الروائية فاطمة عبدالحميد: «الأفق الأعلى» بحث عن معنى يختبئ بعناية
1/2
المصدر:
التاريخ: 12 مايو 2023
ت +ت -الحجم الطبيعي
تخبرنا الروائية السعودية الشابة فاطمة عبدالحميد، في هذا الحوار عن روايتها (الأفق الأعلى) المتأهلة للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2023، وعوالم وطقوس الكتابة. وتحمل الروائية شهادة جامعية في الطب النفسي، وهي اليوم معالجة نفسية، تميزت في الأدب منذ عام 2010، حين أصدرت عملها الأول وهي مجموعة قصصية «كطائرة ورقية» من خلال نادي المنطقة الشرقية الأدبي، لتتوالى بعدها أعمالها الروائية الأخرى، فكان لـ«البيان» معها هذا الحوار:
كيف كانت بداياتك؟ تحدثي للقارئ عن عوالمك؟
بطبيعتي قليلة الكلام، لذا حين أكتب أخطئ أقل مما هو الحال حين أتحدث، فقد كنت أعالج مشكلاتي مع أهلي أو صديقاتي بالرسائل في البدء، ثم مع القراءة العشوائية لأي رواية تتوفر في المكتبة المدرسية، أو مكتبة والدي، تطور أمر الكتابة لدي شيئاً فشيئاً. ظننت في حينها أنني أكتب مذكراتي ولم أكن قد بلغت السادسة عشرة حتى، لكنني لاحظت أنني لا أكتب شيئاً وقع في الماضي، أكتب أشياء لا تزال في المستقبل، سميتها في البداية ذاكرة المستقبل، قبل أن أدرك أنها قصص قصيرة، بدأت بنشرها فيما بعد في موقع القصة العربية، بين أساتذة لهم مؤلفاتهم وقراءاتهم النقدية، وقد ساعدني هذا كثيراً، فلم يوفروا جهداً في تصويب أخطائي، أو تقدير الجيد فيما أكتب، لذا أدين لهم بالفضل.
مهرب آمن
روايتك «الأفق الأعلى» التي تأهلت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2023، على ماذا كنتِ ترغبين في العثور عليه أثناء اشتغالك؟
لأكون صادقة معك، كنت أهرب من حِداد. لم يكن لقائي الأول مع الموت، فقد التقيته أول مرة مع أمي قبل أن أفهم معناه حتى، وتكفل الوقت بشرح معنى وأثر خسارة الأم في سن مبكرة. حين تكرر الموت بعد ذلك، لم أكن قد اكتسبت أية صلابة من الخسارة الأولى، لذلك أصبح الألم مضاعفاً، كمن استفاق في منتصف عملية جراحية، وهذه الفداحة هي ضريبة النضج، أن توجعك الأشياء أكثر. تلا هذا الفقد الذي بدأت خلاله بكتابة الأفق الأعلى أزمة كورونا العالمية، وضع هو الآخر يتتالى فيه الموت مجهول الأسباب مع عزلة إجبارية. فناء المادة، وقدرة الزمن على طيّنا بسهولة شديدة، زاد من رغبتي في الاتجاه إلى شيء أكثر خلوداً، لذا كانت الكتابة مهرباً آمناً من كل هذه الخسارات المتوالية، توسطت بجلالها بين الموت والحياة، فهي الوحيدة التي لن تفنى، فكيف لا تكون منطقة الأمان!
قلة من الروائيين يحملون شهادة في علم النفس، ولكنهم يبرعون في الوصف الداخلي لشخوصهم، ويُشعرون القارئ بأنه هو تلك الشخصية التي يتم سردها، فما مدى الوعي عند الروائي النفساني وهو يسرد هذا المجهول الداخلي؟
منحتني دراسة علم النفس دقة الملاحظة في تفاهات الحياة اليومية والقدرة على تأويلها، وألفة سريعة مع الأشخاص، وطبعي المتأني جعلني أراقب بهدوء أثقال البعض وهي تتفتح أمامي وأرواحهم تتعافى، فما يخفيه اللسان تنطق به دلالات الجسد، لكنها معرفة لا أتباهى بها، فجدتي الأمية تفعل هذا ببراعة لا متناهية، فتقول عن شخص «في داخله لحمة نيئة»، كناية عن سر قذر يخفيه، هكذا بدون الحاجة إلى دراسة وبرهان، وأمثلة كثيرة لتقول اللامرئي بإحساسها بدون أن تكون مع من يدعونهم «فلاسفة التوجس»، لذا أعود وأقول لربما الأمر كله منوط بالإحساس بيننا، فلو تمهلنا قليلاً وتأملنا شخصاً في كل مرة وكأنها المرة الأولى التي نجالسه، لو أصغينا قليلاً... لربما تكشف لنا هذا المجهول في الحياة والكتابة، فالبحث عن الحقيقة هو بحث عن معنى يختبئ بعناية.
