اسره (تنظيم)
Family planning - Planification familiale
الأسرة (تنظيم ـ)
تتصل فكرة تنظيم الأسرة family planning بنظرة الإنسان إلى واقعه وواجبه تجاه أسرته وإمكاناته في توفير الرعاية الضرورية لها. ويختلف مفهوم تنظيم الأسرة أو ما يسمى اليوم بالوالدية المسؤولة: فهي في أذهان بعضهم رعاية صحة الأسرة من الناحية الطبية، وهي في أذهان آخرين تحديد للإنجاب ضمن الإمكان المادي للوالدين.
وكان تنظيم الأسرة ضمن هذين المفهومين مقتصراً على الطبقة المثقفة، فكانت الاستفادة منها نوعاً من الأثرة والحرص على راحة الأم أولاً ورفاهية الأسرة بكاملها ثانياً، ولم تكن ممارستها تلبية لوطأة كثرة الأطفال ونفقاتهم الباهظة، ولم تكن علاجاً لضغط الحياة الحديثة المعقدة التي كثيراً ما تشغل الزوجين وتعوقهما عن توفير الحد الأدنى من العناية المطلوبة لهؤلاء الأطفال. ولم يتطرق الممارسون لتنظيم الأسرة في هذه المرحلة للعامل السكاني وارتباطه بالتنمية الاقتصادية وكيف أن زيادة معينة في السكان قد تلغي مشروعاً مهماً في التنمية أو تعوق خططاً تستهدف رفع مستوى الصحة أو نشر العلم.
وقد سعت بعض الأمم منذ فجر التاريخ إلى الاهتمام بالتنظيم السكاني تجنباً للمشكلات التي قد تنتج عن التزايد الكبير أو الانفجار في عدد المواطنين، فقد مارس اليونانيون والرومان تنظيماً بدائياً لم يكن الهدف منه تحديد النسل والإقلال من عدد السكان فقط وإنما انتقاء الأقوى والأصلح منه للبقاء والكفاح والتخلص من الضعيف والمعوق. وكانوا يعرِّضون الوِلْدان لاختبارات قاسية كأن ينقعوهم في دنان الخل، أو يتركوهم جياعاً عراة في البرد، ليبرهنوا على جدارتهم للحياة. وكان الرأي العام والقانون يجيزان قتل الأطفال ولاسيما الضعفاء منهم للحد من زيادة السكان، ومنع تقسيم الأرض الزراعية تقسيماً ينقص من دخلها ويؤدي إلى الفقر، وتدل هذه الطريقة الإجرامية، على الرغم من شناعتها، على سعي الشعوب المتقدمة آنذاك إلى نوع من التخطيط والتنظيم السكاني.
وفي التاريخ العربي أكثر من إشارة إلى هذا التنظيم في زيادة النسل أو إنقاصه بحسب الحاجة كما جاء في مقدمة ابن خلدون، علاّمة القرن الثامن الهجري، عند بحثه عن علاقة الدخل بالأحوال الاجتماعية والسياسية وفي مستوى المعيشة، إذ رأى أن الثروة تنمو وتزداد بازدياد السكان لأنها نتاج الجهد البشري، كما رأى أن هذه الزيادة تشجع الانتقال من البداوة إلى الحضارة وتضمن الحفاظ على مؤسسات الدولة.
وقبله دعا أبو الفضل الدمشقي إلى الحد من التزايد السكاني لئلا يؤدي هذا التزايد إلى الفقر أو انخفاض مستوى المعيشة.
وينطبق هذا الكلام على الوطن العربي الحاضر الذي يحتل المرتبة الخامسة بعدد السكان بعد الصين والهند والاتحاد السوفييتي (سابقاً) والولايات المتحدة. ويشترك سكانه في المزايا الدينية واللغوية وإلى حد كبير في البنية الاجتماعية والثقافية ومعظمها مرتبط بالتاريخ الإسلامي، ودوله متفاوتة من حيث قلة السكان مثلاً في السعودية واكتظاظهم في مصر. وتبقى زيادة السكان ونقص الموارد معوقاً مؤلماً في النمو والتقدم في أقطار منها كمصر والأردن والمغرب والجزائر، فبعضها يحتاج إلى الزيادة في السكان، وينطبق مثلها على ما قاله ابن خلدون، وأكثرها يحتاج إلى ضبط هذه الزيادة ليخطط بنجاح للتنمية الاقتصادية ورفع المستوى التعليمي والاجتماعي.
