلاحة في هذا الكتاب، بل يمكن القول إن ما كتبه ابن العوام في كتابه «الفلاحة» ما هو إلا فصول دراسية شملت مختلف العلوم الزراعية، وهذه الأسس المنهجية في الدراسة مازالت متبعة في الدراسة الجامعية في الجامعات الغربية والشرقية، فكانت بحق مناهج دراسية لنيل المعرفة في الفلاحة والاختصاص، مما ساعد على تقدم الفلاحة ليس في الأندلس وحسب، ولكن في العالم الغربي أيضاً، ولذلك ترجم الكتاب إلى لغات عالمية عدة.
يعد ابن العوام قدوة لكبار العلماء الذين ذاع صيتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وفي ذلك يقول المستشرق الفرنسي لوسيان لوكلير L. Leclerc: «ابن العوام كان عملاقاً في حقل الفلاحة، فقد قدم للإنسانية من المعارف التطبيقية ما تحتاج إليه».
محمد هشام النعسان