قوة الحجارةمُقِلّة في إنتاجك أو بمعنى أصح متمهلة، فهل بسبب أشغالك أم أسباب أخرى؟
يقال إن في النحت تتجلّى قوة الحجارة، برأيي كل شيء يتجلى إذا ما صقل على مهل، حتى الحياة نفسها لا نستشعرها ما لم نتمهل... نعيشها لحظة بلحظة، ونتحاشى اللهاث عبر الزمن. أعيش حكاية الكتابة بدلاً من كتابة الحكاية، فلا أشعر مع الكتابة بأن الحذف نقص، بل إضافة في كثير من الأحيان، لذا وفي كل مرة أعيد تنقيح ما كتبته في النص أجده منحني شيئاً جديداً، فالتنقل بين الكلمات يضاهي التنقل بين جموع الناس، كلمات تترك أثراً وتبقى، وكلمات تُمحى فلا تترك فرقاً يذكر، لذا أمنح نفسي كل الوقت للعثور على تلك الجملة التي تبقى.
وأنتِ تكتبين، هل تفكرين بالقارئ؟
لدي قدرة على استشعار الأشياء من بُعد، على حدسها، لذا تلقائياً، وبدون تفكير واعٍ، أشعر بما قد يكون منفراً أو مقبولاً للقارئ، لا أشغل بالي به أثناء الرحلة الداخلية هذه، ثم إن بيني وبين القراءة معرفة طويلة، تمهد لمعرفة النتوءات البغيضة التي يجب أن نتحاشاها أثناء الكتابة، وهذا أيضاً يساعد كثيراً في التقليل من سوء الفهم مع القارئ، والذي بدوره سيعيد إنتاج كل ما يكتبه المؤلف من جديد.
الأدب بشكل جوهري يعتمد على سحر اللغة، فما الذي يلهم فاطمة عبد الحميد؟ وهل تسعين خلف اللغة الجزلة؟ أم أمور أخرى؟
تلهمني الطريقة المعقدة التي يعيد بها الإنسان تفسير آلام طفولته، الخلاص الذي يبحث عنه من يفرش ذاكرته أمامي ويمنحني مسافة للتأويل، حتى لو كانت المسافة عبارة عن متاهة، نبع الكلام الذي يتحول إلى نهر، تلهمني السباحة والغوص وفكرة اللاعودة، تلهمني الكلمات غير المستعملة، تلهمني الذات المرتابة، أما اللغة بحد ذاتها فتأتي بحسب ما يقتضيه السرد.
- 1
- 2
1/2
المصدر:
- حوار ــ ريم الكمالي
التاريخ: 12 مايو 2023
ت +ت -الحجم الطبيعي
تخبرنا الروائية السعودية الشابة فاطمة عبدالحميد، في هذا الحوار عن روايتها (الأفق الأعلى) المتأهلة للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2023، وعوالم وطقوس الكتابة. وتحمل الروائية شهادة جامعية في الطب النفسي، وهي اليوم معالجة نفسية، تميزت في الأدب منذ عام 2010، حين أصدرت عملها الأول وهي مجموعة قصصية «كطائرة ورقية» من خلال نادي المنطقة الشرقية الأدبي، لتتوالى بعدها أعمالها الروائية الأخرى، فكان لـ«البيان» معها هذا الحوار:
كيف كانت بداياتك؟ تحدثي للقارئ عن عوالمك؟
بطبيعتي قليلة الكلام، لذا حين أكتب أخطئ أقل مما هو الحال حين أتحدث، فقد كنت أعالج مشكلاتي مع أهلي أو صديقاتي بالرسائل في البدء، ثم مع القراءة العشوائية لأي رواية تتوفر في المكتبة المدرسية، أو مكتبة والدي، تطور أمر الكتابة لدي شيئاً فشيئاً. ظننت في حينها أنني أكتب مذكراتي ولم أكن قد بلغت السادسة عشرة حتى، لكنني لاحظت أنني لا أكتب شيئاً وقع في الماضي، أكتب أشياء لا تزال في المستقبل، سميتها في البداية ذاكرة المستقبل، قبل أن أدرك أنها قصص قصيرة، بدأت بنشرها فيما بعد في موقع القصة العربية، بين أساتذة لهم مؤلفاتهم وقراءاتهم النقدية، وقد ساعدني هذا كثيراً، فلم يوفروا جهداً في تصويب أخطائي، أو تقدير الجيد فيما أكتب، لذا أدين لهم بالفضل.