ولم تتطور فكرة تنظيم الأسرة إلى مفهومها الحاضر إلا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد بدأت تتحول إلى تثقيف اجتماعي وطبي وجنسي وإسكاني، وأُسِّس الاتحاد الدولي لتنظيم الوالدية سنة 1952 وبدأت هذه الفكرة تشق طريقها المملوء بالصعاب في أرض الواقع المحاط بالعقبات القانونية والاجتماعية والدينية. فالموقف أساساً مرتبط بالمرأة من دون نكران لدور الرجل. ولو طرحت من خلال الطفل فإن القانون يرفض بصرامة كل محاولة لتحديد النسل، وكذلك المفاهيم الدينية التي تشجع التناسل والتكاثر إضافة إلى العقلية الاجتماعية السائدة التي تحترم المرأة الولود، ولا تقيم لها وزناً خاصاً إلا من زاوية أمومتها، وترفض أن ترى لها حرية مستقلة عن وظيفة الإنجاب وتربية الأطفال.
ولكن دخول المرأة الكثيف إلى مجالات العمل والإنتاج والضغط على وقتها المتاح بين واجبات العمل ومتطلبات المنزل الزوجي جعلها تطالب بحريتها في التصرف بحياتها وبإمكانات جسدها.
ورافق ذلك تطور في المعطيات الأخلاقية والدينية والاقتصادية، وفي قيود الزواج لدرجة جعلت الأمم المتحدة تعلن في سنة 1968 في مؤتمر طهران حق الزوجين في القرار الحر والمسؤول بتحديد عدد الأولاد وعدد السنوات الفاصلة بين كل حملين.
واعترفت الدول في مؤتمر بخارست سنة 1974 بأن حل المشكلات الاقتصادية لا يتم بتنظيم الأسرة منطلقاً أوحدَ؛ بل باعتماد خطة تنمية شاملة يرسم عن طريقها سياسة سكانية واضحة. واعترف المؤتمر صراحة بأن المرأة عنصر أساسي في عملية السكان، وبأنها شريكة مساوية للرجل في خطة التنمية، ولذلك يحق لها المشاركة في اتخاذ القرار، ولا يقتصر اهتمامها على قضية تحديد النسل فقط؛ بل يمتد إلى كل الروافد والتشعبات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية لهذه الخطة.
ويؤدي التخطيط لحجم الأسرة من الناحية الطبية إلى الإقلال من وفيات الولدان والرُّضَّع والأطفال، مع ما يرافق ذلك من تحسن في نموهم البدني والعقلي، ويحافظ على صحة الأم بتوقيت حُمولها في السن التي تجنبها أخطار الإنجاب أي بين العشرين والخامسة والثلاثين؛ إذ ينتج عن تقريب الحُمول زيادة في وفيات الولدان والرضع وإرهاق المرأة إذا أعقب الولادة حمل آخر قبل أن تنقه رحمها من الحمل السابق وتتهيأ للحمل الجديد.
وتجزم الإحصاءات الطبية بأن التَّضَوُّن (أي تعدد الولادات بكثرة) يزيد من المضاعفات الصحية للأم كالداء السكري وإفلاس الكليتين وهبوط الرحم، وغير ذلك مما يرافق تعدد الحُمول المفرط.
وقد اختلف العلماء في أوفق مدة يجب أن تنقضي بين حمل وآخر، ويرجح أنها يجب ألا تقل عن سنتين إلى أربع. ويزيد الحمل المتأخر بعد الأربعين في نسبة وفيات الأمهات، كما يزيد في حدوث متلازمة دون Down (المنغولية) عند الأطفال. ويبقى الزمن الأمثل للحمول عسير التحديد إلا أن الولادة الثالثة في الثلاثين هي الوقت الأنسب لآخر حمل. وتؤدي الاستشارة الطبية الوراثية إلى اتقاء أمراض الوراثة في كثير من الأحيان.
ويخفف تنظيم الأسرة من ضرورة اللجوء إلى الإجهاض. فإن الإجهاض يحمل بعض الخطورة ومنها موت الأم حتى ولو أجري في ظروف طبية مثالية، وتكون هذه الخطورة أضعافاً مضاعفة إذا أجري بصورة غير شرعية وفي أمكنة قليلة النظافة لا تتوافر فيها الشروط الصحية الجيدة.
