ظلت الدراما السورية، منذ تأسيس التلفزيون السوري عام 1960، مرهونة بمحليتها وخاضعة لسياقات إنتاجية رسمية يمثلها قطاع الإنتاج في مؤسسة التلفزيون، إلى ما يقارب العقدين من الزمن بعد الانطلاقة التأسيسية. ولكنها، بعد ذلك، عكست تنوعًا وغنى فنيًا ملحوظًا من خلال الأنماط الدرامية المختلفة التي تنوعت ما بين الملحمي، والاجتماعي، والكوميديا الاجتماعية الناقدة، ودراما البيئة.
وإليكم قائمة في هذه الأنماط الدرامية التي حجزت للدراما السورية مكانًا لا يستهان به في ذاكرة المشاهد العربي.
1- الدراما الملحمية: هجرة القلوب إلى القلوب
يعد مسلسل "هجرة القلوب إلى القلوب" نقطة التحول الأساسية التي منحت الدراما السورية بعدها العربي من خلال الشراكة الإنتاجية مع مؤسسة الخليج الفنية، ومن هنا طرح مصطلح "الإنتاج الضخم".
قدّم هذا المسلسل المجتمع السوري للمشاهد العربي بطريقة ملحمية، تنطوي على صراع اجتماعي بين قيم وتقاليد الريف المحافظة وأفكار التحول والتطور الحضرية، صاغها مؤلف المسلسل عبد النبي حجازي في سياق تحول أكبر خلفته انعكاسات الحرب العالمية الثانية على المجتمع السوري عمومًا.
يتشابك مع هذا الصراع الثنائي بين الريف والحضر، صراع الهوية وسؤال الوطن والوطنية، من خلال مقاومة المستعمر الفرنسي ومناخ الثورة السورية الكبرى. أدار المخرج هيثم حقي دفة هذه الصراعات الدرامية وإحالاتها الرمزية بملحمية واضحة وباشتغال على عمل الممثل، وهو المخرج المعروف بقوة إداراته لعمل الممثل.
وعُد هذا العمل وقتذاك الأضخم على مستوى إنتاج الدراما السورية، وضم ممثلين سوريين كبار من أمثال عدنان بركات، هاني الروماني، منى واصف، خالد تاجا، نجاح العبد الله.. وفتح البوابة لممثلين صاروا اليوم من نجوم الصف الأول من أمثال أيمن زيدان، وبسام كوسا، وعباس النوري، وعابد فهد وآخرون.
2- الدراما الاجتماعية: ذكريات الزمن القادم
يعد مسلسل "ذكريات الزمن القادم" واحدًا من أنجح المسلسلات على مستوى صناعة الشخصية الدرامية، فرضية بسيطة وعميقة تضمنت كل حوامل الصراع الدرامي، من خلال عودة مطر أبو ربيع، المناضل اليساري الشاب الذي اختفى بظروف غامضة بعد حصار بيروت لمدة عشرين عامًا، وظن الجميع أنه استشهد وصار بطلًا، لكنه عاد وقد تحول إلى مليونير ليبدأ مشوار بناء إمبراطورية مالية ضخمة من جهة، وتحطيم رفاق النضال والسلاح واحدًا واحدًا، من خلال نفوذه، من جهة أخرى، وكأنه يحاول الانتقام من ماضيه.
يطرح العمل من خلال شخصية مطر قضية النضال السياسي والاعتقاد بالأفكار التحررية، وسط تحولات سياسية كبرى على مستوى العالم منها سقوط نظام صدام حسين، وأحداث 11 أيلول، إذ يرى مطر الجديد أن لا ثورة بعد الآن، وأن الصراع في المنطقة ذو بعد ديني فقط، وفي هذا الشكل من الصراع لن يكون البقاء إلا للأقوى. المسلسل من تأليف ريم حنا ومن إخراج هيثم حقي.
3- الكوميديا الاجتماعية الناقدة: يوميات مدير عام ج 1
"يوميات مدير عام" عمل من أنجح المسلسلات الكوميدية الاجتماعية السورية المكتوبة بالتسلسل خلافًا لأسلوب اللوحات الدرامية الكوميدية، كما في "مرايا" و"بقعة ضوء". قدم هذا المسلسل الممثل أيمن زيدان كواحد من أبرع الممثلين السوريين وأغزرهم لناحية صناعة "الكراكتر" الكوميدي، إذا قدم فيه عشرات الأنماط الاجتماعية خلال سياق المسلسل بحرفية وإتقان ملفتين.
يتحدث المسلسل عن الدكتور أحمد عبد الحق الطبيب النزيه، الذي يقبل عرضًا بعد إلحاح من وزير دولة لتولي منصب مدير عام في واحدة من مؤسسات الدولة السورية التي يعيث فيها الفساد والمحسوبيات. فتبدأ الحكاية بقبوله للعرض وانخراطه في لعبة فيها الكثير من المسرحة لكشف الفاسدين عبر التنكر بكل حلقة بصورة مواطن عادي "مراجع"، وتنتهي الحكاية بفقدانه الأمل من الإصلاح ومغادرته للمؤسسة وعودته إلى عيادته البسيطة.
المسلسل من تأليف زياد الريس وإخراج الراحل هشام شربتجي.
4- دراما البيئة: أيام شامية
رغم الاختلاف أكاديميًا على ربط البيئة بالدراما، والمعترضون على هذا الربط يبررون رأيهم بأن البيئة تعد عنصرًا من عناصر الحكاية، وبأن الدراما ترتبط بالحكاية بصرف النظر عن البيئة الحاضنة لعوامل الصراع، لكن مصطلح مسلسلات البيئة الشامية صار عرفًا دراميًا وميزة تسويقية.
ولعل مسلسل "أيام شامية" للراحل بسام الملا والمؤلف أكرم الشريم يعد البوابة الواسعة التي دخلت منها حارات الشام وأنماطها الاجتماعية إلى بيوت المشاهدين العرب، وكان هذا النوع من الدراما رافدًا مهمًا في انتشارها وأخذ صناعة الدراما السورية وصناعها على محمل الجد في سوق العرض والطلب، ولعل بساطة الحدوتة وسلاستها هي التي طبعت أعمال هذا النوع الدرامي وعززت من عوامل انتشاره ومتابعته.
فحكاية مسلسل "أيام شامية" تتمحور حول كرامة الإنسان وقيمة الكلمة وحفظ العهود وأداء الأمانات، فضلًا عن احترام التراتبية الاجتماعية وقيمة الأم في مجتمع ذكوري، إذا يرهن محمود الفوال (عباس النوري) شعرات من شاربيه لدى أبو عبدو (خالد تاجا) حتى يعيد إليه ما استدانه منه.
وعندما يجمع مبلغ الدين يعود لمطالبة أبو عبدو بشعرات شاربيه، لكن الأخير يكتشف أن الأمانة قد فقدت، إذ تخفي زوجته الثانية (وفاء موصللي) الأمانة لتنتقم من ضرتها (سامية الجزائري) التي كانت حارسًا عليها، فينهار محمود الفوال ويشعر أن كرامته هدرت بعد سخرية الجميع منه، ليتدخل زعيم الحارة (رفيق سبيعي) ويقول جملته الشهيرة التي ظلت على ألسنة السوريين لفترة طويلة: "شوارب محمود من شواربي"، لتصبح هذه العبارة المؤثرة في سياقها نقطة انطلاق هذا النوع من الدراما وتوسعه عامًا بعد الآخر.