الأسطورة والملحمة وسير الأبطال والقديسين وأصحاب الكرامات: الملاحم epics وقصص البطولة sagas وسير الأبطال legends حكايات تدعي الحقيقة وتروي أحداثها نثراً أو شعراً بأسلوب قصصي يصعب إسناده إلى مؤلف معين، وهي تشتمل على بعض الحقائق التاريخية وبعض الأمور الخارقة التي لم يألفها الناس مثل سير القديسين وسير عنترة والزير سالم وذات الهمة، وهي تبدو من هذه الناحية شديدة الشبه بالأسطورة إلا أن زمن الفعل فيها ومكانه محددان وليسا مطلقين كما في الخرافة وحكايا الجن. أما البطل في هذه القصص فمن الأجداد العظام أو الأولياء وأصحاب الكرامات والقديسين، أو من ذوي الحلم والشجاعة الذين يقومون بأعمال تفوق قدرة البشر العاديين، ويتحلون بأخلاق حميدة وخصال فريدة لا تتوافر لأكثر الناس. وقد يكون في هذا النوع من القصص دور لكائن خارق أو ملاك حارس يساعد البطل وينقذه في ساعة الشدة أو يهيء له سبل النجاح، كما في سيرة سيف بن ذي يزن. وربما كان ذلك الكائن شخصية أسطورية مشهورة يعرفها القارئ أو المستمع، فتختلط السيرة بالأسطورة وتنتحل صفتها وواقعيتها واعتراف المجتمع بها.
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الأنواع الأدبية التي تحاكي الأسطورة أو تتلبس بها حددتها وجهات نظر علمية غربية ، وقد تخلو منها أو من بعضها أنواع التراث الأخرى عند الشعوب المختلفة، سواء كانت تلك الشعوب بدائية أو متقدمة في مدارج الحضارة. وفي التراث العربي تمييز واضح بين الأسطورة والخرافة والحكاية والسيرة التي يتناقلها الرواة و«الحكواتية».
وظيفة الأسطورة
للأسطورة وظائف كثيرة ومتنوعة تحددها الغاية منها. وفي مقدمة هذه الوظائف الشرح والتفسير والإخبار؛ إذ تهدف أكثر الأساطير إلى تفسير الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والثقافية والبيئية في مجتمع ما وخاصة المجتمعات البدائية. ولا يعني ذلك أن كل الأساطير تحاكي حكايا العلة ، ولكن هذه الوظيفة تحتل مكانة مهمة في التراث الإنساني لأنها تساعد على فهم الأسس التي قامت عليها الأسطورة.
ومن وظائف الأسطورة الأخرى التسويغ والبرهان، فهي تجيب عن الأسئلة التي لها علاقة بطبيعة شعيرة من الشعائر التي يمارسها المجتمع أو عادة من العادات التي تسود فيه. ففي جزيرة سيرام في إندونيسية أسطورة تتحدث عن الحياة والموت كما عرفهما الإنسان. وتزعم الأسطورة أن الإنسان لم يكن يعرف في البدء معنى الحياة والموت والجنس، ولم تكن حياته إنسانية على النحو المعروف، ولم تكن هناك حيوانات أو نباتات حتى ظهرت «هينويل» Hainowele، وهي فتاة جميلة تملك قدرات خارقة وتمنح الهبات لمن تشاء فقتلها الناس في نهاية احتفال مهيب، وكان من نتائج عملية القتل الأولى هذه أن عرف الناس معنى الموت ، وصار للحياة وجود. وتغلب سمة التفاؤل على الأسطورة عند تسويغ أحداثها فتجعلها حية معاشة، وتبدو الشعيرة أو التقليد إحياء لذكرى تلك الأحداث الأولى.
