هل يستحق فيلم «جيسون بورن» الحرص على مشاهدته؟
الوكالات ـ «سينماتوغراف»
يجمع فيلم “جيسون بورن” من جديد بين الممثل مات ديمون والمخرج بول غرينغراس، بعد نحو عقد من الزمان من آخر عمل جمع بينهما. لكن هل كان بوسعهما خلق الجو الساحر نفسه الذي أبدعاه عندما تعاونا معاً في السابق؟، هذا ما يرصد الناقد نيكولاس باربر في تحليله التالي عن الفيلم الذي يعرض حاليا حول العالم.
على نحو مفاجئ؛ عاد عنوان “بورن مرة أخرى” ليظهر في صدارة العناوين الرئيسية لموضوعات عالم السينما. فبعد عقد تقريباً من عرض فيلم “ذا بورن ألتيماتم” (ذروة بورن)؛ التئم شمل الممثل مات ديمون مع المخرج والمؤلف بول غرينغراس لتقديم الفيلم الجديد “جيسون بورن”.
ويحكي الفيلم قصة أخرى مفعمة بالحركة تتناول ذاك العميل المتميز للغاية، الذي يعمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي آيه)، ولكنه مُصابٌ بفقدان الذاكرة، ومنشق عن الوكالة في الوقت نفسه.
وقد وُلِدت هذه الشخصية في قصة ألفها الكاتب روبرت لدلم. وظهرت للمرة الأولى على شاشة السينما في فيلم حمل عنوان “ذا بورن آدينتيتي” (هوية بورن)، وأخرجه دوغ لايمان.
ورغم ذلك؛ صارت السلسلة، التي تتناول تلك الشخصية، مرتبطةً الآن بشكل أكبر بديمون وغرينغراس، إلى حد أنه إذا ما قدم مخرج آخر أحد أفلامها، مثلما فعل جيريمي رينر مع فيلم “ذا بورن ليغاسي” (إرث بورن)، يبدو العمل أشبه بنسخة حداثية للغاية من أغنية كلاسيكية.
أما “جيسون بورن”، فهو أقرب إلى ذاك الشدو الذي يستمتع به المرء، عندما يلتئم شمل فريق موسيقي من جديد.
على أي حال؛ فمنذ آخر مرة شاهدناه فيها على الشاشة، ظل بورن بعيداً عن مراقبة السلطات أو سيطرتها، ويكسب قوت يومه من خلال ممارسة رياضة الملاكمة دون قفازات.
ومع أن من المخيب للآمال، كونه لم يستفد من مهاراته الفريدة، فإن الفكرة هنا أنه كان يعاني من صدمة، جراء الفترة التي عمل فيها قاتلاً في إطار عملية سرية تجري لصالح الحكومة، جُنِدَ لها بعدما تعرض لغسيل دماغ.
على أي حال؛ فإن صفو الحياة التي كان يعيشها بورن، وهو مجهول الهوية، يتعكر على يد رفيقة له خلال العمل لصالح (سي آي آيه) تُدعى نيكي بارسونز، والتي تؤدي دورها الفنانة جوليا ستايلز. إذ تتعقبه بارسونز لتشاطره بعض المعلومات التي كُشفت حديثاً بشأن ماضيه المظلم.
ويثير ذلك فضول بورن بما يكفي لدفعه لمزيد من البحث والتقصي، وهو ما يقض مضجع مدير الـ(سي آي آيه)، الذي يجسد شخصيته الممثل تومي لي جونز، والذي يضفي على الشخصية طابع رجل الدولة الحكيم كبير السن، ذي الوقار والقدرة على الخداع والمراوغة في الوقت نفسه.
وهو نفس الطابع، الذي نجح في خلقه خلال الأجزاء السابقة من السلسلة، ممثلون مثل بريان كوكس، وكريس كوبر، ودافيد ستراثيام وألبرت فيني.
ويرى لي جونز أنه لابد أن يلقى بورن حتفه، من خلال الاستعانة بقاتل محترف لا يُعرف سوى باسمه الحركي (ذا أسيت) – وهو ما يعني باللغة العربية “ذو القيمة العالية”.
