الكاتب الأكثر اهتماماً بالسياسة بين "الواقعيين السحريين" يحيد بأدبه عنها
إبراهيم العريس
يتميز الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار عن أقرانه ومعاصريه، إلى أي بقعة من أرض أميركا اللاتينية انتسبوا، بذلك الحس الأدبي الخالص الذي يطبع أعماله، وبتلك الحساسية الأسلوبية التي تجعله من قلة من الكتاب يختلط الشكل لديها بالمضمون ويصبحان كلاً واحداً من دون أن تزعم كتابته أنها كتابة تقول درساً، أو تقول غير ما تحمله في قراءتها الأولى. لدى كورتاثار المهم هو ما تقوله الكلمات، ما ترويه السطور، لا العبر التي يمكن أن تستخلص منها. المهم لديه هو تلك العلاقة التي ترتسم منذ الوهلة الأولى بين القارئ والنص. والمدهش هنا هو أن هذه القراءة الأولى، والعلاقة التي تنبني من خلالها، تحوج القارئ دائماً إلى قراءات متتالية للنص نفسه، ولكن - وهنا يكمن جوهر الأمر - لا تأتي القراءات المتتالية لتفسير غموض ما، ولا لاستخلاص عبرة أو درس، أو للوصول إلى قراءة من الدرجة الثانية، بل تأتي لترسيخ القراءة الأولى نفسها، وللإجابة عن سؤال أساسي ينتاب القارئ أمام كل نص من نصوص كورتاثار: ترى أين رسم الكاتب تلك النقلة التي نجدها في نصه، من الواقع إلى الخيال والعكس بالعكس؟ وذلك لأن معظم نصوص خوليو كورتاثار (ولا سيما في قصصه القصيرة) هي نصوص عن أمور تجري في نقطة ما... بين ما هو واقع فعلاً، وما يدور في مخيلة الراوي (أو الكاتب، أو القارئ... لا فرق). في نصوص كورتاثار ومن دون أي تعمد تختلط الحقيقة بالفانتازيا اختلاطاً عضوياً، ومن ذلك الاختلاط يطلع الموضوع في ارتباطه بالشكل الأسلوبي الذي تتخذه كلمات النص.
سياسة ولكن على هامش الأدب
منذ مبارحته الأرجنتين بصورة شبه نهائية في عام 1951، وحتى وفاته في فرنسا بعد ذلك بما يقرب من ثلث قرن، ربما كان خوليو كورتاثار، أكثر زملائه التزاماً من الناحية السياسية (بوقوفه ضد الديكتاتورية من ناحية، وإلى جانب الزعيم الكوبي فيدل كاسترو من ناحية ثانية، وضد حرب فيتنام والولايات المتحدة من ناحية ثالثة)، غير أن هذا الكاتب لم يحاول أبداً أن يجعل من كتاباته الأدبية صوتاً لنضاله السياسي، كان يصر دائماً على أن للأدب قضيته الخاصة (من دون أن يعني بهذا أن له دوراً!)، وقضية الأدب بالنسبة إلى كورتاثار كانت على الدوام إعادة خلق عالم ثالث، يقف بين العالم المعيش والعالم المتخيل: أجل، يمثل الأدب بالنسبة إليه اختلاطاً بين العالمين، لكنه اختلاط يطلع منه شيء مختلف عن العالمين معاً، شيء ثالث هو ذلك المناخ الفانتازي، الذي لا تعود معه الفتاة التي حلمت أنها فراشة، تعلم ما إذا كانت فتاة حلمت أنها فراشة، أو هي فراشة تحلم أنها فتاة .
