استبطان
Introspection - Introspection
الاستبطان
الاستبطان (معرفة الباطن أو تعرف الباطن ) Introspection هو معاينة الفرد لعملياته العقلية أو هو المعاينة الذاتية. ويُعرّفه بعضهم بأنه ملاحظة الشخص المنظمة لما يجري في شعوره من خبرات حسية أو عقلية أو انفعالية تصف هذه الحالة وتحللها وتؤولها أحياناً، سواء أكانت حاضرة كحالة الحزن أو الغضب أم ماضية كأحلام النوم. ويوضح التعريفان السابقان أن الاستبطان فردي. وأن الفرد في الاستبطان يعكس شعوره على ذاته حيث تنقسم الحياة النفسية إلى مُتأمِّل و متأمَّلٍ. ويمكن النظر إلى الاستبطان على أنه منهج من مناهج مقاربة الظواهر النفسية لمعرفتها وتحليلها وتأويلها والبحث عما هو مشترك فيها بُغية الوصول إلى تعميمات.
ومع تشابه الاستبطان والتحليل النفسي من حيث اعتماد آلية كلٍ منهما على التقرير الذاتي، فإن التحليل النفسي يتخذ اللاشعور موضوعاً له في حين يكون الشعور موضوع الاستبطان.
سياق استخدام الاستبطان والموضوعات التي يدرسها
رافق ظهور الاستبطان واستخدامه استقلالية علم النفس وصيرورته علماً مستقلاً، فقد جرى الاصطلاح على تحديد بداية ظهور هذا العلم مع إنشاء ولهلم فونت[ر] W.Wundt (1920-1832) مختبر علم النفس في لايبزيغ. وكان فونت تحت تأثير فكرتين أساسيتين أولاهما: الانتصارات التي حققتها الكيمياء، ولذلك فإن علم النفس لديه كان، منذ البداية، نوعاً من الكيمياء العقلية، والثانية هي الفكرة الفلسفية التي تُفرق بين النفس والجسد، وتدعي أنهما يسيران في مجريين متوازيين، بمعنى أنهما غير متفاعلين. وقد اختار فونت دراسة الحياة النفسية تاركاً دراسة الجسد للعلوم الحيوية. وعندما تقصى دراسة الحياة النفسية متتبعاً خطى الاختباريين الإنكليز، لاحظ أن الأفعال العقلية هي موضوع هذا العلم، كما لاحظ أن الأفعال العقلية والأفكار تتخذ الشعور مجالاً تنعكس فيه. وأن هذه الأفكار ليست أشياءً بل أحداثٌ، وعلينا حين نستبطن أن نقوم بتقطيع سلسلة الأحداث، ثم تحليل الأفاعيل الشعورية، وصولاً إلى تحديد قوانين ترابطها.
وتلقى الاستبطان دعماً من تنظيرات عالم النفس الأمريكي إدوارد تيتشْنر E.Titchener وتجاربه في جامعة بيركلي (1876- 1927) إذ فرّق بين الملاحظة الفيزيائية التي جوهرها النظر إلى..، والملاحظة في علم النفس التي قوامها النظر في..، وهي دراسة ذاتية استخدمها في الذوق الذي قسمه إلى أربعة أقسام (حلو، مر، حامض، ومالح) ورأى أن الاستبطان هو النظر في..، كما تلقى دعما من التجارب التي أجراها ماي May والتي أكدت أن الاستبطانات قابلة للتصنيف في فئات متماثلة تمهيداً لإطلاق أحكام عامة وتعميمات عليها، ويعتمد بذلك على أن الأفراد المختلفين يقدمون تقريرات من الأنواع نفسها، عندما يكون موضوع الخبرة الشعورية واحداً. و قد تراجع الاستبطان بعد سيطرة السلوكية في المدة بين 1930 و1950، ثم عاد إلى الظهور في المدرسة المعرفية لدراسة التأمل، والتغذية الراجعة الحيوية والتنويم الإيحائي والأحلام، وتركيز الانتباه على موضوع محدد.
منهجية الاستبطان
لعل الاستبطان العلمي هو تطوير منهجي لخاصية إنسانية هي قابلية الإنسان لأن يتأمل ما يجري في شعوره، ويدلي بتقارير لفظية تصف ما يجري داخله. إن هذا النوع من الاستبطان يسمى الاستبطان العفوي. ويمكن للباحث النفسي تقنين هذه القابلية وجعل الاستبطان العفوي قصدياً ومنهجياً، حين يحلِّل المستبطِنُ شعوره ويعرف دوافع هذا الشعور ومجرى تتابعه، ويحاول البحث عن القوانين التي تنتظم الأحداث النفسية بموجبها، ومن أجل ذلك اقترح ستاوت Stout تنظيم الاستبطان منهجياً في مراحل ثلاث:
ـ الانتقال من وجهة النظر الذاتية إلى الموضوعية، أي أن يجعل الفرد شعوره موضوعاً خارجاً عنه.