وقد تبين في بعض الاحصاءات غير الجازمة أن أبناء الأسر الكثيرة العدد يعيشون في ظروف غير مواتية إذا قورنوا بأبناء الأسر القليلة العدد، وتمكن المجازفة في تعليل ذلك بأن من جملة هذه الأسباب: قلة التغذية، وإهمال التنشئة، وحدوث التنافر بين الزوجين بسبب ضغط الأسرة الكبير، وكثرة الأخماج التي تنتقل بين طفل وآخر بسبب الازدحام، وإهمال العناية في الوقاية والعلاج.
ولا يعارض الدين تنظيم الأسرة خلافاً لما يعتقد بعض من يخلطون بين التحريم والتقاليد. فلم يرد في القرآن نص يحرم منع الحمل أو الإقلال من النسل، وكان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يستعملون العزل مع جواريهم لمنع الحمل، وقد بلغ ذلك الرسول ولم ينه عنه. وقد رأى الشافعي إباحة العزل لمنع الحمل، وذكر الغزالي ممثلاً لهذا المذهب البواعث المشروعة ومنها استبقاء جمال المرأة، أو استبقاء حياتها خوفاً من خطر الولادة، والخوف من الإنفاق المفرط بسبب كثرة الأولاد، والاضطرار إلى إرهاق الوالد لتحصيل مزيد من الكسب. وفي فقه المذهب الحنفي أن الأصل هو إباحة العزل واشترط الحنبلي والمالكي والزيدي والإباضي موافقة الزوجة. وذهب المذهب الجعفري إلى ضرورة الحصول على هذه الموافقة عند عقد الزواج، وليس مايمنع من قياس الوسائل الحديثة في منع الحمل على العزل مادامت هذه الوسائل تمنع الحمل مؤقتاً من دون أن تؤثر في أصل الصلاحية للإنجاب. أما تعقيم أحد الزوجين فهو محرم بإجماع المذاهب إلا إذا كان أحد الزوجين أو كلاهما مصاباً بمرض موروث؛ فعندئذ وجب التعقيم دفعاً للضرر، ولكي لا تصبح ذريتهما ثقلاً على المجتمع.
وتختلف الاجتهادات فيما يتعلق بالإجهاض؛ فقد أجاز فقهاء المذهب الحنفي إسقاط الحمل ما لم يتخلق، وهو لا يتخلق إلا بعد أربعة شهور، وهو مكروه بغير عذر، وذكروا بين هذه الأعذار انقطاع لبن المرأة المرضع وعجز زوجها عن استئجار مرضع. ويرى فقهاء الزيدية إباحة الإجهاض مطلقاً قبل نفخ الروح في الجنين، أي بعذر أو من دون عذر، وتُجمع كل المذاهب على تحريمه بعد أربعة شهور إلا لعذر صحي يهدد حياة الأم.
وترى الكنيسة الأرثوذكسية أن ليس هناك أي حرج على الزوجين من استعمال وسائل منع الحمل عند الضرورة سعياً إلى تنظيم الأسرة. ويبقى موقف الكنيسة الكاثوليكية مختلفاً بين قطر وآخر ولو أن نصاً بابوياً لم يصدر إلا فيما يتعلق بتحريم الإجهاض تحريماً تاماً.
ولا تكفي القوانين والتنظيمات والسياسات الحاضرة لدعم تنظيم الأسرة. فالمستحدثات ليست من القضايا التي تلتفت إليها القوانين، وهي لم تواكب التطورات السريعة في تنظيم الأسرة. ويؤدي هذا التخلف إلى التقييد والتحديد اللذين يصبغان القانون بالصبغة السلبية.
ولكن هذه القوانين والسياسات آخذة بالتغيير، وقد حصلت تحولات إيجابية في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال فوضت ثلاثون دولة على الأقل الصلاحية للعاملين الصحيين من غير الأطباء التعامل بالأشكال المتنوعة من موانع الحمل. وفي عشرين دولة أخرى جرى توضيح القانون المتصل بالتعقيم إذ أصبح مقبولاً لأغراض تنظيم الأسرة. ولقد أصبح الكثير من الدول يقبل صراحة أشكالاً من التربية الجنسية في إطار مناهجها المدرسية، وثمة ما لا يقل عن أربعين دولة قامت بتحرير قوانينها المتصلة بالإجهاض، وتقوم القوانين بدور مشرف وبصرف النظر عن تنظيم الأسرة حين يتعلق الأمر بحقوق المرأة ومكانتها في المجتمع.