تلك اللحظة المعينة
من هنا، يلاحظ قارئ قصص كورتاثار (سواء في مجموعته الأشهر "الأسلحة السرية" أو "مراقد" أو غيرهما) أن لكل نص لحظة معينة، من العسير تبين موضعها في سياق القصة، من القراءة الأولى، وربما حتى في أي قراءة تالية، لحظة معينة تشكل نقطة الانتقال، وليس في اتجاه واحد بالطبع، بين العالم المعيش والعالم المتخيل. فمثلاً في قصة "الأكسولوتل" أو (السمندر) يعجز القارئ عن تبين اللحظة التي يتحول فيها الراوي إلى تلك السمكة التي تراقب الراوي وهو يدخل إلى مقرها في حديقة النبات في باريس. وفي قصة "ابن العذراء" (التي اقتبس عنها المخرج الإيطالي الكبير أنطونيوني فيلمه "الانفجار") لا يعرف القارئ ما إذا كانت الجثة في البارك حقيقية... أم أن الحكاية كلها من نسج الفتى بطل القصة من خلال ترصده حركة الشجر في البارك في يوم خريفي... وذلكم هو بالطبع مغزى الفقرة الأخيرة حين يشترك "البطل" في لعبة كرة المضرب الوهمية. وفي قصة "نهاية مرحلة" لسنا ندري ما إذا كانت البطلة ديانا تتخيل، أم تشاهد حقاً، فتاة ميتة تشبهها مرسومة وسط ديكور المطبخ الموحش في البيت الذي تغمره الشمس، في آخر لوحة تراها حين تتوقف لساعة في قرية مرمية وسط طريق رحلتها الطويل. وفي قصة "استمرارية الحدائق" يختلط ما يقرأه بطل القصة، وما يراه في الحدائق المخضرة أمامه، ويختلط بساط الحديقة ببساط الغرفة الأخضر، بحيث يصبح البطل وهو غارق في كتابه، غارقاً أيضاً وسط لون أخضر لا ينتهي. وفي قصة "المدرسة... في الليل" يضيع الراوي وسط حفل تنكري في غرفة في المدرسة خلال الليل، يشبه طقوساً وثنية تسيطر عليها الأقنعة والعلاقات. وفي قصة "الرحلة الثانية" يختلط الفتى الراوي ببطله الملاكم، بحيث لا نعود نعرف، في لحظة من اللحظات، من يروي حكاية من.
قراءات لا تنتهي
عينات من مواقع ومشاهد سنجد العشرات المماثلة لها إن نحن تحرينا بدقة تفاصيل أدب كورتاثار. وأدب هذا الكاتب هو من ذلك النوع الذي تجد نفسك بحاجة إلى العودة إليه في كل مرة لتجد نفسك منكباً من جديد على قراءة نصوص كنت قد قرأتها من قبل. وفي كل مرة تكتشف في النصوص جديداً: صورة من هنا، لمحة من هناك، عبارة ضائعة بين الكلمات. وهذه الصور واللمحات والعبارات، سرعان ما تساعدك على تشكيل عالم النص من جديد، ومن جديد تجد نفسك عاجزاً، عن إدراك "اللحظات التي تتم فيها عملية الانتقال من المعيش إلى المتخيل".
هي لعبة، في نهاية الأمر، تلك التي يمارسها كورتاثار في أدبه لكنها ليست لعبة أسلوبية بأي حال من الأحوال، هي بالأحرى لعبة يشاء لها الكاتب أن تكون أشبه بلعبة العيش نفسه، بلعبة الذاكرة، بلعبة الحياة الممكنة الواقفة بالتوازي مع الحياة الفعلية. وبالنسبة إلى كورتاثار لا يمكن للحياة الممكنة أن توجد إلا في الأدب. فهي لو وجدت في الحياة الفعلية، لو أضحت جزءاً من الواقع المعيش، لن تعود ممكنة: ستصبح عادية، والأدب ضد العادي، لأن العادي هو جزء فقط من الحياة الحقيقية، الحياة الحقيقية هي ذلك المزج بين الممكن (الذي هو في الوقت نفسه المستحيل الحدوث) والواقع. ومهمة الأدب خلق الحياة الممكنة والإصرار عليها، وجعلها عبر الكلمات والصور دائمة الوجود في مكان ما، يقع بين الذاكرة والمخيلة، وعادية اليومي.
