روبرت دي نيرو ودي كابريو تحت عين "المعلم" في فيلم وسترن ملحمي
هوفيك حبشيان
بعد ستة أيام من متابعة أفلام المسابقة التي يتراوح مستواها بين الممتاز والجيد والمتوسط القيمة، أتاحت لنا الدورة الحالية من مهرجان "كان" السينمائي (16 -27 مايو/ أيار) اكتشاف أحدث أفلام مارتن سكورسيزي، المعروض خارج المسابقة، قبل أن يصبح متوافراً للجمهور بدءاً من أوكتوبر (تشرين الأول) القادم.
الفيلم المنتظر جداً، كأي جديد للمعلم الأميركي، يأتي في عنوان "قتلة زهرة القمر" واقتبسه المخرج وكاتب السيناريو إريك روث من كتاب بالعنوان نفسه للصحافي ديفيد غرين، وهو كتاب توثيقي وضعته مجلة "تايم" على لائحة كتبها غير الروائية المفضلة لعام 2017. الفيلم كان منتظراً لأسباب عدة: نظراً إلى أهمية الكتاب الذي يتناول فصلاً من تاريخ أميركا، من خلال أحداث حقيقية وقعت في النسيان، ثم لأنه يجمع روبرت دي نيرو وليوناردو دي كابريو لأول مرة معاً في إدارة سكورسيزي، وأخيراً لضخامة الإنتاج الذي وصل إلى 200 مليون دولار. يمكن الاضافة إلى هذا كله حقيقة أن سكورسيزي ينجز فيلماً ينتمي إلى نوع الوسترن للمرة الأولى في مسيرته، فهو الذي يعشق "جوني غيتار" لنيكولاس راي، لم يتطرق إلى الوسترن قبل الآن.
ولا يمكن فصل الإحتفاء الضخم الذي ناله في "كان" في نهاية الاسبوع الماضي، حين اصطفت الطوابير أمام الصالات وحصل تدافع بين المشاهدين، بسبب أنه لم يعرض في "كان" أي فيلم له منذ أكثر من 35 عاماً، رغم أنه تكرس في هذا المهرجان مع "سائق التاكسي" (1976) يوم نال "السعفة الذهبية" عنه.
ملحمة قبيلة الأوساج
الفيلم الملحمي الذي تبلغ مدته ثلاث ساعات و26 دقيقة يحملنا إلى شمال شرق أوكلاهوما في عشرينيات القرن الماضي، معقل قبيلة الأوساج التي حكمت تاريخياً، الكثير من الولايات الأميركية مثل كنساس وميزوري وأركانساس. في أواخر القرن الثامن عشر، تم العثور على كميات من النفط والغاز في جب الأراضي التي يعيش عليها الأوساج، واستطاع قادة القبيلة أن يفاوضوا مع الحكومة الأميركية للحصول على حقوقهم من إيرادات الذهب الاسود. نتيجة ذلك، أصبحت أحوالهم المادية "فوق الريح"، فبنوا القصور ونعموا بالاستقرار، الشيء الذي أثار غيرة بعض البيض الذين حاولوا الإستفادة من ثرائهم بشتى الطرق، قتلاً واحتيالاً.
هذه نبذة ضرورية عن السياق الاجتماعي والسياسي والتاريخي لفهم حكاية الفيلم، ولا يختلف عن السياق الكلاسيكي للكثير من الأفلام الأميركية التي تناولت الغرب الأميركي، حيث الصراع بين السكان الأصليين والرجل الأبيض المحتل. سكورسيزي، الثمانيني الذي أمضى حياته يصوّر العصابات والعنف في شوارع نيويورك، ينتقل هنا إلى مسرح أحداث آخر، ملتقطاً بصحوة ضمير غير مسبوقة، معاناة الأوساج.