ويسعى علم الأساطير المقارن إلى إيجاد العلاقات التي تربط بين بعض العادات والتقاليد المتأصلة في أكثر المجتمعات، إذ يلاحظ مثلاً اشتراك المجتمعات الزراعية في تقديم الأضاحي والقرابين. أما أكثر الموضوعات التي تطرقها الأساطير شيوعا فهي تلك التي تسوغ شعائر تجدد الحياة والزمن والجنس والحياة بعد ا لموت، فالحبة تموت لتلد السنبلة، والعام الجديد يقوم على رفات العام الماضي، ولا تشذ احتفالات الميلاد عن تلك القاعدة. وقد وجدت الأسر الحاكمة في أكثر الحضارات القديمة مسوغ وجودها وموقعها من المجتمع في الأساطير التي حيكت حولها، وأكثر تلك الأسر يؤكد أن أصوله ترجع إلى عالم الآلهة أو إلى السماء العليا، أو أنها سليلة الشمس أو القمر، وهذا ما تتحدث عنه أساطير الصين واليابان والهند ومصر القديمة وبابل وسومر وشعوب الأنكا والمايا من الهنود الحمر. وقد يكون التركيب الطبقي كله عند بعض الشعوب قائماً على مثل هذه الأسس الأسطورية الموغلة في القدم، ولايوجد مجتمع واحد لاترجع فيه تقاليد الزواج والدفن إلى أصول تتصل بتراثه وأساطيره.
وللوصف في الأسطورة مكانة مميزة ترتبط بأسلوب طرحها الحقائق التي تسمو عن المشاهدة والملاحظة. فقد تصف بعض الأساطير أصل العالم ونهايته والحياة في الفردوس الأعلى بأسلوب لا يمكن للإنسان العادي تصوره أو تلمسه حقيقة، ولعل هذه الوظيفة هي التي تمنح الأسطورة قيمتها التربوية في المجتمعات التقليدية، وعلى هذا النحو تبدو الأساطير نماذج تعليمية نظرية وعملية ، وهي في المجتمعات البدائية الوسيلة الوحيدة لفهم التعاليم المتوارثة في غياب التعليل الفلسفي، وتعبير عن حاجة الإنسان إلى المعرفة. وهذا يعني أن الأسطورة ليست مجرد إرث من الماضي، ولا تنتهي بزوال الثقافات البدائية والحضارات القديمة . ففي كل تراث مجموعة أساطير تؤلف المحور الذي يرتكز إليه ذلك التراث، يضاف إليها مجموعة أساطير يتصل كل منها بقطاع معين من قطاعات المجتمع، أو يختص بوظيفة من وظائفه ويرتبط بالأسطورة الأصل، وغالباً ما تكون هذه الأسطورة الأصل معنية بنشأة الكون cosmogony أو الخلق creation الذي هو سبب الوجود، وكثيراً ما ترتبط حوادث الأسطورة التي يقوم عليها وجود الإنسان بنشأة العالم وأصله. ومن ذلك مثلاً احتفالات تنصيب الملوك في بعض الحضارات القديمة التي تستلهم طقوسها من قصة خلق العالم أو تجدده، ولبعض أساطير الخلق دور مميز في طقوس شفاء المرضى أو دفع الخطر، وما محاولات شفاء المرضى في ممارسات السحرة والأطباء الشعبيين بتلاوة الترانيم أو التعاويذ التي تتحدث عن أصل الكون إلا جزءاً من هذه الطقوس. ومن ذلك أيضاً استلهام الشعر باسترجاع الأحداث الأسطورية والاستعانة بشيطان الشعر أو آلهة الفن والأدب. والوظيفة الشعرية والفنية للأساطير معروفة في التراث البدائي والقديم، وهي مصدر كل التعابير الأدبية في تلك الحضارات التي لم تكن تعرف التخصص والفصل التام بين الصيغ الفنية. ولاشك في أن للأساطير الجيدة الحبكة والأسلوب أثراً كبيراً في تطور الثقافة والفن في العالم أجمع.
تطور الأسطورة
كان الإنسان البدائي يعيش في مجتمع مؤلف من أقرب أقاربه، ولايعرف من العلاقات الاجتماعية سوى الأسرية منها، ولم يكن يرى فيما يحيط به إلا صورة تلك العلاقة، فالأرض والسماء والنباتات والحيوانات كلها في نظره مجتمع أسري تربطه روابط القربى، و كان يعتقد أن كل هذه الأشياء تفكر وتملك من الذكاء ما يملكه البشر. ويمكن للمرء تلمس هذه التصورات معممة في أساطير أكثر الشعوب. كذلك كان الإنسان البدائي ينظر إلى الحِرَف كلها نظرته إلى كائن حي عاقل يدير أعمالها ويقوم بها ويعتقد أن لها حارساً يحميها، ومن هنا جاءت النماذج الأسطورية للآلهة الحرفيين والفلاحين والرعاة والمحاربين وغيرهم. فالإله فيليس (الشَعْر) عند السلافيين هو إله القطعان وحامي البيوت والثروة، ودامون عند الكلتيين هو إله المراعي والرعاة، ومثلهما الربة أثينة عند اليونان وإيريش عند الأبخاز، وكذلك آلهة الثمار والنبات والآلهة الحارسة عند شعوب الأزتيك وفي نيوزلندة وفي نيجيرية.