الممكن - المستحيل
وهذه النظرة إلى الأدب، إذا كانت تجد جذورها في أزمان سحيقة من تاريخ الكتابة، وشكلت زوادة الأدب الدائمة منذ الملاحم الما - قبل - تاريخية، حتى أدب أميركا اللاتينية مروراً بشكسبير وثرفانتس ودانتي وألف ليلة وليلة والمعري، فإنها لدى كورتاثار تبدو مغايرة لما اعتادت أن تكون عليه. فالأدب اعتاد دائماً أن يعيش فصلاً بين جانبه الواقعي وجانبه الخيالي، بين التاريخي والأسطوري، أي بين ما هو حادث وما هو مستحيل، أما لدى كورتاثار (وهو في هذا يعتبر ابناً باراً ومتفوقاً لتيار الواقعية السحرية) ثمة مجال لثالث هو: الممكن – المستحيل.
لقد قلنا إن كورتاثار لم يكن أول من أقام ذلك المزج الصحي بين المعيش والمتخيل، غير أن المزج كان دائماً بالنسبة إلى كورتاثار قضية مبدئية لا جدال حولها، بل وقضية نضالية حتى، لأن لا شيء، برأيه، أقدر على إثارة الوعي بالتالي تحريك إنسانية الإنسان وحسه الثوري الدفين في أعماقه، من ذلك المستحيل وقد أضحى على الورق ممكناً، بل وواقعاً معيشاً. وفي اعتقادنا أن هذا الفهم لقضية الأدب ولقضية الثورة، بالتالي، هو الذي سيجعل أدب خوليو كورتاثار، واحداً من الآداب التي ستظل حية وفاعلة، بعد أن ينسى أدب كثيرين من زملائه وشركائه في "فورة" الأدب اللاتيني، وذلك لسبب بسيط للغاية وهو أن أدب كورتاثار أدب يقلق، ويوقظ مخيلة القارئ من نومها، ويخلق في الجسد رعشة، هي أشبه بتلك الرعشة التي تنتج عن الإحساس ببرودة الموت في لحظات بعض الظهر الصيفية الخانقة... تلك اللحظات التي ندر أن صورها كاتب في القرن العشرين كما صورها كورتاثار.
إبراهيم العريس
يتميز الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار عن أقرانه ومعاصريه، إلى أي بقعة من أرض أميركا اللاتينية انتسبوا، بذلك الحس الأدبي الخالص الذي يطبع أعماله، وبتلك الحساسية الأسلوبية التي تجعله من قلة من الكتاب يختلط الشكل لديها بالمضمون ويصبحان كلاً واحداً من دون أن تزعم كتابته أنها كتابة تقول درساً، أو تقول غير ما تحمله في قراءتها الأولى. لدى كورتاثار المهم هو ما تقوله الكلمات، ما ترويه السطور، لا العبر التي يمكن أن تستخلص منها. المهم لديه هو تلك العلاقة التي ترتسم منذ الوهلة الأولى بين القارئ والنص. والمدهش هنا هو أن هذه القراءة الأولى، والعلاقة التي تنبني من خلالها، تحوج القارئ دائماً إلى قراءات متتالية للنص نفسه، ولكن - وهنا يكمن جوهر الأمر - لا تأتي القراءات المتتالية لتفسير غموض ما، ولا لاستخلاص عبرة أو درس، أو للوصول إلى قراءة من الدرجة الثانية، بل تأتي لترسيخ القراءة الأولى نفسها، وللإجابة عن سؤال أساسي ينتاب القارئ أمام كل نص من نصوص كورتاثار: ترى أين رسم الكاتب تلك النقلة التي نجدها في نصه، من الواقع إلى الخيال والعكس بالعكس؟ وذلك لأن معظم نصوص خوليو كورتاثار (ولا سيما في قصصه القصيرة) هي نصوص عن أمور تجري في نقطة ما... بين ما هو واقع فعلاً، وما يدور في مخيلة الراوي (أو الكاتب، أو القارئ... لا فرق). في نصوص كورتاثار ومن دون أي تعمد تختلط الحقيقة بالفانتازيا اختلاطاً عضوياً، ومن ذلك الاختلاط يطلع الموضوع في ارتباطه بالشكل الأسلوبي الذي تتخذه كلمات النص.