ويبدو ذلك اسما على مسمى؛ إذ أن دور هذا القاتل يُسند إلى الممثل فنسنت كاسيل، صاحب الثقل الفني الكبير بالفعل. ولكن النائبة الداهية لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والتي تقوم بدورها الممثلة أليشيا فيكاندر، تعتقد أن ثمة إمكانية لإقناع بورن بالعمل لحساب الوكالة من جديد.
وهكذا تسود الفيلم أجواءٌ شبيهة بتلك التي سادت في الأيام الخوالي. فمن جديد؛ يتنقل بورن بسرعة تحبس الأنفاس من مدينة أوروبية إلى أخرى، تبدو كلها كئيبة.
ومن جديد، نراه طيلة الوقت، وهو يتفوق بالكاد على أعدائه.
ومرة أخرى، يصمم المخرج غرينغراس مشاهد الحركة بذاك الطابع الآني السريع الموجع للعظام، عبر الاستعانة بكاميرات متأرجحة محمولة على الكتف أو يمسك بها المصورون في أياديهم، ويتوج كل ذلك بأسلوب مميز في المونتاج، يجعل اللقطات تتلاحق كطلقات مدفع رشاش، ما يُشعر المشاهد بأنه عرضة في أي لحظة للإصابة بطلقة طائشة أو للضرب بقبضة ضلت طريقها.
ومنذ أن أعاد فيلم “ذا بورن سوبرماسي” (سطوة بورن) عام 2004، صياغة قواعد فئة أفلام الجاسوسية، سعى كثيرون لمحاكاة الأسلوب المحموم والغامر الذي يتميز به غرينغراس، لكن أحداً منهم لم يتحل بنفس مقدرة هذا الرجل على تصميم مشاهد العراك والقتال – المؤلفة من لقطات قصيرة تبدو في الظاهر غير مترابطة – بإيقاعٍ سريع إلى حد يدير الرؤوس.
وتُنفذ هذه المشاهد بأسلوب يُمكّن المشاهد من متابعتها وفهم تفاصيلها في الوقت نفسه.
وفي ما بدا محاولة من غرينغراس لكي يوضح لمقلديه كيفية قيامه بعمله، اختار الرجل أول مشهد مطوّل في الفيلم، في خضم مظاهرة مناوئة للحكومة اليونانية في العاصمة أثينا، وهنا بدت الثقة التي “تحكم” بها المخرج في “الفوضى” التي يعج بها المشهد مُذهلة.
وبمجرد أن تشاهد بورن، وهو يمضي بسرعة فائقة، بين حشود المحتجين وقوات مكافحة الشغب، في مدينة تختنق تحت وطأة سحب الدخان والغاز المسيل للدموع، لن يكون بوسعك سوى أن تبتسم بسخرية، إذا ما أعدت مشاهدة ما تضمنه فيلم “سبكتر”، أحدث أفلام سلسلة جيمس بوند، من مطاردة سخيفة بالسيارات في شوارع روما، التي بدت مهجورة عن قصد، بما يلائم أغراض صناع العمل.
ولكن حتى في الوقت الذي ينجح “جيسون بورن” في إبقاء مشاهديه في حالة من الترقب والتوتر طيلة أحداثه، من العسير أن يزعزع ذلك شعوراً بأن العمل ككل غير مرضٍ فنياً، بنفس القدر الذي كانت عليه الأجزاء السابقة له.
ويعود ذلك جزئياً إلى ما يُعرف بـ”قانون تناقص الغلة”، والذي يقوم على أنه إذا كان لدينا عنصران أو أكثر من عناصر الإنتاج، أحدها ثابت الكمية والآخر متغير الكمية، فإن زيادة العنصر المتغير سيترتب عليها تناقص ما يُعرف بالناتجين الحدي والمتوسط بعد فترة معينة.
