عساكر (علي حسن، )
bn Assaker (Ali ibn al-Hassan-) - Ibn Assaker (Ali ibn al-Hassan-)
ابن عساكر (علي بن الحسن ـ)
(499 ـ 571هـ/1105ـ 1176م)
أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين ثقة الدين، ناصر السنة، ابن عساكر الدمشقي، المؤرخ الحافظ الرحالة، كان محدّث الديار الشامية ورفيق السمعاني (صاحب الأنساب) في رحلاته.
وُلِدَ بدمشق في بيئة علمية ساعدته على تفتح ذهنه، فأبوه الحسن هبة الله أبو محمد الشافعي كان شيخاً تقياً ورعاً محباً للعلم، وأخوه الأكبر الصائن هبة الله بن الحسن كان فقيهاً ثقة بعلوم القرآن والنحو واللغة، وأخوه الأصغر الأمين محمد بن الحسن كان قاضياً صالحاً عدلاً. أما أمه فهي أم القاسم بنت أبي الفضل يحيى بن علي بن عبد العزيز القرشي، وهو بيت عربي عُرف بالعلم، وينتهي نسبه إلى بني أمية، وكان منه قضاة دمشق مدة طويلة، وكان جده لأمه وخالاه محمد وسلطان من قضاة دمشق الورعيين والفقهاء الصالحين.
وحين كان المسجد الأموي أعظم مركز للعلم تعقد فيه حلقات الإقراء والتدريس والحديث والوعظ، اختلف ابن عساكر إليه يتلقى فيه العلم، وسمع إلى أبي الحسن السلمي في المدرسة الشافعية الأمينية، وإلى نصر المقدسي في الزاوية الغزالية للشافعية، وقرأ «تلخيص المتشابه» للخطيب البغدادي و«دلائل النبوه» للبيهقي و«موطأ مالك». وتلك أهم المراكز التي كان الحافظ يتلقى فيها العلم في حداثته، وظل كذلك حتى وفاة والده سنه 519هـ، عزم بعدها على الرحيل طلباً للحديث، فيمم وجهه شطر بغداد سنه 520هـ، وأقام فيها سنة واحدةً، ثم خرج للحج عن طريق دمشق، وسمع مما لقي من العلماء بمكة والمدينة ومنى، ثم عاد بعدها إلى العراق، واستمر بقاؤه بها خمس سنوات. واستمع فيها إلى الدرس في النظامية على أبي سعد الكرماني، وأبي القاسم ابن الحصين، وأبي الحسين الدينوري.
ثم تطوَّف في مدن العراق وما حولها، فهبط إلى الكوفة، وصعد إلى الموصل والجزيرة وماردين، ثم عاد إلى بغداد يحدث بها، وظهر فضله وشاع ذكره. كانت رحلته هذه من أنشط رحلاته، قرأ فيها «الطبقات الكبرى» لابن سعد و«المغازي» للواقدي وسيرة ابن إسحاق و«طبقات فحول الشعر» لمحمد بن سلام الجمحي، عاد بعدها إلى دمشق سنه 525هـ ليأخذ فيها عن شيوخ آخرين، وبقي فيها إلى 529هـ، رزق في أثنائها ابنه القاسم 527هـ من زوجته عائشة بنت علي الخضر أم عبد الله السلمية، ثم كانت رحلته الثانية إلى خراسان ومدنها المهمة، وأقام في أصبهان سنةً كاملة بصحبة الإمام محمد الفراوي ثم فارقه إلى هراة، ومضى في رحلته ملتقياً بالعلماء والفقهاء والمحدثين والأدباء، وأخذ عن النساء كما أخذ عن الرجال. دامت رحلته الثانية أربع سنوات قاسية ومتعبة حتى 533هـ.
وذكَرَ السمعاني عبد الكريم بن أحمد رفيقه في رحلاته أنه التقى الحافظ في نيسابور 529هـ، وقد شرع حينئذٍ في كتابة تاريخه الكبير لدمشق.