لم يتكون مفهوم الأسطورة عند الشعوب دفعة واحدة، فقد كانت الأسطورة في أنماطها الأولى تقوم على «البُدّية» fetishism وهي الاعتقاد بأن للأشياء أرواحاً تسكنها، أو الاعتقاد بوحدة الشيء والفكر في الشيء نفسه. ثم غلبت «الطوطمية» totemism وهي بدّية المجتمع أو القبيلة ممثلة في شخص مؤسس ذلك المجتمع أو القبيلة، ثم سادت بعد ذلك «الأرواحية» (الأحيائية) animism وهي درجة أعلى في تطور الفكر الإنساني، ومذهب يعتقد بحيوية المادة وأن لكل شيء في الكون،وللكون ذاته، روحاً ونفساً. ومنذ ذلك الحين بدأ الإنسان يميز الفكرة في الشيء من الشيء نفسه.
ومع تطور الفكر المعمم والمجرد ارتقت الأسطورة درجة أخرى في مضمار التطور، وصارت إلى الرمزية ثم إلى الاعتقاد بوجود أب واحد للبشر وللآلهة كلهم مع الاحتفاظ بقدر كبير من البديّة والأرواحية، فغدا زيوس Zeus الأولمبي اليوناني متفوقاً على أسلافه في العالم السفلي، وأصبحت الآلهة خاضعة له بصفتها من ذراريه. ويضفي هوميروس على زيوس الكثير من الملامح القديمة السابقة لعصر الأولمبياد فيبدو شخصية تاريخية معقدة ومتعددة الأشكال. ومثل زيوس في ذلك الآلهة الأعلون خالقو العالم عند شعوب بولينيزية وتاهيتي وشعب الياقوت وكثير من قبائل إفريقية وإن اختلفت أسماؤهم وصفاتهم ووظائفهم ودرجات ألوهيتهم كما تتحدث عنها الأساطير.
ومن الموازنة بين النماذج الأسطورية في العصور التاريخية المختلفة يتبين أن الأسطورة انتقلت تدريجياً من العشوائية إلى الترتيب المتناسق. فقد كانت النماذج الأسطورية في عصر الأمومة بعيدة كل البعد عن الانسجام التشكيلي المتأخر، ومصوغة صياغة خرقاء غير متقنة، إن لم تكن مشوهة، وتصادف فيها الهُولات والمسوخ برأسين أو بثلاثة رؤوس أو أكثر، كما تصادف فيها العجائز الشمطاوات والعمالقة والجبابرة وكل ما لا يخطر على البال من المخلوقات الشريرة والحاقدة. ومن أمثلة ذلك سيدة العالم عند البابليين «تيامات» الشبيهة بالهُولة، والروح القاتلة ذات الساق الواحدة عند شعوب أسترالية والرب أورو المتعطش للدماء في تاهيتي، والجبابرة السبعة أكلة البشر عند هنود أمريكة الشمالية وغيرهم.
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الأنواع الأدبية التي تحاكي الأسطورة أو تتلبس بها حددتها وجهات نظر علمية غربية ، وقد تخلو منها أو من بعضها أنواع التراث الأخرى عند الشعوب المختلفة، سواء كانت تلك الشعوب بدائية أو متقدمة في مدارج الحضارة. وفي التراث العربي تمييز واضح بين الأسطورة والخرافة والحكاية والسيرة التي يتناقلها الرواة و«الحكواتية».