فقد نجح غرينغراس وديمون – وبقدر أقل المخرج دوغ لايمان – في إتمام مهمة تشذيب وصقل الصيغة التي تُبنى عليها سلسلة أفلام بورن، إذ أنهم باتوا على علمٍ كامل بما يتعين الإبقاء عليه من عناصرها، لجعلها مختلفة تماماً عن السلاسل السينمائية الأخرى التي تتناول قصص الجاسوسية.
لكن الجانب السلبي لهذه التركيبة المحكمة والمنضبطة هو أنها لا تدع مجالاً كبيراً للمناورة أمام صناع أفلام بورن.
فلم يعد الأمر يسمح لهم بأن يُظهروا بورن وهو يقفز مُرتدياً زلاجات من على قمة جرف، أو وهو يثب في قلب مركبة فضاء، أو وهو يحتسي مشروبا كحوليا ويتفوه بمزحة غير لائقة قليلا.
الخلاصة، أنه لم يعد بمقدور صناع هذه السلسلة إظهار بطلها وهو يُقْدِمُ على أي فعل، لم يقم به من قبل في فيلميّ “ذا بورن سوبرماسي” (سطوة بورن) و”ذا بورن ألتيماتم” (ذروة بورن).
الأسوأ من ذلك، أنه لم يعد بالإمكان جعل بورن يؤدي ما قام به في هذين الفيلمين بشكل أكثر إثارة. فبعد فيلمين استحقا – بشكل أو بآخر – أن يحتوي اسماهما على مفردتيّ “سطوة وذروة”، من الحتمي أن يبدو أي فيلم تالٍ لهما أقل جاذبية، وأشبه بمعالجة جديدة شكلاً قديمة مضموناً لما سبق وأن شاهدناه من قبل.
بل إن التكرار أحياناً ما يدفع المرء إلى الشعور بالسخط ونفاد الصبر أو الانزعاج. أليس من قبيل السخف – على سبيل المثال – أن تبقى الـ(سي آي آيه) عاكفةً على ملاحقة بورن، في مهمة بدأت محاولاتهم بصددها قبل 14 عاماً في فيلم “ذا بورن آدينتيتي”؟
وبالنظر إلى حجم الموارد البشرية والمادية والتقنيات المتطورة للغاية التي تستحوذ عليها الوكالة – في الفيلم – يحسب المرء أنه كان يجدر بها الوصول إلى من تلاحقه منذ أمد بعيد.
رغم ذلك، فها هم مسؤولو الوكالة ينفقون أموالاً طائلة، ويطلقون النار على عددٍ لا يحصى من المارة الأبرياء، في غمار محاولاتهم لاصطياد بورن. فأي لغو هذا!. ألم يكن من المنطقي بشكل أكبر، أن يركز مسؤولو الاستخبارات الأمريكية على اصطياد الإرهابيين بدلاً من ذلك؟
ولكن المشكلة التي يعاني منها فيلم “جيسون بورن” تتجاوز مجرد إلمامنا بكل سلبياته وأوجه القصور الكامنة فيه، بسبب معرفتنا الشديدة به. فهناك بضع نغمات نشاز، توحي بأن فريق العمل الذي التئم شمله لتوه من جديد لم يتجانس بعد في أدائه بشكل كامل.
ومن بين أسباب ذلك، لجوء غرينغراس إلى هراء أفلام التجسس، أكثر من ذي قبل؛ لنجد قدراً أكبر من الرطانة، والمزيد من عمليات التحميل السريعة – على نحو سخيف – التي تجري على أجهزة الكمبيوتر.
فضلاً عن أن العمل الجديد يتضمن مزيداً من المشاهد التي يُظهر كلٌ منها شخصاً ما، يحدق في صورة تظهر أمامه على شاشة كمبيوتر، قبل أن يصيح – كمن ينبح – قائلاً “حَسِّنْ من مستوى الصورة”، لتتحول الصورة الضبابية فجأة إلى صورة شديدة الوضوح.
سبب آخر؛ يتمثل في أن غرينغراس كان – على ما يبدو – يحاول تقديم فيلمين في فيلم واحد؛ أحدهما عن بورن وهويته، تماماً كما كان الحال في الأفلام السابقة في السلسلة. أما الآخر، فيتناول مؤامرةً تجري على شبكة الإنترنت، بتقنيات متطورة للغاية، ولا علاقة لها ببطلنا على الإطلاق.