يبدأ الفيلم مع وصول الجندي الشاب إرنست بورخارت (دي كابريو) إلى البلدة التي يقيم فيها خاله وليم هايل (روبرت دنيرو) المزارع الثري المقرب من الأوساج ورجل الثقة عندهم، والذي يتظاهر بأنه يحترم ثقافتهم وقيمهم ويعرفهم "من الداخل". هذا اللقاء يفتح عيني إرنست على واقع جديد. فالخال المخضرم وصاحب الخبرة الطويلة، يقنعه بالارتباط بواحدة من بنات الأوساج الثريات، طمعاً بالمال. وهذا ما يفلعه إرنست آخذاً بنصيحته، فيتزوج من مولي (ليلي غلادستون)، المريضة بداء السكّري. اللحظة هذه تكون نقطة انطلاق لسلسلة من الجرائم التي تستهدف شقيقات مولي الثريات. لكن، هل يعلم إرنست أنه ضحية تلاعب خطط له خاله؟
الأرض التي يصوّرها سكورسيزي ساحة يسودها العنف وتغلب عليها العنصرية والتمييز. كلّ شيء مُباح في هذا الجو حيث لا قانون ولا محاسبة. بيد أن هذه الحقبة تشهد أيضاً تأسيس مكتب التحقيقات الفيدرالي بمبادرة من إدغار جي هوفر. الفيلم يشير إلى ولادة هذا المكتب الذي اضطلع بدور في اجراء تحقيقات في جرائم أوكلاهوما ومحاسبة المرتكبين. لكن سكورسيزي، أصر منذ البدء ألا ينجز فيلماً عن هذا المكتب، كي لا يقع في ما تريه قدمته عشرات الأفلام الأميركية، لأن نيته الأصلية كانت إنجاز فيلم عن الأسرة وعن تضارب المصالح، بين ما تبحث عنه العاطفة وما يفرضه الجشع.
كل شيء في "قتلة زهرة القمر" دليل على عظمة سكورسيزي. فهو واحد من أسياد الإخراج السينمائي في النحو الذي يصنع به الإيقاع، ويشيع أجواء، ويفرض التوتر المتصاعد، ويقطع المشهد. هذا من دون الحديث عن السرد ذي النفس الملحمي الذي ينتظرنا في هذا الفيلم، وهو سرد تغيب فيه بدعه الإخراجية المعتادة. نراه أقرب من كلاسيكيات السينما الأميركية مع اإعادة إحياء بديعة للعشرينيات. ثمة من شبّه إيقاع الفيلم والتصوير بأفضل ما قدمه إيستوود، وهذا وصف دقيق للعمل. أياً يكن، فالنظرة التي يلقيها على الحقبة، فيها الكثير من النضارة، والأرجح أن سكورسيزي كان صوّر فيلماً مختلفاً لو صوّره قبل عشرين أو ثلاثين عاماً. أما الشخصيات، فهي ملتبسة ومتناقضة في آن واحد، شريرة ويمكن إيجاد أسباب تخفيفية لأفعالها، وقد عبّر كل من روبرت دنيرو وسكورسيزي في مؤتمر صحافي عُقد أمس، عن عدم فهمهما لتصرفات الخال وليم هايل، وعبرا عن عدم فهمها هذا بوضوح تام. ما الذي يجعله يتصرف على هذا النحو، هذا أحد اسرار الفيلم الذي لا يكشفه لأنه لا يعرفه.
ينقص القليل للفيلم كي يصبح تحفة سينمائية. يصعب تحديد ما هو هذا القليل، والأرجح أن مشاهدة ثانية تفرض نفسها بعيداً من زحمة المهرجان و"ضرورة" الخروج برأي سريع عنه. وقد يكون التمويل الضخم الذي ناله الفيلم يشترط بعض المساومات التي منعت سكورسيزي أن يضرب ضربة أعلى، خصوصاً على مستوى الخطاب الذي يعطي الإحساس في بعض الأحيان، بأنه نتيجة مساومة. فبين دراما أسرية أو وسترن أو فيلم عصابات، يتأرجح قلب سكورسيزي، فيقرر تصوير هذا كله معاً دفعة واحدة.
مع ذلك كله، يبقى سكورسيزي في هذا الفيلم إنسانوياً قبل أي شيء آخر. من خلال تصويره الأوساج وقيمهم وتقاليدهم، يعطيهم حق الحضور على الشاشة، كما فعل مع الآباء اليسوعيين عندما ذهبوا إلى اليابان، أو مع سائق تاكسي يجوب شوارع نيويورك ليلاً. ورغم زحمة الأنواع السينمائية في الفيلم، يتصدّر الوسترن المشهد العام، خدمةً لرؤية إلى التاريخ تنطوي على وعي مستحدث.
عبر الغوص في تفاصيل المكان، ورغبةً في معاينة بيئة الأوساج، ينجز سكورسيزي فيلماً مشبعاً بأغانيهم وأناشيدهم، واضعاً إياهم في قلب الحكاية. سكورسيزي يطرح نفسه هنا معلّماً تنويرياً يحكي فصلاً من التاريخ لا من وجهة نظر المنتصر ولا من وجهة نظر الخاسر، بل من منظور فنّان يرفض ثقافة الموت والالغاء.