وظيفة الأسطورة
للأسطورة وظائف كثيرة ومتنوعة تحددها الغاية منها. وفي مقدمة هذه الوظائف الشرح والتفسير والإخبار؛ إذ تهدف أكثر الأساطير إلى تفسير الظاهرات الطبيعية والاجتماعية والثقافية والبيئية في مجتمع ما وخاصة المجتمعات البدائية. ولا يعني ذلك أن كل الأساطير تحاكي حكايا العلة ، ولكن هذه الوظيفة تحتل مكانة مهمة في التراث الإنساني لأنها تساعد على فهم الأسس التي قامت عليها الأسطورة.
|
ويسعى علم الأساطير المقارن إلى إيجاد العلاقات التي تربط بين بعض العادات والتقاليد المتأصلة في أكثر المجتمعات، إذ يلاحظ مثلاً اشتراك المجتمعات الزراعية في تقديم الأضاحي والقرابين. أما أكثر الموضوعات التي تطرقها الأساطير شيوعا فهي تلك التي تسوغ شعائر تجدد الحياة والزمن والجنس والحياة بعد ا لموت، فالحبة تموت لتلد السنبلة، والعام الجديد يقوم على رفات العام الماضي، ولا تشذ احتفالات الميلاد عن تلك القاعدة. وقد وجدت الأسر الحاكمة في أكثر الحضارات القديمة مسوغ وجودها وموقعها من المجتمع في الأساطير التي حيكت حولها، وأكثر تلك الأسر يؤكد أن أصوله ترجع إلى عالم الآلهة أو إلى السماء العليا، أو أنها سليلة الشمس أو القمر، وهذا ما تتحدث عنه أساطير الصين واليابان والهند ومصر القديمة وبابل وسومر وشعوب الأنكا والمايا من الهنود الحمر. وقد يكون التركيب الطبقي كله عند بعض الشعوب قائماً على مثل هذه الأسس الأسطورية الموغلة في القدم، ولايوجد مجتمع واحد لاترجع فيه تقاليد الزواج والدفن إلى أصول تتصل بتراثه وأساطيره.
وللوصف في الأسطورة مكانة مميزة ترتبط بأسلوب طرحها الحقائق التي تسمو عن المشاهدة والملاحظة. فقد تصف بعض الأساطير أصل العالم ونهايته والحياة في الفردوس الأعلى بأسلوب لا يمكن للإنسان العادي تصوره أو تلمسه حقيقة، ولعل هذه الوظيفة هي التي تمنح الأسطورة قيمتها التربوية في المجتمعات التقليدية، وعلى هذا النحو تبدو الأساطير نماذج تعليمية نظرية وعملية ، وهي في المجتمعات البدائية الوسيلة الوحيدة لفهم التعاليم المتوارثة في غياب التعليل الفلسفي، وتعبير عن حاجة الإنسان إلى المعرفة. وهذا يعني أن الأسطورة ليست مجرد إرث من الماضي، ولا تنتهي بزوال الثقافات البدائية والحضارات القديمة . ففي كل تراث مجموعة أساطير تؤلف المحور الذي يرتكز إليه ذلك التراث، يضاف إليها مجموعة أساطير يتصل كل منها بقطاع معين من قطاعات المجتمع، أو يختص بوظيفة من وظائفه ويرتبط بالأسطورة الأصل، وغالباً ما تكون هذه الأسطورة الأصل معنية بنشأة الكون cosmogony أو الخلق creation الذي هو سبب الوجود، وكثيراً ما ترتبط حوادث الأسطورة التي يقوم عليها وجود الإنسان بنشأة العالم وأصله. ومن ذلك مثلاً احتفالات تنصيب الملوك في بعض الحضارات القديمة التي تستلهم طقوسها من قصة خلق العالم أو تجدده، ولبعض أساطير الخلق دور مميز في طقوس شفاء المرضى أو دفع الخطر، وما محاولات شفاء المرضى في ممارسات السحرة والأطباء الشعبيين بتلاوة الترانيم أو التعاويذ التي تتحدث عن أصل الكون إلا جزءاً من هذه الطقوس. ومن ذلك أيضاً استلهام الشعر باسترجاع الأحداث الأسطورية والاستعانة بشيطان الشعر أو آلهة الفن والأدب. والوظيفة الشعرية والفنية للأساطير معروفة في التراث البدائي والقديم، وهي مصدر كل التعابير الأدبية في تلك الحضارات التي لم تكن تعرف التخصص والفصل التام بين الصيغ الفنية. ولاشك في أن للأساطير الجيدة الحبكة والأسلوب أثراً كبيراً في تطور الثقافة والفن في العالم أجمع.