وفي هذا الإطار، من الغريب أن يكون عنوان الفيلم عبارة عن اسم “جيسون بورن” بالكامل، في ضوء أن شخصيته في الفيلم ذات دور مساعد تقريباً. فهي في هذه المرة، أقل عمقاً وأقل ظهوراً على الشاشة، وأقل حديثاً كذلك مقارنة بذي قبل. لذا ربما كان ينبغي أن يُسمّى الفيلم “مطاردة بورن” بدلا من الاسم الذي يُعرض به بالفعل.
ويتمحور الجانب غير المتعلق بـ”بورن” في الفيلم، حول التعاملات الغامضة بين الـ(سي آي آيه) ورجل أعمالٍ يمارس أنشطته في الولايات المتحدة، والذي يجسد دوره الممثل ريز أحمد.
ولدى شبكة التواصل الاجتماعي الخاصة بهذا الرجل؛ شعبية تفوق تلك التي تحظى بها مواقع وتطبيقات مثل “فيسبوك” و”إنستغرام” و”تويتر” مجتمعة. غير أن المشكلة تكمن في أن هناك أفلاماً كثيرة بحق، سبق وأن تناولت هذا الخط الدرامي المستوحى من قضية “ويكيليكس” والمتعاقد السابق مع الاستخبارات الأمريكية إدوارد سنودن.
بعد كل ذلك، نجد أن المخطط الخاص بالشخصية الشريرة في “جيسون بورن” يتضمن “عملية مراقبة شاملة – تُخضِع الجميع للرقابة في كل الأوقات”.
ولكن أليس ما سبق هو ذاته ما كان يخطط له “بلوفلد” في فيلم سبكتر؟ وهكذا؛ يبدو أن المرء يكتشف وجود خطأ ما يعتري أحد أفلام سلسلة “بورن”، إذا ما تأخر عرضه عاماً بعد عرض فيلم من سلسلة جيمس بوند.
الوكالات ـ «سينماتوغراف»
يجمع فيلم “جيسون بورن” من جديد بين الممثل مات ديمون والمخرج بول غرينغراس، بعد نحو عقد من الزمان من آخر عمل جمع بينهما. لكن هل كان بوسعهما خلق الجو الساحر نفسه الذي أبدعاه عندما تعاونا معاً في السابق؟، هذا ما يرصد الناقد نيكولاس باربر في تحليله التالي عن الفيلم الذي يعرض حاليا حول العالم.
على نحو مفاجئ؛ عاد عنوان “بورن مرة أخرى” ليظهر في صدارة العناوين الرئيسية لموضوعات عالم السينما. فبعد عقد تقريباً من عرض فيلم “ذا بورن ألتيماتم” (ذروة بورن)؛ التئم شمل الممثل مات ديمون مع المخرج والمؤلف بول غرينغراس لتقديم الفيلم الجديد “جيسون بورن”.
ويحكي الفيلم قصة أخرى مفعمة بالحركة تتناول ذاك العميل المتميز للغاية، الذي يعمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي آيه)، ولكنه مُصابٌ بفقدان الذاكرة، ومنشق عن الوكالة في الوقت نفسه.
وقد وُلِدت هذه الشخصية في قصة ألفها الكاتب روبرت لدلم. وظهرت للمرة الأولى على شاشة السينما في فيلم حمل عنوان “ذا بورن آدينتيتي” (هوية بورن)، وأخرجه دوغ لايمان.
ورغم ذلك؛ صارت السلسلة، التي تتناول تلك الشخصية، مرتبطةً الآن بشكل أكبر بديمون وغرينغراس، إلى حد أنه إذا ما قدم مخرج آخر أحد أفلامها، مثلما فعل جيريمي رينر مع فيلم “ذا بورن ليغاسي” (إرث بورن)، يبدو العمل أشبه بنسخة حداثية للغاية من أغنية كلاسيكية.
