جيرودو (جان)
Giraudoux (Jean-) - Giraudoux (Jean-)
جيرودو (جان ـ)
(1882ـ1944)
جان جيرودو Jean Giraudoux كاتب روائي وأحد أبرز كتاب المسرح الفرنسي في القرن العشرين. ولد في بلدة بِلاّك Bellac بالقرب من ليموج Limoges وتوفي في باريس. تنحدر عائلته من أصول فلاحية، وكان والده موظفاً في دائرة الجسور والطرق. اطلع جيرودو في المدرسة الثانوية على الأدبين الإغريقي واللاتيني بصورة معمقة، الأمر الذي ظهر جلياً في أعماله، ولاسيما المسرحية منها. تعلم اللغة الألمانية وشغف بها فتابع دراستها في جامعة السوربون. حصل على منحة دراسية ألمانية أقام خلالها في قصر أمير مقاطعة ساكسِن مايننْغِن Sachsen-Meiningen فعمل معلماً خاصاً في عام 1905، ثم انتقل في عام 1906 إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث عمل مدرساً للغة الفرنسية في جامعة هارفرد، عاد بعدها إلى باريس وعمل حتى عام 1910 محرراً في الصحافة الأدبية، ثم انتسب إلى السلك الدبلوماسي وخدم في السفارات الفرنسية في ألمانية وروسية وتركية. صار جيرودو في عام 1924 مدير المكتب الصحفي في وزارة الخارجية، وبقي فيه عشر سنوات، انتقل بعدها إلى رئاسة مكتب الخدمات الدبلوماسية. وصار وزيراً للدعاية بين عامي 1939-1940، لكنه تخلى عن جميع مناصبه الرسمية عندما انتصر النازيون على الجيش الفرنسي في بداية الحرب العالمية الثانية.
بدأ جيرودو حياته الأدبية في ميدان القصة الطويلة والرواية، فكانت باكورة أعماله قصة «الريفيات» (1909) Provinciales. وبعد الحرب العالمية الأولى نشر «مطالعات موجهة إلى شبح» (1917) Lectures pour une ombre و«كليو الفاتن» (1920) Adorable Clio يستعيد فيهما ذكرياته وتجاربه في الحرب. كما نشر بين عامي 918-1919 روايتي «سيمون المثير للشفقة» Simon le pathétique و«إلبينور» Elpénor اللتين تنتميان إلى جنس السيرة الذاتية، بأسلوب سردي يعتمد تقاليد هوميروس[ر] ولكن بمسحة من الغموض تغلف الحوادث والشخصيات المرتبطة بمرحلة دراسة المؤلف في دار المعلمين قبل دراسته الجامعية. وتلت ذلك روايته الشهيرة «سوزان والمحيط الهادئ» (1921) Suzanne et le Pacifique التي لفتت إليه أنظار النقاد ككاتب طليعي تمتاز قصصه ورواياته بتعقيد وغرابة حبكتها وبأسلوبها اللغوي ذي الصبغة الرفيعة. وفي هذه الرواية يتناول جيرودو أول مرة الموضوع الذي سيتكرر بمعالجات مختلفة في بعض رواياته الأخرى، وهو إمكانية تعايش الإنسان في انسجام مع الكون متخلياً عن جميع قشور الحضارة المزعومة. وهذا هو ما يحصل مع بطلته سوزان في الجزيرة المنعزلة في المحيط الهادئ. لكن