عاد إلى دمشق بعد أن لقي شيوخ دمشق والعراق والحجاز والجزيرة وخراسان، وشرع يحدث، وتبدأ هنا حقبة خصبة في حياته تمتد قرابة أربعين عاماً انصرف فيها إلى الجمع والتصنيف والرواية والتأليف والمطالعة والتسميع. أعرض عن طلب المناصب وتحصيل الديار والأملاك، فسار ذكره، واشْتُهِرَ أمره فرحل إليه الطلبة، وانتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان وأصبح إمام المحدثين في وقته.
بلغ عدد شيوخه ألفاً وثلاثمئة شيخ وثمانين امرأةً. يتضمن ثَبَتُ الكتب التي نقلها ياقوت الحموي عنه ما يزيد على الستين كتاباً، والقاسم هو الذي أظهر كتب أبيه وتولى إسماعها بالجامع الأموي بدمشق ودار الحديث النورية.
إذا استثني تاريخ دمشق فإن سائر مؤلفاته في الحديث، وبعضها في الفضائل، كفضائل العشرة وأخبار الأوزاعي وفضائله، وفضل قريش، وأهل البيت والأنصار، والأشعريين، بيت المقدس، ومكة ومقام إبراهيم والمدينة وفضائل الشهور كفضل عاشوراء ومحرم وشعبان وفضل الكرام، وفضل الجهاد؛ الذي وضعه استجابة لرغبة الملك العادل نور الدين الزنكي لحث الناس على الجهاد واسترداد بيت المقدس من الصليبين، وكتاب «أربعون حديثاً عن أربعين شيخاً من أربعين مدينةً».
وقد عني بجمع أحاديث معظم قرى الغوطة كالمِزَّة وكفرسوسية ودومة ومسرابا وحرستا وجوبر، وقد انتصر للأشعري ومذهبه فألف كتابه «التبيين في كذب المفتري على الإمام الأشعري»، وهذا من أكثر كتبه شأناً، لأنه ذكر فيه تراجم شيوخ رآهم وسمـع عنهم، وأبان رأيه فيهم.
يقول ابن خلكان: «ما أظن هذا الرجل (ابن عساكر) إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه. وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع الإنسان مثل هذا الكتاب».
نفعته صفاته العلمية والدينية على بزِّ أقرانه، لقد تفنن في الترجمة للناس والعرض لأخبارهم وشعرهم ونثرهم، وقد جمعه على شرط المحدثين بالسند والرواية ولاشك في أن تاريخ دمشق كنز عظيم من كنوز الأجداد عجز الجماعة عن وضع مثله. أمضى حياته في كتابة تاريخه، ولم يكتمل تأليفه وجمعه إلا بعد أن كلَّ بصره وضعف جسمه، وتكاثرت عليه الأسقام، وجاء صوت السلطان نور الدين الذي عاصره طوال عشرين عاماً (549 ـ 569هـ) مجدداً لهمته، مقوياً لعزيمته، وكان له منه الإكرام والإجلال، وبنى له دار الحديث النورية ليتفرغ فيها للدرس والكتابة، وإنهاء تأليف تاريخه وجمعه، فكان هذا العمل الجبار الذي صبَّ فيه خلاصة عقول خمسة قرون من عمر الحضارة العربية.
يتألف تاريخ دمشق من سبعة وخمسين مجلداً حقق بعض أجزائه مجمع اللغة العربية بدمشق، وهو أقرب ما يكون إلى موسوعة بالمعارف.
سمع القاسم المجلد الأول على أبيه سنه 559هـ والمجلد السابع والخمسين سنه 565هـ، وبذلك تكون سنه 565هـ هي السنة التي أتم فيها تأليف تاريخه وصقله، والمجلد الأخير الذي وصل إلينا هو ترجمته للنساء. يقول الحافظ ابن عساكر: «هذا أخر ما يسر الله جمعه من هذا الكتاب والله الموفق».