أما “جيسون بورن”، فهو أقرب إلى ذاك الشدو الذي يستمتع به المرء، عندما يلتئم شمل فريق موسيقي من جديد.
على أي حال؛ فمنذ آخر مرة شاهدناه فيها على الشاشة، ظل بورن بعيداً عن مراقبة السلطات أو سيطرتها، ويكسب قوت يومه من خلال ممارسة رياضة الملاكمة دون قفازات.
ومع أن من المخيب للآمال، كونه لم يستفد من مهاراته الفريدة، فإن الفكرة هنا أنه كان يعاني من صدمة، جراء الفترة التي عمل فيها قاتلاً في إطار عملية سرية تجري لصالح الحكومة، جُنِدَ لها بعدما تعرض لغسيل دماغ.
على أي حال؛ فإن صفو الحياة التي كان يعيشها بورن، وهو مجهول الهوية، يتعكر على يد رفيقة له خلال العمل لصالح (سي آي آيه) تُدعى نيكي بارسونز، والتي تؤدي دورها الفنانة جوليا ستايلز. إذ تتعقبه بارسونز لتشاطره بعض المعلومات التي كُشفت حديثاً بشأن ماضيه المظلم.
ويثير ذلك فضول بورن بما يكفي لدفعه لمزيد من البحث والتقصي، وهو ما يقض مضجع مدير الـ(سي آي آيه)، الذي يجسد شخصيته الممثل تومي لي جونز، والذي يضفي على الشخصية طابع رجل الدولة الحكيم كبير السن، ذي الوقار والقدرة على الخداع والمراوغة في الوقت نفسه.
وهو نفس الطابع، الذي نجح في خلقه خلال الأجزاء السابقة من السلسلة، ممثلون مثل بريان كوكس، وكريس كوبر، ودافيد ستراثيام وألبرت فيني.
ويرى لي جونز أنه لابد أن يلقى بورن حتفه، من خلال الاستعانة بقاتل محترف لا يُعرف سوى باسمه الحركي (ذا أسيت) – وهو ما يعني باللغة العربية “ذو القيمة العالية”.
ويبدو ذلك اسما على مسمى؛ إذ أن دور هذا القاتل يُسند إلى الممثل فنسنت كاسيل، صاحب الثقل الفني الكبير بالفعل. ولكن النائبة الداهية لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والتي تقوم بدورها الممثلة أليشيا فيكاندر، تعتقد أن ثمة إمكانية لإقناع بورن بالعمل لحساب الوكالة من جديد.
وهكذا تسود الفيلم أجواءٌ شبيهة بتلك التي سادت في الأيام الخوالي. فمن جديد؛ يتنقل بورن بسرعة تحبس الأنفاس من مدينة أوروبية إلى أخرى، تبدو كلها كئيبة.
ومن جديد، نراه طيلة الوقت، وهو يتفوق بالكاد على أعدائه.
ومرة أخرى، يصمم المخرج غرينغراس مشاهد الحركة بذاك الطابع الآني السريع الموجع للعظام، عبر الاستعانة بكاميرات متأرجحة محمولة على الكتف أو يمسك بها المصورون في أياديهم، ويتوج كل ذلك بأسلوب مميز في المونتاج، يجعل اللقطات تتلاحق كطلقات مدفع رشاش، ما يُشعر المشاهد بأنه عرضة في أي لحظة للإصابة بطلقة طائشة أو للضرب بقبضة ضلت طريقها.
ومنذ أن أعاد فيلم “ذا بورن سوبرماسي” (سطوة بورن) عام 2004، صياغة قواعد فئة أفلام الجاسوسية، سعى كثيرون لمحاكاة الأسلوب المحموم والغامر الذي يتميز به غرينغراس، لكن أحداً منهم لم يتحل بنفس مقدرة هذا الرجل على تصميم مشاهد العراك والقتال – المؤلفة من لقطات قصيرة تبدو في الظاهر غير مترابطة – بإيقاعٍ سريع إلى حد يدير الرؤوس.
وتُنفذ هذه المشاهد بأسلوب يُمكّن المشاهد من متابعتها وفهم تفاصيلها في الوقت نفسه.