هوفيك حبشيان
بعد ستة أيام من متابعة أفلام المسابقة التي يتراوح مستواها بين الممتاز والجيد والمتوسط القيمة، أتاحت لنا الدورة الحالية من مهرجان "كان" السينمائي (16 -27 مايو/ أيار) اكتشاف أحدث أفلام مارتن سكورسيزي، المعروض خارج المسابقة، قبل أن يصبح متوافراً للجمهور بدءاً من أوكتوبر (تشرين الأول) القادم.
الفيلم المنتظر جداً، كأي جديد للمعلم الأميركي، يأتي في عنوان "قتلة زهرة القمر" واقتبسه المخرج وكاتب السيناريو إريك روث من كتاب بالعنوان نفسه للصحافي ديفيد غرين، وهو كتاب توثيقي وضعته مجلة "تايم" على لائحة كتبها غير الروائية المفضلة لعام 2017. الفيلم كان منتظراً لأسباب عدة: نظراً إلى أهمية الكتاب الذي يتناول فصلاً من تاريخ أميركا، من خلال أحداث حقيقية وقعت في النسيان، ثم لأنه يجمع روبرت دي نيرو وليوناردو دي كابريو لأول مرة معاً في إدارة سكورسيزي، وأخيراً لضخامة الإنتاج الذي وصل إلى 200 مليون دولار. يمكن الاضافة إلى هذا كله حقيقة أن سكورسيزي ينجز فيلماً ينتمي إلى نوع الوسترن للمرة الأولى في مسيرته، فهو الذي يعشق "جوني غيتار" لنيكولاس راي، لم يتطرق إلى الوسترن قبل الآن.
ولا يمكن فصل الإحتفاء الضخم الذي ناله في "كان" في نهاية الاسبوع الماضي، حين اصطفت الطوابير أمام الصالات وحصل تدافع بين المشاهدين، بسبب أنه لم يعرض في "كان" أي فيلم له منذ أكثر من 35 عاماً، رغم أنه تكرس في هذا المهرجان مع "سائق التاكسي" (1976) يوم نال "السعفة الذهبية" عنه.
ملحمة قبيلة الأوساج
الفيلم الملحمي الذي تبلغ مدته ثلاث ساعات و26 دقيقة يحملنا إلى شمال شرق أوكلاهوما في عشرينيات القرن الماضي، معقل قبيلة الأوساج التي حكمت تاريخياً، الكثير من الولايات الأميركية مثل كنساس وميزوري وأركانساس. في أواخر القرن الثامن عشر، تم العثور على كميات من النفط والغاز في جب الأراضي التي يعيش عليها الأوساج، واستطاع قادة القبيلة أن يفاوضوا مع الحكومة الأميركية للحصول على حقوقهم من إيرادات الذهب الاسود. نتيجة ذلك، أصبحت أحوالهم المادية "فوق الريح"، فبنوا القصور ونعموا بالاستقرار، الشيء الذي أثار غيرة بعض البيض الذين حاولوا الإستفادة من ثرائهم بشتى الطرق، قتلاً واحتيالاً.
هذه نبذة ضرورية عن السياق الاجتماعي والسياسي والتاريخي لفهم حكاية الفيلم، ولا يختلف عن السياق الكلاسيكي للكثير من الأفلام الأميركية التي تناولت الغرب الأميركي، حيث الصراع بين السكان الأصليين والرجل الأبيض المحتل. سكورسيزي، الثمانيني الذي أمضى حياته يصوّر العصابات والعنف في شوارع نيويورك، ينتقل هنا إلى مسرح أحداث آخر، ملتقطاً بصحوة ضمير غير مسبوقة، معاناة الأوساج.