ما يخرجها من جنتها الطبيعية هو شعورها الحاد بالعزلة. وفي العام التالي صدرت روايته «زيغفريد والليموزان» (1922) Siegfried et le Limousin التي عالج فيها قضية العداء المتأصل بين فرنسة وألمانية، وتلتها بعد عامين رواية «جولييت في بلد الرجال» (1924) Juliette au pays des homes، ثم «بيلاّ» (1926) Bella و«إغلانتين» (1927) Eglantine، و«مغامرات جيروم بارديني» (1930) Aventures de Jérôme Bardini و«صراع مع الملاك» (1934) Combat avec l’ange. وما يستدعي الاهتمام في جميع هذه الروايات هو خروجها على السائد التقليدي من حيث بنية الشكل الروائي والموضوع في آن واحد، فجيرودو لا يعبأ كثيراً بالتركيز على الأحداث أو نهايتها، لذلك يصعب إعادة سرد مضمونات رواياته حكاياتٍ، وهو يلجأ إلى أسلوب السرد الاستطرادي مازجاً بين الواقعي والأسطوري واللامعقول. أما بصدد الغموض المعروف عن أسلوبه، فإنه يشوب سياق الأحداث لا الأفكار التي يعرضها بلغة جميلة جلية. ومفتاح التعرف على شخصياته وكشف دواخلها وتطلعاتها هو عنصر السفر الموجود في جميع أعماله، إلا أنه ليس سفراً رومنسياً، ولا طلباً للهجرة بوصفها غاية؛ فغالباً ما تعود شخصياته من سفرها إلى نقطة الانطلاق محمَّلة بحكمة عميقة وبسيطة تتركز في ضرورة أن يصقل الكائن واقعه الموجود وأن يرضى بما هو عليه، لا أن يبحث عما يجب أن يكون. وبذلك يتعارض جيرودو مع غالبية الأدباء الذين يدعون إلى رفض الواقع السائد وإلى الثورة عليه بهدف تغييره نحو الأفضل، في حين يبقى جيرودو وشخصياته معه رواقيين [ر. الرواقية] ينشدون الانسجام بين العمل والعقيدة بعيداً عن جموح الشهوات. والأمر الآخر الذي يلفت الانتباه لدى جيرودو هو أن غالبية شخصياته فتيات في مقتبل العمر، مفعمات بالحيوية وعلى اتصال مباشر ومتناغم مع عناصر الطبيعة. وليس في هذا ما يشير إلى إهمال جيرودو للرجال أو عدائه لهم، لكنه يرى أن الفتاة أكثر قابلية وأهلية للاتصال بالطبيعة من الشاب، الأمر الذي يتجلى في مسرحه أيضاً.
بدأ جيرودو الاهتمام بالمسرح والكتابة له بتشجيع من أصدقائه المعجبين بحواراته في رواياته، وبعد أن أنجز مسرحية «زيغفريد» Siegfried التي عُرضت في عام 1928 إخراج الممثل والمخرج لوي جوفيه[ر] L.Jouvet الذي أخرج له معظم مسرحياته حتى الحرب العالمية الثانية، فهيمنا معاً على الساحة المسرحية الفرنسية قرابة ثلاثين عاماً. وقد تميزت مسرحيات جيرودو بأسلوب فني رفيع وحوارات رشيقة وبتوجه إنساني شامل ولغة مطواعة رشيقة، مما جعل تأثيره المسرحي في الجمهور فعالاً وممتعاً، حتى لقبه النقاد الفرنسيون بـ «راسين العصر».