مهرب آمن
روايتك «الأفق الأعلى» التي تأهلت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2023، على ماذا كنتِ ترغبين في العثور عليه أثناء اشتغالك؟
لأكون صادقة معك، كنت أهرب من حِداد. لم يكن لقائي الأول مع الموت، فقد التقيته أول مرة مع أمي قبل أن أفهم معناه حتى، وتكفل الوقت بشرح معنى وأثر خسارة الأم في سن مبكرة. حين تكرر الموت بعد ذلك، لم أكن قد اكتسبت أية صلابة من الخسارة الأولى، لذلك أصبح الألم مضاعفاً، كمن استفاق في منتصف عملية جراحية، وهذه الفداحة هي ضريبة النضج، أن توجعك الأشياء أكثر. تلا هذا الفقد الذي بدأت خلاله بكتابة الأفق الأعلى أزمة كورونا العالمية، وضع هو الآخر يتتالى فيه الموت مجهول الأسباب مع عزلة إجبارية. فناء المادة، وقدرة الزمن على طيّنا بسهولة شديدة، زاد من رغبتي في الاتجاه إلى شيء أكثر خلوداً، لذا كانت الكتابة مهرباً آمناً من كل هذه الخسارات المتوالية، توسطت بجلالها بين الموت والحياة، فهي الوحيدة التي لن تفنى، فكيف لا تكون منطقة الأمان!
قلة من الروائيين يحملون شهادة في علم النفس، ولكنهم يبرعون في الوصف الداخلي لشخوصهم، ويُشعرون القارئ بأنه هو تلك الشخصية التي يتم سردها، فما مدى الوعي عند الروائي النفساني وهو يسرد هذا المجهول الداخلي؟
منحتني دراسة علم النفس دقة الملاحظة في تفاهات الحياة اليومية والقدرة على تأويلها، وألفة سريعة مع الأشخاص، وطبعي المتأني جعلني أراقب بهدوء أثقال البعض وهي تتفتح أمامي وأرواحهم تتعافى، فما يخفيه اللسان تنطق به دلالات الجسد، لكنها معرفة لا أتباهى بها، فجدتي الأمية تفعل هذا ببراعة لا متناهية، فتقول عن شخص «في داخله لحمة نيئة»، كناية عن سر قذر يخفيه، هكذا بدون الحاجة إلى دراسة وبرهان، وأمثلة كثيرة لتقول اللامرئي بإحساسها بدون أن تكون مع من يدعونهم «فلاسفة التوجس»، لذا أعود وأقول لربما الأمر كله منوط بالإحساس بيننا، فلو تمهلنا قليلاً وتأملنا شخصاً في كل مرة وكأنها المرة الأولى التي نجالسه، لو أصغينا قليلاً... لربما تكشف لنا هذا المجهول في الحياة والكتابة، فالبحث عن الحقيقة هو بحث عن معنى يختبئ بعناية.
قوة الحجارةمُقِلّة في إنتاجك أو بمعنى أصح متمهلة، فهل بسبب أشغالك أم أسباب أخرى؟
يقال إن في النحت تتجلّى قوة الحجارة، برأيي كل شيء يتجلى إذا ما صقل على مهل، حتى الحياة نفسها لا نستشعرها ما لم نتمهل... نعيشها لحظة بلحظة، ونتحاشى اللهاث عبر الزمن. أعيش حكاية الكتابة بدلاً من كتابة الحكاية، فلا أشعر مع الكتابة بأن الحذف نقص، بل إضافة في كثير من الأحيان، لذا وفي كل مرة أعيد تنقيح ما كتبته في النص أجده منحني شيئاً جديداً، فالتنقل بين الكلمات يضاهي التنقل بين جموع الناس، كلمات تترك أثراً وتبقى، وكلمات تُمحى فلا تترك فرقاً يذكر، لذا أمنح نفسي كل الوقت للعثور على تلك الجملة التي تبقى.
وأنتِ تكتبين، هل تفكرين بالقارئ؟
لدي قدرة على استشعار الأشياء من بُعد، على حدسها، لذا تلقائياً، وبدون تفكير واعٍ، أشعر بما قد يكون منفراً أو مقبولاً للقارئ، لا أشغل بالي به أثناء الرحلة الداخلية هذه، ثم إن بيني وبين القراءة معرفة طويلة، تمهد لمعرفة النتوءات البغيضة التي يجب أن نتحاشاها أثناء الكتابة، وهذا أيضاً يساعد كثيراً في التقليل من سوء الفهم مع القارئ، والذي بدوره سيعيد إنتاج كل ما يكتبه المؤلف من جديد.
الأدب بشكل جوهري يعتمد على سحر اللغة، فما الذي يلهم فاطمة عبد الحميد؟ وهل تسعين خلف اللغة الجزلة؟ أم أمور أخرى؟
تلهمني الطريقة المعقدة التي يعيد بها الإنسان تفسير آلام طفولته، الخلاص الذي يبحث عنه من يفرش ذاكرته أمامي ويمنحني مسافة للتأويل، حتى لو كانت المسافة عبارة عن متاهة، نبع الكلام الذي يتحول إلى نهر، تلهمني السباحة والغوص وفكرة اللاعودة، تلهمني الكلمات غير المستعملة، تلهمني الذات المرتابة، أما اللغة بحد ذاتها فتأتي بحسب ما يقتضيه السرد.