ألّف ابن عساكر تاريخ مدينه دمشق على نسق التواريخ التي عرفت من قبل؛ فقد ذكر فضلها وتسمية من حلَّها من الأماثل أو اجتاز نواحيها من وارديها وأهلها، ولكنه كان فيما كتبه عن دمشق أكثر دقةً وترتيباً، وأغزر مادة وأوسع أبواباً. وعنده تفصيلات عن خططها وتاريخها و(طَبوغرافيتها). كان للحافظ منهج واضح في تنسيق أسماء من ترجم لهم على الترتيب الهجائي، مراعياً أسماء المترجمين، ثم أسماء آبائهم وكذلك فعل في تراجم النساء؛ فأورد ترجمة لمئة وست وتسعين امرأةً، ولم يترجم إلا للواتي عُرِفْنَ بالفضل ورواية العلم، محتذياً أسلوب ابن سعد في طبقاته الكبرى، والخطيب البغدادي في تاريخه.
بدأ مجلده الأول بباب ذكر فيه أصل اشتقاق الشام ودمشق والأيام والشهور، والتاريخ وفائدته. وهذا القسم من المجلد يأخذ تسعة أبواب من الجزء الأول، وهو عشرة أبواب.
بعدها يبدأ ببيان فضائل الشام ودمشق وأن الله جعل فيها صفوة عباده، وأن الرحمن يرحم الشام وقد أضاءت قصورها عند مولد النبي، وهي أرض المحشر والمنشر، ثم يخلص إلى ذكر فضائل دمشق؛ فيقول فيها إنها مدينة من مدن الجنة، ومهبط عيسى قبل قيام الساعة، وفسطاط المسلمين يوم الملحمة، وأن أهلها لايزالون على الحق ظاهرين، وسيعرفون في الجنة بثيابهم الخضر، ويقول الحافظ سينفى الخير عن الإسلام إذا فسد أهل الشام، وهذا القسم من أكبر أقسام المجلد ويستغرق خمسة أجزاء، فيها ثلاثة وثلاثون باباً.
ثم ينتهي إلى ذكر فتوح الشام ودمشق، ويذكر أخبار ملوك الشام قبل الإسلام، ومغازي الرسول إلى دومة الجندل ومؤته وتبوك، ووقعات أجنادين، ومرج الصفَّر واليرموك، والدور التي كانت داخل سور دمشق، والقطائع والصوافي، ويسوق بعض أخبار الدجَّال، وهذا القسم أهم أقسام المجلد شأناً ويستغرق أربعة أجزاء فيها أربعة عشر باباً.
إن الحافظ ابن عساكر لا يقدم تاريخاً دمشقياً ولا شامياً، وإنما يقدم تاريخاً حضارياً للبلاد التي انتشر فيها الإسلام وسادت فيها اللغة العربية من أقصى الشرق إلى أطراف المحيط، فكانت ترجمته تاريخاً للعصر كله، وكان كتابه أغنى المصادر لتاريخ الأمويين.
ختمت هذه الحياة الحافلة بالجد والسعي وطلب العلم والتأليف والتصنيف والتدريس في أوائل عهد صلاح الدين سنة 571هـ في دمشق، ودفن بمقبرة باب الصغير، وصلى عليه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي في ميدان الحصا.
اختصر تاريخ دمشق المؤرخ أبو شامة 665هـ، وابن عبد الله الدائم 680هـ، وسماه «فاكهة المجالس وفكاهة المجالس»، وابن منظور 711هـ صاحب «لسان العرب»، وانتقى منه جلال الدين السيوطي 911هـ سماه «تحفة المذاكر المنتقى من تاريخ ابن عساكر»، واختصره من المتأخرين عبد القادر بدران.
يأسف المرء لخلو خزائن دمشق اليوم من نسخ كاملة من تاريخها، فقد بُعْثِرَتْ أجزاؤه في خزائن العالم:
ففي المكتبة الأزهرية أجزاء كثيرة، وحفظت دار الكتب الظاهرية نسختين، وفي كمبردج بإنكلترا ثلاثة مجلدات منه، وفي جامعة كولومبيا في نيويورك مجلد يحوي نحو عشرة أجزاء من تقسيم المؤلف.