لم يبتكر جيرودو موضوعاته المسرحية، بل استمدها من الأساطير والحكايات والكتاب المقدس، وقدمها في معالجات جديدة تتسم ببعدٍ ساخر وتهكم كئيب مبطن. وهو يرى في جل أعماله أن السمة الأساسية للوجود الإنساني تتشكل من توق الإنسان نحو القيم المطلقة، وتتركز في الصراع بين الإرادة البشرية والفشل المحتوم قدرياً. وفي بعض مسرحياته، مثل «زيغفريد» ينحل هذا الصراع في الختام إيجابياً بفضل صدفة عادية. وفي مسرحية «أمفيتريون - 38» (1928) Amphitryon-38 ترغب الآلهة في أن تغرِّر بالبشر وتتسلى في وحدتها بحيرتهم، ولكن تفشل بسبب ذكاء البشر وولائهم لها، إذ إن ألكمينه Alkmene زوجة القائد والحاكم أمفيتريون تفضل بساطة علاقتها البشرية بزوجها على الخلود الموعود باتصالها بالإله جوبيتر الذي خدعها وجعلها تنجب منه هرقل[ر] Herakles، الذي استقبل أمفيتريون ولادته بامتنان لكرم الآلهة. أما «جوديت» (1931) Judith المقتبسة من التوراة[ر] فهي المسرحية الوحيدة التي صنفها المؤلف كمأساة، ولكن خلافاً للأصل فإن جوديت هنا لا تقتل انتقاماً ولكن خشية أن يضيّع النسيان حبها الفتي الجميل. أما موضوع الحرب القدرية التي تنزل بالبشر كالوباء لحظة هنائهم فقد عالجه جيرودو في «لن تقع حرب طروادة» (1935) La guerre de Troie n‘aura pas lieu وفي «سدوم وعمورة» (1943) Sodome et Gomorrhe المستقاة أيضاً من التوراة. وفي «إنترمتزو أو بين بين» (1933) Intermezzo يقابل الكاتب بسخرية مرّة بين ضيق العقل الوظيفي الممثل بالمفتش وبين خيال المعلمة الفتية إيزابيل الذي يحقق السعادة والعدالة لطالباتها ولسكان البلدة. أما مسرحية «أوندين» (1939) Ondine فقد اقتبسها جيرودو من قصة بالعنوان نفسه للكاتب الفرنسي فريدريك فوكيه[ر] لكنه عاد إلى أصولها الجرمانية القديمة وقلب العلاقة التقليدية المألوفة في الحكايات الخرافية[ر] بين البشر والحوريات بحيث تنتصر في مسرحيته فكرة العدالة الفنية، مبينة أن البشر المتبجحين بتطورهم هم الأكثر حاجة إلى فطرة وطبيعية الكائنات الأخرى وليس العكس. وفي آخر مسرحياته «مجنونة شايو» (1945) La folle de Chaillot التي تُعد الأكثر تشاؤماً بين أعماله حيال حكمة البشر، ينسب جيرودو إنقاذ مدينة باريس من براثن التجار الذين يبغون تدميرها إلى امرأة مجنونة والمؤمنين بها من الفقراء. وقد رسم شخصية المجنونة ببراعة مسرحية جعلت الممثلات يتهافتن على أداء الدور. وهكذا فإن مسرحياته تراوح بين لونين، الأسود المتشائم والوردي المتفائل، متنقلة ومازجة بين الأنواع المسرحية، من الهزل الخفيف حتى الحوار الفلسفي، ومن القصص الخيالية والخرافية إلى الهجائيات المرحة أو الساخرة.
إن عالم العقل لدى جيرودو مليء بالشر وحافل بالحمقى، لذلك لجأ إلى الخيال ليخلق عالماً شاعرياً بديلاً بعيداً عن رتابة الحياة الأرضية، وسكانه صفوة تعيش في غبطة، وحتى رموز الشر في هذا العالم تبدو مغايرة لما هي عليه في الواقع، فلا تبعث الخوف والاشمئزاز، بل إن القدر المهلك عادة يبدو هنا متجانساً مع عناصر الطبيعة، وهو إذ يقوم بوظيفته فإنه لا يريد بالبشرية شراً، بل هو يحفظ لها تعادلها وانسجامها. والموت في عالم جيرودو هذا ليس عدواً مفزعاً وظالماً، بل هو عالم عذب جذاب ترتاح إليه القلوب. وإن لم تُصب روايات جيرودو كبير اهتمام من جانب النقد الأدبي عالمياً، ولم تحقق ذلك النجاح في الترجمة نظراً لخصوصيتها اللغوية، فإن مسرحياته على النقيض من ذلك قد حققت على صعيد العرض المسرحي في فرنسة وخارجها، وفي مختلف اللغات التي تُرجمت إليها، نجاحاً ملحوظاً وتأثيراً عميقاً في حركة التأليف المسرحي في القرن العشرين.