يبدأ الفيلم مع وصول الجندي الشاب إرنست بورخارت (دي كابريو) إلى البلدة التي يقيم فيها خاله وليم هايل (روبرت دنيرو) المزارع الثري المقرب من الأوساج ورجل الثقة عندهم، والذي يتظاهر بأنه يحترم ثقافتهم وقيمهم ويعرفهم "من الداخل". هذا اللقاء يفتح عيني إرنست على واقع جديد. فالخال المخضرم وصاحب الخبرة الطويلة، يقنعه بالارتباط بواحدة من بنات الأوساج الثريات، طمعاً بالمال. وهذا ما يفلعه إرنست آخذاً بنصيحته، فيتزوج من مولي (ليلي غلادستون)، المريضة بداء السكّري. اللحظة هذه تكون نقطة انطلاق لسلسلة من الجرائم التي تستهدف شقيقات مولي الثريات. لكن، هل يعلم إرنست أنه ضحية تلاعب خطط له خاله؟
الأرض التي يصوّرها سكورسيزي ساحة يسودها العنف وتغلب عليها العنصرية والتمييز. كلّ شيء مُباح في هذا الجو حيث لا قانون ولا محاسبة. بيد أن هذه الحقبة تشهد أيضاً تأسيس مكتب التحقيقات الفيدرالي بمبادرة من إدغار جي هوفر. الفيلم يشير إلى ولادة هذا المكتب الذي اضطلع بدور في اجراء تحقيقات في جرائم أوكلاهوما ومحاسبة المرتكبين. لكن سكورسيزي، أصر منذ البدء ألا ينجز فيلماً عن هذا المكتب، كي لا يقع في ما تريه قدمته عشرات الأفلام الأميركية، لأن نيته الأصلية كانت إنجاز فيلم عن الأسرة وعن تضارب المصالح، بين ما تبحث عنه العاطفة وما يفرضه الجشع.
كل شيء في "قتلة زهرة القمر" دليل على عظمة سكورسيزي. فهو واحد من أسياد الإخراج السينمائي في النحو الذي يصنع به الإيقاع، ويشيع أجواء، ويفرض التوتر المتصاعد، ويقطع المشهد. هذا من دون الحديث عن السرد ذي النفس الملحمي الذي ينتظرنا في هذا الفيلم، وهو سرد تغيب فيه بدعه الإخراجية المعتادة. نراه أقرب من كلاسيكيات السينما الأميركية مع اإعادة إحياء بديعة للعشرينيات. ثمة من شبّه إيقاع الفيلم والتصوير بأفضل ما قدمه إيستوود، وهذا وصف دقيق للعمل. أياً يكن، فالنظرة التي يلقيها على الحقبة، فيها الكثير من النضارة، والأرجح أن سكورسيزي كان صوّر فيلماً مختلفاً لو صوّره قبل عشرين أو ثلاثين عاماً. أما الشخصيات، فهي ملتبسة ومتناقضة في آن واحد، شريرة ويمكن إيجاد أسباب تخفيفية لأفعالها، وقد عبّر كل من روبرت دنيرو وسكورسيزي في مؤتمر صحافي عُقد أمس، عن عدم فهمهما لتصرفات الخال وليم هايل، وعبرا عن عدم فهمها هذا بوضوح تام. ما الذي يجعله يتصرف على هذا النحو، هذا أحد اسرار الفيلم الذي لا يكشفه لأنه لا يعرفه.
ينقص القليل للفيلم كي يصبح تحفة سينمائية. يصعب تحديد ما هو هذا القليل، والأرجح أن مشاهدة ثانية تفرض نفسها بعيداً من زحمة المهرجان و"ضرورة" الخروج برأي سريع عنه. وقد يكون التمويل الضخم الذي ناله الفيلم يشترط بعض المساومات التي منعت سكورسيزي أن يضرب ضربة أعلى، خصوصاً على مستوى الخطاب الذي يعطي الإحساس في بعض الأحيان، بأنه نتيجة مساومة. فبين دراما أسرية أو وسترن أو فيلم عصابات، يتأرجح قلب سكورسيزي، فيقرر تصوير هذا كله معاً دفعة واحدة.
مع ذلك كله، يبقى سكورسيزي في هذا الفيلم إنسانوياً قبل أي شيء آخر. من خلال تصويره الأوساج وقيمهم وتقاليدهم، يعطيهم حق الحضور على الشاشة، كما فعل مع الآباء اليسوعيين عندما ذهبوا إلى اليابان، أو مع سائق تاكسي يجوب شوارع نيويورك ليلاً. ورغم زحمة الأنواع السينمائية في الفيلم، يتصدّر الوسترن المشهد العام، خدمةً لرؤية إلى التاريخ تنطوي على وعي مستحدث.
عبر الغوص في تفاصيل المكان، ورغبةً في معاينة بيئة الأوساج، ينجز سكورسيزي فيلماً مشبعاً بأغانيهم وأناشيدهم، واضعاً إياهم في قلب الحكاية. سكورسيزي يطرح نفسه هنا معلّماً تنويرياً يحكي فصلاً من التاريخ لا من وجهة نظر المنتصر ولا من وجهة نظر الخاسر، بل من منظور فنّان يرفض ثقافة الموت والالغاء.