فايز الحموي
bn Assaker (Ali ibn al-Hassan-) - Ibn Assaker (Ali ibn al-Hassan-)
ابن عساكر (علي بن الحسن ـ)
(499 ـ 571هـ/1105ـ 1176م)
أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين ثقة الدين، ناصر السنة، ابن عساكر الدمشقي، المؤرخ الحافظ الرحالة، كان محدّث الديار الشامية ورفيق السمعاني (صاحب الأنساب) في رحلاته.
وُلِدَ بدمشق في بيئة علمية ساعدته على تفتح ذهنه، فأبوه الحسن هبة الله أبو محمد الشافعي كان شيخاً تقياً ورعاً محباً للعلم، وأخوه الأكبر الصائن هبة الله بن الحسن كان فقيهاً ثقة بعلوم القرآن والنحو واللغة، وأخوه الأصغر الأمين محمد بن الحسن كان قاضياً صالحاً عدلاً. أما أمه فهي أم القاسم بنت أبي الفضل يحيى بن علي بن عبد العزيز القرشي، وهو بيت عربي عُرف بالعلم، وينتهي نسبه إلى بني أمية، وكان منه قضاة دمشق مدة طويلة، وكان جده لأمه وخالاه محمد وسلطان من قضاة دمشق الورعيين والفقهاء الصالحين.
وحين كان المسجد الأموي أعظم مركز للعلم تعقد فيه حلقات الإقراء والتدريس والحديث والوعظ، اختلف ابن عساكر إليه يتلقى فيه العلم، وسمع إلى أبي الحسن السلمي في المدرسة الشافعية الأمينية، وإلى نصر المقدسي في الزاوية الغزالية للشافعية، وقرأ «تلخيص المتشابه» للخطيب البغدادي و«دلائل النبوه» للبيهقي و«موطأ مالك». وتلك أهم المراكز التي كان الحافظ يتلقى فيها العلم في حداثته، وظل كذلك حتى وفاة والده سنه 519هـ، عزم بعدها على الرحيل طلباً للحديث، فيمم وجهه شطر بغداد سنه 520هـ، وأقام فيها سنة واحدةً، ثم خرج للحج عن طريق دمشق، وسمع مما لقي من العلماء بمكة والمدينة ومنى، ثم عاد بعدها إلى العراق، واستمر بقاؤه بها خمس سنوات. واستمع فيها إلى الدرس في النظامية على أبي سعد الكرماني، وأبي القاسم ابن الحصين، وأبي الحسين الدينوري.
ثم تطوَّف في مدن العراق وما حولها، فهبط إلى الكوفة، وصعد إلى الموصل والجزيرة وماردين، ثم عاد إلى بغداد يحدث بها، وظهر فضله وشاع ذكره. كانت رحلته هذه من أنشط رحلاته، قرأ فيها «الطبقات الكبرى» لابن سعد و«المغازي» للواقدي وسيرة ابن إسحاق و«طبقات فحول الشعر» لمحمد بن سلام الجمحي، عاد بعدها إلى دمشق سنه 525هـ ليأخذ فيها عن شيوخ آخرين، وبقي فيها إلى 529هـ، رزق في أثنائها ابنه القاسم 527هـ من زوجته عائشة بنت علي الخضر أم عبد الله السلمية، ثم كانت رحلته الثانية إلى خراسان ومدنها المهمة، وأقام في أصبهان سنةً كاملة بصحبة الإمام محمد الفراوي ثم فارقه إلى هراة، ومضى في رحلته ملتقياً بالعلماء والفقهاء والمحدثين والأدباء، وأخذ عن النساء كما أخذ عن الرجال. دامت رحلته الثانية أربع سنوات قاسية ومتعبة حتى 533هـ.
وذكَرَ السمعاني عبد الكريم بن أحمد رفيقه في رحلاته أنه التقى الحافظ في نيسابور 529هـ، وقد شرع حينئذٍ في كتابة تاريخه الكبير لدمشق.