وفي ما بدا محاولة من غرينغراس لكي يوضح لمقلديه كيفية قيامه بعمله، اختار الرجل أول مشهد مطوّل في الفيلم، في خضم مظاهرة مناوئة للحكومة اليونانية في العاصمة أثينا، وهنا بدت الثقة التي “تحكم” بها المخرج في “الفوضى” التي يعج بها المشهد مُذهلة.
وبمجرد أن تشاهد بورن، وهو يمضي بسرعة فائقة، بين حشود المحتجين وقوات مكافحة الشغب، في مدينة تختنق تحت وطأة سحب الدخان والغاز المسيل للدموع، لن يكون بوسعك سوى أن تبتسم بسخرية، إذا ما أعدت مشاهدة ما تضمنه فيلم “سبكتر”، أحدث أفلام سلسلة جيمس بوند، من مطاردة سخيفة بالسيارات في شوارع روما، التي بدت مهجورة عن قصد، بما يلائم أغراض صناع العمل.
ولكن حتى في الوقت الذي ينجح “جيسون بورن” في إبقاء مشاهديه في حالة من الترقب والتوتر طيلة أحداثه، من العسير أن يزعزع ذلك شعوراً بأن العمل ككل غير مرضٍ فنياً، بنفس القدر الذي كانت عليه الأجزاء السابقة له.
ويعود ذلك جزئياً إلى ما يُعرف بـ”قانون تناقص الغلة”، والذي يقوم على أنه إذا كان لدينا عنصران أو أكثر من عناصر الإنتاج، أحدها ثابت الكمية والآخر متغير الكمية، فإن زيادة العنصر المتغير سيترتب عليها تناقص ما يُعرف بالناتجين الحدي والمتوسط بعد فترة معينة.
فقد نجح غرينغراس وديمون – وبقدر أقل المخرج دوغ لايمان – في إتمام مهمة تشذيب وصقل الصيغة التي تُبنى عليها سلسلة أفلام بورن، إذ أنهم باتوا على علمٍ كامل بما يتعين الإبقاء عليه من عناصرها، لجعلها مختلفة تماماً عن السلاسل السينمائية الأخرى التي تتناول قصص الجاسوسية.
لكن الجانب السلبي لهذه التركيبة المحكمة والمنضبطة هو أنها لا تدع مجالاً كبيراً للمناورة أمام صناع أفلام بورن.
فلم يعد الأمر يسمح لهم بأن يُظهروا بورن وهو يقفز مُرتدياً زلاجات من على قمة جرف، أو وهو يثب في قلب مركبة فضاء، أو وهو يحتسي مشروبا كحوليا ويتفوه بمزحة غير لائقة قليلا.
الخلاصة، أنه لم يعد بمقدور صناع هذه السلسلة إظهار بطلها وهو يُقْدِمُ على أي فعل، لم يقم به من قبل في فيلميّ “ذا بورن سوبرماسي” (سطوة بورن) و”ذا بورن ألتيماتم” (ذروة بورن).
الأسوأ من ذلك، أنه لم يعد بالإمكان جعل بورن يؤدي ما قام به في هذين الفيلمين بشكل أكثر إثارة. فبعد فيلمين استحقا – بشكل أو بآخر – أن يحتوي اسماهما على مفردتيّ “سطوة وذروة”، من الحتمي أن يبدو أي فيلم تالٍ لهما أقل جاذبية، وأشبه بمعالجة جديدة شكلاً قديمة مضموناً لما سبق وأن شاهدناه من قبل.
بل إن التكرار أحياناً ما يدفع المرء إلى الشعور بالسخط ونفاد الصبر أو الانزعاج. أليس من قبيل السخف – على سبيل المثال – أن تبقى الـ(سي آي آيه) عاكفةً على ملاحقة بورن، في مهمة بدأت محاولاتهم بصددها قبل 14 عاماً في فيلم “ذا بورن آدينتيتي”؟
وبالنظر إلى حجم الموارد البشرية والمادية والتقنيات المتطورة للغاية التي تستحوذ عليها الوكالة – في الفيلم – يحسب المرء أنه كان يجدر بها الوصول إلى من تلاحقه منذ أمد بعيد.
