حال العلوم، كما الحياة، تكتسب الكلمات معناها من الاستخدام وليس من التعريف. نستخدم كلمتي الأنواع والقوة دون الخوف من انعدام الدقة. يمكننا أن نقول نفس الشيء عن “الجزيء”. على سبيل المثال، عُرِف الجزيء في الكيمياء على أنه: أصغر وحدة يمكن وجودها في المركب الكيميائي ، و الجزيئات مكونةً من اثنتين أو أكثر من الذرات، مرتبطةً برابطة كيميائية. تعريف آخر: أصغر جسيم في المادة يحتفظ بالخصائص الكيميائية والفيزيائية للمادة ويتكون من ذرتين أو أكثر، وتتحد الذرات المتشابهة أو المختلفة فيما بينهم بواسطة القوى الكيميائية.
لكن التعريف الثاني القائل: أصغر جسيم في المادة يحتفظ بخواصها، لا معنى له على الإطلاق. أي خواص؟ فبعد كل ذلك، معظم ما نركز عليه -مثل درجة الانصهار- هي خواص المادة بمجملها.
وتدخلنا فكرة أن الجزيئات عبارة عن ذرتين أو أكثر، مرتبطةً بروابط كيميائية في مسار غامض لتعريف الروابط -والتي يعتبرها البعض قوى فان دير فال والروابط الميكانيكية- وتمييز الجزيئات منها، مثال، البلورات الأيونية. مثلما فعل جيلبرت لويس منذ 100 عام.
أُلقي الضوء على مشكلة تلك التعريفات عن طريق الاقتراح الحالي من محرر دورية “nature chemistry” فيقول: «علينا اعتبار كل من كاتينان (catenanes) وروتاكسان (rotaxanes) -وهي هياكل جزيئية متشابكة ميكانيكيًا- والمرتبطة بروابط تساهمية، وتركيبات مرتبطة ميكانيكيًا -مثل الحلقات المسننة- علينا اعتبارها من الجزيئات وليس فوق جزيئية». وهو ما أثار عاصفةً على تويتر، بدخول عدد كبير من الكيميائيين لفرض آرائهم.
ما قد يثير تساؤلك الآن، ما هو تعريف “فوق الجزيئية”؟
يستخدم رائد هذا المجال الكيميائي الفرنسي “جان ماري لين” هذا التعريف لوصف التركيبات التي ترتبط ببعضها بتفاعلات غير تساهمية. والتي حتمًا ستشمل الكاتينان. أليست الروابط التساهمية أو قوى فان دير فال هل التي تمنع المكونات من الانفصال؟
بيد أنه يشتمل أيضًا على اللولب المزدوج للحمض النووي DNA، وهيئات البروتينات، والبلورات الجزيئية، والمركبات التناسقية، والمياه السائلة. ما يجعله مصطلحًا غير عملي ومتسعًا إلى حد كبير.
إذن، كيف نفرق بين الجزيئات وفوق الجزيئات أو الحالات المجملة؟ إذا كان ليس بالضرورة أن تنفصل الجزيئات بسرعة وتخلق توازنًا بين مكوناتها، ولكنها تصبح مستقرةً بشكل فردي؛ فماذا سنطلق حينها على الأحماض الضعيفة أو الماء؟
إذا كان الروتاكسان -حين يكون الجزيء المستدير مُخيَطًا على الجزيء المُؤلف على هيئة خطوط بسبب مجموعات التقبيع الضخمة على نهايات الخيط- من الجزيئات، فماذا عن الروتاكسان المزيف؟ إذ لا يوجد تغطية للنهايات الخاصة به، والخيوط مجرد شكل إحصائي أو تتواجد بفعل التفاعلات الضعيفة؟
يمكن للعلماء أن يقوموا بشكل واضح بهندسة حاجز للطاقة الحرة تدريجيًا لفك الشكل الخيطي مع مجموعات التقبيع الضخمة المتزايدة؛ هل يعتبر هذا تحولًا تدرجيًا من الجزيء الفائق إلى الجزيء؟ وفي أي درجة حرارة يتم ذلك؟ وفي أي مذيب؟.
على ما يبدو إذًا عندما أطلق “لين” مفهوم فوق الجزيئية أو “كيمياء ما بعد الجزيء” كان يلمح إلى حدود غير واضحة المعالم، كما اقترح الكيميائي الأمريكي “جورج وايتسايد” أن الكيميائية تنأى بنفسها عن الجزيء، وذلك في ورقة علمية بعنوان “هل التركيز على الجزيء أصبح من الماضي وغير قابل للاستعمال؟” مثيرًا الأسئلة حول ماهية الموضوع الذي يجب أن نبتعد عنه في ذلك النقاش.
تعريف منقوص:
لم يدخل كلٌ من لين ووايتسايد في تحدٍ حول موقف الجزيء كوحدة أساسية لعلم الكيمياء، فضلًا عن ذلك، تجادل الكيميائيان بشأن قدرة علم الكيمياء على توسيع إطاره المعرفي وقدراته العملية حول كيفية تفاعل الجزيئات مع بعضها البعض والدمج والتنسيق فيما بينهما لخلق وظائف في مستويات أعلى بالهيكل التنظيمي. لا يفضل استخدام التعريف المحدود للجزيء في طريقة ربط الذرات وحسب، ولكن كمصطلح لمستوى معين وطريقة محددة للتفكير الكيميائي.
هذه ربما قد تكون أفضل طريقة للنظر بها، ادعاء أن الجزيء وحدة غير مرئية في المركب تعكس تركيز الكيمياء تاريخيًا على المواد النقية، وعلى تنقية وتشخيص المركبات. ولكن الكيمياء تأتي حقًا في توليفات مدهشة، متضمنةً التعقيد المنظم للخلية. ويعتبر الجزيء تركيبًا ضروريًا للتحليل، لكنه يفقد بعضًا من دقته في سياق الوظائف والخصائص المشتركة.
والآن، هل هناك حقًا مشكلة في المفهوم عندما نتحدث عن جزيئات البروتين بالاتساق مع وظائف الخلايا، أو الجزيئات الوسيطة في محفزات السطح؟ بالطبع لا، بالأحرى هذا بالتأكيد مثال لمشكلة مصطلح “الأنواع الطبيعية” والذي نوقش من قبل فلاسفة العلوم. نحن بحاجة إلى الكلمات والتصنيفات لنقوم بصياغة الأفكار العلمية، لكن العالم غير مجبر على احترامها.
تتداخل الكلمات والظواهر العلمية بشكل كافٍ يسمح لنا بالنقاش وفرض النظريات. قد نحتاج على نحو مخيف أن نُفاجَأ أو نشعر بالارتباك عندما نجد التوافق والتطابق ليس مثاليًا. وتجعل الكيمياء من بعض المفاهيم الضبابية ولكن القيمة أكثر استعمالًا وفائدةً -مثل: حالة التأكسد، والرابطة، والسلبية الكهربائية- من نظيرتها في الفيزياء -مثل: الحالات، القوى، وربما يستفيد علم الأحياء أكثر منهما -مثل مصطلحات: الأنواع، والتفارغية، والنظام البيئي، والجينات. وبالطبع لسنا بحاجة ملحة لتنظيم وتقنين الفوارق بين تلك الكلمات والتعريفات، وعوضًا عن ذلك دعونا نستمتع بمطالعة العلوم.