عاد إلى دمشق بعد أن لقي شيوخ دمشق والعراق والحجاز والجزيرة وخراسان، وشرع يحدث، وتبدأ هنا حقبة خصبة في حياته تمتد قرابة أربعين عاماً انصرف فيها إلى الجمع والتصنيف والرواية والتأليف والمطالعة والتسميع. أعرض عن طلب المناصب وتحصيل الديار والأملاك، فسار ذكره، واشْتُهِرَ أمره فرحل إليه الطلبة، وانتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان وأصبح إمام المحدثين في وقته.
بلغ عدد شيوخه ألفاً وثلاثمئة شيخ وثمانين امرأةً. يتضمن ثَبَتُ الكتب التي نقلها ياقوت الحموي عنه ما يزيد على الستين كتاباً، والقاسم هو الذي أظهر كتب أبيه وتولى إسماعها بالجامع الأموي بدمشق ودار الحديث النورية.
إذا استثني تاريخ دمشق فإن سائر مؤلفاته في الحديث، وبعضها في الفضائل، كفضائل العشرة وأخبار الأوزاعي وفضائله، وفضل قريش، وأهل البيت والأنصار، والأشعريين، بيت المقدس، ومكة ومقام إبراهيم والمدينة وفضائل الشهور كفضل عاشوراء ومحرم وشعبان وفضل الكرام، وفضل الجهاد؛ الذي وضعه استجابة لرغبة الملك العادل نور الدين الزنكي لحث الناس على الجهاد واسترداد بيت المقدس من الصليبين، وكتاب «أربعون حديثاً عن أربعين شيخاً من أربعين مدينةً».
وقد عني بجمع أحاديث معظم قرى الغوطة كالمِزَّة وكفرسوسية ودومة ومسرابا وحرستا وجوبر، وقد انتصر للأشعري ومذهبه فألف كتابه «التبيين في كذب المفتري على الإمام الأشعري»، وهذا من أكثر كتبه شأناً، لأنه ذكر فيه تراجم شيوخ رآهم وسمـع عنهم، وأبان رأيه فيهم.
يقول ابن خلكان: «ما أظن هذا الرجل (ابن عساكر) إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه. وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع الإنسان مثل هذا الكتاب».
نفعته صفاته العلمية والدينية على بزِّ أقرانه، لقد تفنن في الترجمة للناس والعرض لأخبارهم وشعرهم ونثرهم، وقد جمعه على شرط المحدثين بالسند والرواية ولاشك في أن تاريخ دمشق كنز عظيم من كنوز الأجداد عجز الجماعة عن وضع مثله. أمضى حياته في كتابة تاريخه، ولم يكتمل تأليفه وجمعه إلا بعد أن كلَّ بصره وضعف جسمه، وتكاثرت عليه الأسقام، وجاء صوت السلطان نور الدين الذي عاصره طوال عشرين عاماً (549 ـ 569هـ) مجدداً لهمته، مقوياً لعزيمته، وكان له منه الإكرام والإجلال، وبنى له دار الحديث النورية ليتفرغ فيها للدرس والكتابة، وإنهاء تأليف تاريخه وجمعه، فكان هذا العمل الجبار الذي صبَّ فيه خلاصة عقول خمسة قرون من عمر الحضارة العربية.
يتألف تاريخ دمشق من سبعة وخمسين مجلداً حقق بعض أجزائه مجمع اللغة العربية بدمشق، وهو أقرب ما يكون إلى موسوعة بالمعارف.
سمع القاسم المجلد الأول على أبيه سنه 559هـ والمجلد السابع والخمسين سنه 565هـ، وبذلك تكون سنه 565هـ هي السنة التي أتم فيها تأليف تاريخه وصقله، والمجلد الأخير الذي وصل إلينا هو ترجمته للنساء. يقول الحافظ ابن عساكر: «هذا أخر ما يسر الله جمعه من هذا الكتاب والله الموفق».