رغم ذلك، فها هم مسؤولو الوكالة ينفقون أموالاً طائلة، ويطلقون النار على عددٍ لا يحصى من المارة الأبرياء، في غمار محاولاتهم لاصطياد بورن. فأي لغو هذا!. ألم يكن من المنطقي بشكل أكبر، أن يركز مسؤولو الاستخبارات الأمريكية على اصطياد الإرهابيين بدلاً من ذلك؟
ولكن المشكلة التي يعاني منها فيلم “جيسون بورن” تتجاوز مجرد إلمامنا بكل سلبياته وأوجه القصور الكامنة فيه، بسبب معرفتنا الشديدة به. فهناك بضع نغمات نشاز، توحي بأن فريق العمل الذي التئم شمله لتوه من جديد لم يتجانس بعد في أدائه بشكل كامل.
ومن بين أسباب ذلك، لجوء غرينغراس إلى هراء أفلام التجسس، أكثر من ذي قبل؛ لنجد قدراً أكبر من الرطانة، والمزيد من عمليات التحميل السريعة – على نحو سخيف – التي تجري على أجهزة الكمبيوتر.
فضلاً عن أن العمل الجديد يتضمن مزيداً من المشاهد التي يُظهر كلٌ منها شخصاً ما، يحدق في صورة تظهر أمامه على شاشة كمبيوتر، قبل أن يصيح – كمن ينبح – قائلاً “حَسِّنْ من مستوى الصورة”، لتتحول الصورة الضبابية فجأة إلى صورة شديدة الوضوح.
سبب آخر؛ يتمثل في أن غرينغراس كان – على ما يبدو – يحاول تقديم فيلمين في فيلم واحد؛ أحدهما عن بورن وهويته، تماماً كما كان الحال في الأفلام السابقة في السلسلة. أما الآخر، فيتناول مؤامرةً تجري على شبكة الإنترنت، بتقنيات متطورة للغاية، ولا علاقة لها ببطلنا على الإطلاق.
وفي هذا الإطار، من الغريب أن يكون عنوان الفيلم عبارة عن اسم “جيسون بورن” بالكامل، في ضوء أن شخصيته في الفيلم ذات دور مساعد تقريباً. فهي في هذه المرة، أقل عمقاً وأقل ظهوراً على الشاشة، وأقل حديثاً كذلك مقارنة بذي قبل. لذا ربما كان ينبغي أن يُسمّى الفيلم “مطاردة بورن” بدلا من الاسم الذي يُعرض به بالفعل.
ويتمحور الجانب غير المتعلق بـ”بورن” في الفيلم، حول التعاملات الغامضة بين الـ(سي آي آيه) ورجل أعمالٍ يمارس أنشطته في الولايات المتحدة، والذي يجسد دوره الممثل ريز أحمد.
ولدى شبكة التواصل الاجتماعي الخاصة بهذا الرجل؛ شعبية تفوق تلك التي تحظى بها مواقع وتطبيقات مثل “فيسبوك” و”إنستغرام” و”تويتر” مجتمعة. غير أن المشكلة تكمن في أن هناك أفلاماً كثيرة بحق، سبق وأن تناولت هذا الخط الدرامي المستوحى من قضية “ويكيليكس” والمتعاقد السابق مع الاستخبارات الأمريكية إدوارد سنودن.
بعد كل ذلك، نجد أن المخطط الخاص بالشخصية الشريرة في “جيسون بورن” يتضمن “عملية مراقبة شاملة – تُخضِع الجميع للرقابة في كل الأوقات”.
ولكن أليس ما سبق هو ذاته ما كان يخطط له “بلوفلد” في فيلم سبكتر؟ وهكذا؛ يبدو أن المرء يكتشف وجود خطأ ما يعتري أحد أفلام سلسلة “بورن”، إذا ما تأخر عرضه عاماً بعد عرض فيلم من سلسلة جيمس بوند.