سياسة ولكن على هامش الأدب
منذ مبارحته الأرجنتين بصورة شبه نهائية في عام 1951، وحتى وفاته في فرنسا بعد ذلك بما يقرب من ثلث قرن، ربما كان خوليو كورتاثار، أكثر زملائه التزاماً من الناحية السياسية (بوقوفه ضد الديكتاتورية من ناحية، وإلى جانب الزعيم الكوبي فيدل كاسترو من ناحية ثانية، وضد حرب فيتنام والولايات المتحدة من ناحية ثالثة)، غير أن هذا الكاتب لم يحاول أبداً أن يجعل من كتاباته الأدبية صوتاً لنضاله السياسي، كان يصر دائماً على أن للأدب قضيته الخاصة (من دون أن يعني بهذا أن له دوراً!)، وقضية الأدب بالنسبة إلى كورتاثار كانت على الدوام إعادة خلق عالم ثالث، يقف بين العالم المعيش والعالم المتخيل: أجل، يمثل الأدب بالنسبة إليه اختلاطاً بين العالمين، لكنه اختلاط يطلع منه شيء مختلف عن العالمين معاً، شيء ثالث هو ذلك المناخ الفانتازي، الذي لا تعود معه الفتاة التي حلمت أنها فراشة، تعلم ما إذا كانت فتاة حلمت أنها فراشة، أو هي فراشة تحلم أنها فتاة .
تلك اللحظة المعينة
من هنا، يلاحظ قارئ قصص كورتاثار (سواء في مجموعته الأشهر "الأسلحة السرية" أو "مراقد" أو غيرهما) أن لكل نص لحظة معينة، من العسير تبين موضعها في سياق القصة، من القراءة الأولى، وربما حتى في أي قراءة تالية، لحظة معينة تشكل نقطة الانتقال، وليس في اتجاه واحد بالطبع، بين العالم المعيش والعالم المتخيل. فمثلاً في قصة "الأكسولوتل" أو (السمندر) يعجز القارئ عن تبين اللحظة التي يتحول فيها الراوي إلى تلك السمكة التي تراقب الراوي وهو يدخل إلى مقرها في حديقة النبات في باريس. وفي قصة "ابن العذراء" (التي اقتبس عنها المخرج الإيطالي الكبير أنطونيوني فيلمه "الانفجار") لا يعرف القارئ ما إذا كانت الجثة في البارك حقيقية... أم أن الحكاية كلها من نسج الفتى بطل القصة من خلال ترصده حركة الشجر في البارك في يوم خريفي... وذلكم هو بالطبع مغزى الفقرة الأخيرة حين يشترك "البطل" في لعبة كرة المضرب الوهمية. وفي قصة "نهاية مرحلة" لسنا ندري ما إذا كانت البطلة ديانا تتخيل، أم تشاهد حقاً، فتاة ميتة تشبهها مرسومة وسط ديكور المطبخ الموحش في البيت الذي تغمره الشمس، في آخر لوحة تراها حين تتوقف لساعة في قرية مرمية وسط طريق رحلتها الطويل. وفي قصة "استمرارية الحدائق" يختلط ما يقرأه بطل القصة، وما يراه في الحدائق المخضرة أمامه، ويختلط بساط الحديقة ببساط الغرفة الأخضر، بحيث يصبح البطل وهو غارق في كتابه، غارقاً أيضاً وسط لون أخضر لا ينتهي. وفي قصة "المدرسة... في الليل" يضيع الراوي وسط حفل تنكري في غرفة في المدرسة خلال الليل، يشبه طقوساً وثنية تسيطر عليها الأقنعة والعلاقات. وفي قصة "الرحلة الثانية" يختلط الفتى الراوي ببطله الملاكم، بحيث لا نعود نعرف، في لحظة من اللحظات، من يروي حكاية من.
