سلمان عز الدين
ترعبنا كتب المستقبليات التي تصف لنا العالم في ظل التكنولوجيا الفائقة والذكاء الصناعي، وهو ما سندركه، ربما، بعد سنوات ليست بالكثيرة.
عالم كابوسي يذكّر برواية "عالم جديد شجاع" لـ ألدوس هكسلي، أو حتى بـ "1984" جورج أورويل. ولقد سبق لكتب أخرى ولأفلام سينمائية عديدة أن تكهنت كيف سيكون شكل هذه الحياة القادمة، وما هي أهم مفرداتها، وما هو حال الإنسان فيها.. والصورة الغالبة هي روبوتات وآلات بالغة الذكاء، سوف تتسيد العالم، محولة الإنسان الذي اخترعها إلى عبد نادم على ما اقترفت يداه.
كيف نستمتع بموسيقى ما، مع شك يداخلنا بأنها ربما لا تكون نتاج روح بشرية، بل تلفيق تطبيق تكنولوجي لا روح له؟ وهل يقوى الذكاء الصناعي على إبداع فن تشكيلي وأدب؟
يطمئننا المتفائلون أن مخاوفنا ليست سوى عداء لما نجهل، أوهام سبق لأسلافنا أن عاشوها على عتبة العصر الذي نحيا فيه الآن بأمان وسلاسة. ألم يشعر هؤلاء بالرعب من الكهرباء والطائرات والسيارات والتلفزيون والإذاعة.. ألم يقولوا إنه سيكون زمنًا يستحيل العيش فيه؟!
ويضيف المتفائلون: إن الإنسان سوف يبقى سيد الكون والمتحكم الأوحد بمخترعاته التكنولوجية مهما بلغ تطورها، وإن كلمة "الذكاء الصناعي" يجب أن لا تخدعنا، فالذكاء هو ذكاء الإنسان الذي اخترعها وبرمجها وسيرها..
ربما يكون هذا صحيحًا، وعلى الأقل يجب أن لا نغفل أهمية هذا الرأي ولا ننكر وجاهته. ولكن، مع ذلك، يبقى مقلقًا أن تدخل الروبوتات ميادين كثيرة لطالما اعتبرناها جزءًا من طبيعة البشر، أو علامة حصرية على تفردهم: رسم لوحة، تأليف مقطوعة موسيقية، كتابة قصة أو قصيدة، إعداد بحث في التاريخ..
يقدم "تشات جي بي تي" نموذجًا مبكرًا يحمل الكثير من الإشارات والسمات الدالة. وقد جربه أمامنا صديق يجمع الفضول نحو التكنولوجيا والخوف منها. طلب منه أن يكتب جملًا قصيرة محددة الكلمات عن موضوعات شتى، فكان الـ"تشات" يخطئ في كل مرة: يكتب جملة من أربع كلمات بدلًا من خمسة، وثلاث كلمات بدلًا من أربعة.. وعندما طلب صديقنا مقالة طويلة تتحدث عن "العدالة الاجتماعية" كهدف لنضالات البشر، استجاب "التطبيق" بأن قدم خطبة إنشائية جافة بلا روح ولا نكهة، ليس فيها معلومة أو فكرة أو رؤية محددة.. تجميع وحشد ميكانيكي لكلمات تدور بالكاد حول الموضوع..
هل ينجح هذا في طمأنة الخائفين؟ لا، وعلى الخائفين أن يظلوا كذلك، فالتطبيق التكنولوجي هذا لا يزال في بدايته، وإمكانيات تطويره وتنقيحه كبيرة جدًا، وهو، على الأرجح، سيغدو في وقت قريب قادرًا على ضبط عدد كلمات الجمل المطلوبة، وعلى كتابة مقالة أكثر حيوية، باستشهادات مناسبة ومقبوسات تغني الموضوع.. الشيء الذي يثير أسئلة عديدة: ماذا سيفعل المدرسون إزاء تلاميذهم الذين يكلفون "تشات جي بي تي" بكتابة موضوعاتهم وواجباتهم المدرسية؟ وماذا سيفعل رؤساء التحرير مع صحفييهم الذين يكتب الـ"تشات" مقالاتهم نيابة عنهم؟ وما الذي يتبقى للباحثين في التاريخ من عمل إذا كان الذكاء الصناعي قادرًا على تقديم بحوث مثلهم؟.
كيف نستمتع بموسيقى ما، مع شك يداخلنا بأنها ربما لا تكون نتاج روح بشرية، بل تلفيق تطبيق تكنولوجي لا روح له؟
وهل يقوى الذكاء الصناعي على إبداع فن تشكيلي وأدب وموسيقى.. تبقى ملاذات للقلب البشري الهارب من واقع قاس كالح وعديم الرحمة؟
أما عني فقد وجدت دواء ناجعًا لمثل هذا القلق، وهو أن أشحذ حسي بالواقع من حولي، وبالوضع الحقيقي لوجودي، ما يقودني إلى تقريع يحسم المسألة: كيف لشخص تغيب الكهرباء عشرين ساعة عن يومه، ويمثل "لوح الطاقة الشمسية" العنوان الأبرز على إعجاز التكنولوجيا في مدينته.. كيف لشخص كهذا أن يتيح لنفسه ترف القلق من الذكاء الصناعي؟!
وأيًا يكن شكل المستقبل الذي سيأتي به الذكاء الصناعي، فهل سيكون أكثر عبوسًا وتجهمًا من الراهن القائم في ظل غياب شبه تام لأي ذكاء، سواء كان بشريًا أم صناعيًا؟
ترعبنا كتب المستقبليات التي تصف لنا العالم في ظل التكنولوجيا الفائقة والذكاء الصناعي، وهو ما سندركه، ربما، بعد سنوات ليست بالكثيرة.