تطور الأسطورة
كان الإنسان البدائي يعيش في مجتمع مؤلف من أقرب أقاربه، ولايعرف من العلاقات الاجتماعية سوى الأسرية منها، ولم يكن يرى فيما يحيط به إلا صورة تلك العلاقة، فالأرض والسماء والنباتات والحيوانات كلها في نظره مجتمع أسري تربطه روابط القربى، و كان يعتقد أن كل هذه الأشياء تفكر وتملك من الذكاء ما يملكه البشر. ويمكن للمرء تلمس هذه التصورات معممة في أساطير أكثر الشعوب. كذلك كان الإنسان البدائي ينظر إلى الحِرَف كلها نظرته إلى كائن حي عاقل يدير أعمالها ويقوم بها ويعتقد أن لها حارساً يحميها، ومن هنا جاءت النماذج الأسطورية للآلهة الحرفيين والفلاحين والرعاة والمحاربين وغيرهم. فالإله فيليس (الشَعْر) عند السلافيين هو إله القطعان وحامي البيوت والثروة، ودامون عند الكلتيين هو إله المراعي والرعاة، ومثلهما الربة أثينة عند اليونان وإيريش عند الأبخاز، وكذلك آلهة الثمار والنبات والآلهة الحارسة عند شعوب الأزتيك وفي نيوزلندة وفي نيجيرية.
لم يتكون مفهوم الأسطورة عند الشعوب دفعة واحدة، فقد كانت الأسطورة في أنماطها الأولى تقوم على «البُدّية» fetishism وهي الاعتقاد بأن للأشياء أرواحاً تسكنها، أو الاعتقاد بوحدة الشيء والفكر في الشيء نفسه. ثم غلبت «الطوطمية» totemism وهي بدّية المجتمع أو القبيلة ممثلة في شخص مؤسس ذلك المجتمع أو القبيلة، ثم سادت بعد ذلك «الأرواحية» (الأحيائية) animism وهي درجة أعلى في تطور الفكر الإنساني، ومذهب يعتقد بحيوية المادة وأن لكل شيء في الكون،وللكون ذاته، روحاً ونفساً. ومنذ ذلك الحين بدأ الإنسان يميز الفكرة في الشيء من الشيء نفسه.
ومع تطور الفكر المعمم والمجرد ارتقت الأسطورة درجة أخرى في مضمار التطور، وصارت إلى الرمزية ثم إلى الاعتقاد بوجود أب واحد للبشر وللآلهة كلهم مع الاحتفاظ بقدر كبير من البديّة والأرواحية، فغدا زيوس Zeus الأولمبي اليوناني متفوقاً على أسلافه في العالم السفلي، وأصبحت الآلهة خاضعة له بصفتها من ذراريه. ويضفي هوميروس على زيوس الكثير من الملامح القديمة السابقة لعصر الأولمبياد فيبدو شخصية تاريخية معقدة ومتعددة الأشكال. ومثل زيوس في ذلك الآلهة الأعلون خالقو العالم عند شعوب بولينيزية وتاهيتي وشعب الياقوت وكثير من قبائل إفريقية وإن اختلفت أسماؤهم وصفاتهم ووظائفهم ودرجات ألوهيتهم كما تتحدث عنها الأساطير.
ومن الموازنة بين النماذج الأسطورية في العصور التاريخية المختلفة يتبين أن الأسطورة انتقلت تدريجياً من العشوائية إلى الترتيب المتناسق. فقد كانت النماذج الأسطورية في عصر الأمومة بعيدة كل البعد عن الانسجام التشكيلي المتأخر، ومصوغة صياغة خرقاء غير متقنة، إن لم تكن مشوهة، وتصادف فيها الهُولات والمسوخ برأسين أو بثلاثة رؤوس أو أكثر، كما تصادف فيها العجائز الشمطاوات والعمالقة والجبابرة وكل ما لا يخطر على البال من المخلوقات الشريرة والحاقدة. ومن أمثلة ذلك سيدة العالم عند البابليين «تيامات» الشبيهة بالهُولة، والروح القاتلة ذات الساق الواحدة عند شعوب أسترالية والرب أورو المتعطش للدماء في تاهيتي، والجبابرة السبعة أكلة البشر عند هنود أمريكة الشمالية وغيرهم.
|