ألّف ابن عساكر تاريخ مدينه دمشق على نسق التواريخ التي عرفت من قبل؛ فقد ذكر فضلها وتسمية من حلَّها من الأماثل أو اجتاز نواحيها من وارديها وأهلها، ولكنه كان فيما كتبه عن دمشق أكثر دقةً وترتيباً، وأغزر مادة وأوسع أبواباً. وعنده تفصيلات عن خططها وتاريخها و(طَبوغرافيتها). كان للحافظ منهج واضح في تنسيق أسماء من ترجم لهم على الترتيب الهجائي، مراعياً أسماء المترجمين، ثم أسماء آبائهم وكذلك فعل في تراجم النساء؛ فأورد ترجمة لمئة وست وتسعين امرأةً، ولم يترجم إلا للواتي عُرِفْنَ بالفضل ورواية العلم، محتذياً أسلوب ابن سعد في طبقاته الكبرى، والخطيب البغدادي في تاريخه.
بدأ مجلده الأول بباب ذكر فيه أصل اشتقاق الشام ودمشق والأيام والشهور، والتاريخ وفائدته. وهذا القسم من المجلد يأخذ تسعة أبواب من الجزء الأول، وهو عشرة أبواب.
بعدها يبدأ ببيان فضائل الشام ودمشق وأن الله جعل فيها صفوة عباده، وأن الرحمن يرحم الشام وقد أضاءت قصورها عند مولد النبي، وهي أرض المحشر والمنشر، ثم يخلص إلى ذكر فضائل دمشق؛ فيقول فيها إنها مدينة من مدن الجنة، ومهبط عيسى قبل قيام الساعة، وفسطاط المسلمين يوم الملحمة، وأن أهلها لايزالون على الحق ظاهرين، وسيعرفون في الجنة بثيابهم الخضر، ويقول الحافظ سينفى الخير عن الإسلام إذا فسد أهل الشام، وهذا القسم من أكبر أقسام المجلد ويستغرق خمسة أجزاء، فيها ثلاثة وثلاثون باباً.
ثم ينتهي إلى ذكر فتوح الشام ودمشق، ويذكر أخبار ملوك الشام قبل الإسلام، ومغازي الرسول إلى دومة الجندل ومؤته وتبوك، ووقعات أجنادين، ومرج الصفَّر واليرموك، والدور التي كانت داخل سور دمشق، والقطائع والصوافي، ويسوق بعض أخبار الدجَّال، وهذا القسم أهم أقسام المجلد شأناً ويستغرق أربعة أجزاء فيها أربعة عشر باباً.
إن الحافظ ابن عساكر لا يقدم تاريخاً دمشقياً ولا شامياً، وإنما يقدم تاريخاً حضارياً للبلاد التي انتشر فيها الإسلام وسادت فيها اللغة العربية من أقصى الشرق إلى أطراف المحيط، فكانت ترجمته تاريخاً للعصر كله، وكان كتابه أغنى المصادر لتاريخ الأمويين.
ختمت هذه الحياة الحافلة بالجد والسعي وطلب العلم والتأليف والتصنيف والتدريس في أوائل عهد صلاح الدين سنة 571هـ في دمشق، ودفن بمقبرة باب الصغير، وصلى عليه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي في ميدان الحصا.
اختصر تاريخ دمشق المؤرخ أبو شامة 665هـ، وابن عبد الله الدائم 680هـ، وسماه «فاكهة المجالس وفكاهة المجالس»، وابن منظور 711هـ صاحب «لسان العرب»، وانتقى منه جلال الدين السيوطي 911هـ سماه «تحفة المذاكر المنتقى من تاريخ ابن عساكر»، واختصره من المتأخرين عبد القادر بدران.
يأسف المرء لخلو خزائن دمشق اليوم من نسخ كاملة من تاريخها، فقد بُعْثِرَتْ أجزاؤه في خزائن العالم:
ففي المكتبة الأزهرية أجزاء كثيرة، وحفظت دار الكتب الظاهرية نسختين، وفي كمبردج بإنكلترا ثلاثة مجلدات منه، وفي جامعة كولومبيا في نيويورك مجلد يحوي نحو عشرة أجزاء من تقسيم المؤلف.
فايز الحموي