عالم كابوسي يذكّر برواية "عالم جديد شجاع" لـ ألدوس هكسلي، أو حتى بـ "1984" جورج أورويل. ولقد سبق لكتب أخرى ولأفلام سينمائية عديدة أن تكهنت كيف سيكون شكل هذه الحياة القادمة، وما هي أهم مفرداتها، وما هو حال الإنسان فيها.. والصورة الغالبة هي روبوتات وآلات بالغة الذكاء، سوف تتسيد العالم، محولة الإنسان الذي اخترعها إلى عبد نادم على ما اقترفت يداه.
كيف نستمتع بموسيقى ما، مع شك يداخلنا بأنها ربما لا تكون نتاج روح بشرية، بل تلفيق تطبيق تكنولوجي لا روح له؟ وهل يقوى الذكاء الصناعي على إبداع فن تشكيلي وأدب؟
يطمئننا المتفائلون أن مخاوفنا ليست سوى عداء لما نجهل، أوهام سبق لأسلافنا أن عاشوها على عتبة العصر الذي نحيا فيه الآن بأمان وسلاسة. ألم يشعر هؤلاء بالرعب من الكهرباء والطائرات والسيارات والتلفزيون والإذاعة.. ألم يقولوا إنه سيكون زمنًا يستحيل العيش فيه؟!
ويضيف المتفائلون: إن الإنسان سوف يبقى سيد الكون والمتحكم الأوحد بمخترعاته التكنولوجية مهما بلغ تطورها، وإن كلمة "الذكاء الصناعي" يجب أن لا تخدعنا، فالذكاء هو ذكاء الإنسان الذي اخترعها وبرمجها وسيرها..
ربما يكون هذا صحيحًا، وعلى الأقل يجب أن لا نغفل أهمية هذا الرأي ولا ننكر وجاهته. ولكن، مع ذلك، يبقى مقلقًا أن تدخل الروبوتات ميادين كثيرة لطالما اعتبرناها جزءًا من طبيعة البشر، أو علامة حصرية على تفردهم: رسم لوحة، تأليف مقطوعة موسيقية، كتابة قصة أو قصيدة، إعداد بحث في التاريخ..
يقدم "تشات جي بي تي" نموذجًا مبكرًا يحمل الكثير من الإشارات والسمات الدالة. وقد جربه أمامنا صديق يجمع الفضول نحو التكنولوجيا والخوف منها. طلب منه أن يكتب جملًا قصيرة محددة الكلمات عن موضوعات شتى، فكان الـ"تشات" يخطئ في كل مرة: يكتب جملة من أربع كلمات بدلًا من خمسة، وثلاث كلمات بدلًا من أربعة.. وعندما طلب صديقنا مقالة طويلة تتحدث عن "العدالة الاجتماعية" كهدف لنضالات البشر، استجاب "التطبيق" بأن قدم خطبة إنشائية جافة بلا روح ولا نكهة، ليس فيها معلومة أو فكرة أو رؤية محددة.. تجميع وحشد ميكانيكي لكلمات تدور بالكاد حول الموضوع..
هل ينجح هذا في طمأنة الخائفين؟ لا، وعلى الخائفين أن يظلوا كذلك، فالتطبيق التكنولوجي هذا لا يزال في بدايته، وإمكانيات تطويره وتنقيحه كبيرة جدًا، وهو، على الأرجح، سيغدو في وقت قريب قادرًا على ضبط عدد كلمات الجمل المطلوبة، وعلى كتابة مقالة أكثر حيوية، باستشهادات مناسبة ومقبوسات تغني الموضوع.. الشيء الذي يثير أسئلة عديدة: ماذا سيفعل المدرسون إزاء تلاميذهم الذين يكلفون "تشات جي بي تي" بكتابة موضوعاتهم وواجباتهم المدرسية؟ وماذا سيفعل رؤساء التحرير مع صحفييهم الذين يكتب الـ"تشات" مقالاتهم نيابة عنهم؟ وما الذي يتبقى للباحثين في التاريخ من عمل إذا كان الذكاء الصناعي قادرًا على تقديم بحوث مثلهم؟.
كيف نستمتع بموسيقى ما، مع شك يداخلنا بأنها ربما لا تكون نتاج روح بشرية، بل تلفيق تطبيق تكنولوجي لا روح له؟
وهل يقوى الذكاء الصناعي على إبداع فن تشكيلي وأدب وموسيقى.. تبقى ملاذات للقلب البشري الهارب من واقع قاس كالح وعديم الرحمة؟
أما عني فقد وجدت دواء ناجعًا لمثل هذا القلق، وهو أن أشحذ حسي بالواقع من حولي، وبالوضع الحقيقي لوجودي، ما يقودني إلى تقريع يحسم المسألة: كيف لشخص تغيب الكهرباء عشرين ساعة عن يومه، ويمثل "لوح الطاقة الشمسية" العنوان الأبرز على إعجاز التكنولوجيا في مدينته.. كيف لشخص كهذا أن يتيح لنفسه ترف القلق من الذكاء الصناعي؟!
وأيًا يكن شكل المستقبل الذي سيأتي به الذكاء الصناعي، فهل سيكون أكثر عبوسًا وتجهمًا من الراهن القائم في ظل غياب شبه تام لأي ذكاء، سواء كان بشريًا أم صناعيًا؟