قراءات لا تنتهي
عينات من مواقع ومشاهد سنجد العشرات المماثلة لها إن نحن تحرينا بدقة تفاصيل أدب كورتاثار. وأدب هذا الكاتب هو من ذلك النوع الذي تجد نفسك بحاجة إلى العودة إليه في كل مرة لتجد نفسك منكباً من جديد على قراءة نصوص كنت قد قرأتها من قبل. وفي كل مرة تكتشف في النصوص جديداً: صورة من هنا، لمحة من هناك، عبارة ضائعة بين الكلمات. وهذه الصور واللمحات والعبارات، سرعان ما تساعدك على تشكيل عالم النص من جديد، ومن جديد تجد نفسك عاجزاً، عن إدراك "اللحظات التي تتم فيها عملية الانتقال من المعيش إلى المتخيل".
هي لعبة، في نهاية الأمر، تلك التي يمارسها كورتاثار في أدبه لكنها ليست لعبة أسلوبية بأي حال من الأحوال، هي بالأحرى لعبة يشاء لها الكاتب أن تكون أشبه بلعبة العيش نفسه، بلعبة الذاكرة، بلعبة الحياة الممكنة الواقفة بالتوازي مع الحياة الفعلية. وبالنسبة إلى كورتاثار لا يمكن للحياة الممكنة أن توجد إلا في الأدب. فهي لو وجدت في الحياة الفعلية، لو أضحت جزءاً من الواقع المعيش، لن تعود ممكنة: ستصبح عادية، والأدب ضد العادي، لأن العادي هو جزء فقط من الحياة الحقيقية، الحياة الحقيقية هي ذلك المزج بين الممكن (الذي هو في الوقت نفسه المستحيل الحدوث) والواقع. ومهمة الأدب خلق الحياة الممكنة والإصرار عليها، وجعلها عبر الكلمات والصور دائمة الوجود في مكان ما، يقع بين الذاكرة والمخيلة، وعادية اليومي.
الممكن - المستحيل
وهذه النظرة إلى الأدب، إذا كانت تجد جذورها في أزمان سحيقة من تاريخ الكتابة، وشكلت زوادة الأدب الدائمة منذ الملاحم الما - قبل - تاريخية، حتى أدب أميركا اللاتينية مروراً بشكسبير وثرفانتس ودانتي وألف ليلة وليلة والمعري، فإنها لدى كورتاثار تبدو مغايرة لما اعتادت أن تكون عليه. فالأدب اعتاد دائماً أن يعيش فصلاً بين جانبه الواقعي وجانبه الخيالي، بين التاريخي والأسطوري، أي بين ما هو حادث وما هو مستحيل، أما لدى كورتاثار (وهو في هذا يعتبر ابناً باراً ومتفوقاً لتيار الواقعية السحرية) ثمة مجال لثالث هو: الممكن – المستحيل.
لقد قلنا إن كورتاثار لم يكن أول من أقام ذلك المزج الصحي بين المعيش والمتخيل، غير أن المزج كان دائماً بالنسبة إلى كورتاثار قضية مبدئية لا جدال حولها، بل وقضية نضالية حتى، لأن لا شيء، برأيه، أقدر على إثارة الوعي بالتالي تحريك إنسانية الإنسان وحسه الثوري الدفين في أعماقه، من ذلك المستحيل وقد أضحى على الورق ممكناً، بل وواقعاً معيشاً. وفي اعتقادنا أن هذا الفهم لقضية الأدب ولقضية الثورة، بالتالي، هو الذي سيجعل أدب خوليو كورتاثار، واحداً من الآداب التي ستظل حية وفاعلة، بعد أن ينسى أدب كثيرين من زملائه وشركائه في "فورة" الأدب اللاتيني، وذلك لسبب بسيط للغاية وهو أن أدب كورتاثار أدب يقلق، ويوقظ مخيلة القارئ من نومها، ويخلق في الجسد رعشة، هي أشبه بتلك الرعشة التي تنتج عن الإحساس ببرودة الموت في لحظات بعض الظهر الصيفية الخانقة... تلك اللحظات التي ندر أن صورها كاتب في القرن العشرين كما صورها كورتاثار.