ـ تأمل الحادث النفسي وتحليله.
ـ الإجابة عن أسئلة محدودة لها أهمية نظرية.
وإلى جانب هذه المراحل تُنظَّم الشروط التي يتم الاستبطان في إطارها من حيث راحة المستبطن وعدم تقطيع تأمله بالمثيرات الخارجية.
حدود الاستبطان
يبدو الاستبطان ملائماً لموضوعات معينة في علم النفس، فهو يلائم الجانب الباطني في الحياة النفسية، ويجعل موضوعه الكائن الإنساني الفرد العاقل الراشد السوي ولذلك ظل الاستبطان سائداً في الدراسات النفسية حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وبعد اتساع مجالات تلك الدراسات أدخلت إليه موضوعات جديدة، دفعت بالمنظرين النفسيين، ولاسيما السلوكيين منهم إلى توجيه نقدٍ مُرٍ للاستبطان، إذ رأى السلوكيون، على اختلاف مشاربهم، أن الحياة النفسية تتجلى في السلوك، وأن ما يسمى بالمشاعر والحياة النفسية الداخلية قابلة كلها لأن تظهر على شكل سلوك خارجي قابل للملاحظة الخارجية. وتأسيساً على ذلك رأوا أن المنهج التجريبي، والملاحظة الخارجية هما السبيلان الأمثلان لمقاربة هذه الحوادث، وخاصة بعد أن أدخل علم النفس التعلّمَ ضمن مباحثه فضلاً عن استحالة تطبيقه في دراسة الطفل والحيوان والجانب اللاشعوري من الشخصية.
ولم يوجه الانتقاد إلى الاستبطان من هذه الوجهة فحسب بل جادل بعضهم في أساسه الإبستيمولوجي، وشككوا بتقنية النتائج التي يُسفر عنها، وأهم هذه الاعتراضات:
ـ أن نزعة البشر الطبيعية موجهة إلى مشاهدة العالم الخارجي، ومن ثمّ حين تُعكس المسألة، و يُجعل الشعور موجهاً إلى الداخل، تُقسرُ الطبيعة البشرية على القيام بما يُخالف نزعتها.
ـ لاحظ هنري هيد Henry Hidd من التجارب الاستبطانية التي أجراها عام 1908 أن المشاعر الوجدانية خالية من أي عنصر تصوري، مما يعد مأزقاً يحول دون قدرة المستبطن على وصف هذه المشاعر.
ـ ينقل الاستبطان الخبرة والمشاعر الذاتية، فهو من ثَمَّ مشبع بالعامل الذاتي مما يُفقده واحدة من أهم خصائص المنهج العلمي وهي الموضوعية، والوصول إلى تعميمات كُلية. ومع وجاهة هذا الانتقاد فإن المدافعين عن الاستبطان رأوا أن العنصر الذاتي يتوافر في الملاحظة الخارجية المعتمدة على الإدراك، وذلك لأن الملاحظ قد يمزج أوهامه الإدراكية بالواقع.
ـ أن من الصعوبة بمكان انعكاس الشعور على ذاته. فعندما يضع الغاضب مثلاً غضبه موضع تأمل يبدد هذا الغضب ويلاشيه، وبالتالي فإن من المستحيل أن يغضب الإنسان ويتأمل غضبه في الآن عينه. أما إذا استبدل بذلك تأمل الحادثة النفسية بعد وقوعها، فلا بد من استرجاعها من الذاكرة، والذاكرة كما هو معروف لا تخزن الخبرة على ما هي عليه بل تعمل فيها حذفاً واصطفاءً، وبالتالي فالتأمل التالي لحدوثها لا يقع عليها بل على صورتها في الذاكرة.
ومع هذه الانتقادات كلها، فإن الاستبطان منهج لا يمكن الاستغناء عنه كلياً. إذ ما دام كل حادث نفسي يرافق بطانة وجدانية داخلية، وما دام علم النفس بطبيعته يزاوج بين الفردي والجمعي فإن ثمة حيزاً يُشغله الاستبطان بالتآزر والتناوب مع المناهج الأخرى، فضلاً عن أنه استعاد بعضاً من مكانته في الفلسفة الظاهراتية [ر] (الفينومينولوجية ) التي اتخذت من الذات المدرِكة الشاعرة موضوعها الأساسي، ورأت أن المسألة الجوهرية في الظاهراتية هي الدراسة الوصفية للشعور.
ج.ت