نبيل الحفار
Giraudoux (Jean-) - Giraudoux (Jean-)
جيرودو (جان ـ)
(1882ـ1944)
بدأ جيرودو حياته الأدبية في ميدان القصة الطويلة والرواية، فكانت باكورة أعماله قصة «الريفيات» (1909) Provinciales. وبعد الحرب العالمية الأولى نشر «مطالعات موجهة إلى شبح» (1917) Lectures pour une ombre و«كليو الفاتن» (1920) Adorable Clio يستعيد فيهما ذكرياته وتجاربه في الحرب. كما نشر بين عامي 918-1919 روايتي «سيمون المثير للشفقة» Simon le pathétique و«إلبينور» Elpénor اللتين تنتميان إلى جنس السيرة الذاتية، بأسلوب سردي يعتمد تقاليد هوميروس[ر] ولكن بمسحة من الغموض تغلف الحوادث والشخصيات المرتبطة بمرحلة دراسة المؤلف في دار المعلمين قبل دراسته الجامعية. وتلت ذلك روايته الشهيرة «سوزان والمحيط الهادئ» (1921) Suzanne et le Pacifique التي لفتت إليه أنظار النقاد ككاتب طليعي تمتاز قصصه ورواياته بتعقيد وغرابة حبكتها وبأسلوبها اللغوي ذي الصبغة الرفيعة. وفي هذه الرواية يتناول جيرودو أول مرة الموضوع الذي سيتكرر بمعالجات مختلفة في بعض رواياته الأخرى، وهو إمكانية تعايش الإنسان في انسجام مع الكون متخلياً عن جميع قشور الحضارة المزعومة. وهذا هو ما يحصل مع بطلته سوزان في الجزيرة المنعزلة في المحيط الهادئ. لكن ما يخرجها من جنتها الطبيعية هو شعورها الحاد بالعزلة. وفي العام التالي صدرت روايته «زيغفريد والليموزان» (1922) Siegfried et le Limousin التي عالج فيها قضية العداء المتأصل بين فرنسة وألمانية، وتلتها بعد عامين رواية «جولييت في بلد الرجال» (1924) Juliette au pays des homes، ثم «بيلاّ» (1926) Bella و«إغلانتين» (1927) Eglantine، و«مغامرات جيروم بارديني» (1930) Aventures de Jérôme Bardini و«صراع مع الملاك» (1934) Combat avec l’ange. وما يستدعي الاهتمام في جميع هذه الروايات هو خروجها على السائد التقليدي من حيث بنية الشكل الروائي والموضوع في آن واحد، فجيرودو لا يعبأ كثيراً بالتركيز على الأحداث أو نهايتها، لذلك يصعب إعادة سرد مضمونات رواياته حكاياتٍ، وهو يلجأ إلى أسلوب السرد الاستطرادي مازجاً بين الواقعي والأسطوري واللامعقول. أما بصدد الغموض المعروف عن أسلوبه، فإنه يشوب سياق الأحداث لا الأفكار التي يعرضها بلغة جميلة جلية. ومفتاح التعرف على شخصياته وكشف دواخلها وتطلعاتها هو عنصر السفر الموجود في جميع أعماله، إلا أنه ليس سفراً رومنسياً، ولا طلباً للهجرة بوصفها غاية؛ فغالباً ما تعود شخصياته من سفرها إلى نقطة الانطلاق محمَّلة بحكمة عميقة وبسيطة تتركز في ضرورة أن يصقل الكائن واقعه الموجود وأن يرضى بما هو عليه، لا أن يبحث عما يجب أن يكون. وبذلك يتعارض جيرودو مع غالبية الأدباء الذين يدعون إلى رفض الواقع السائد وإلى الثورة عليه بهدف تغييره نحو الأفضل، في حين يبقى جيرودو وشخصياته معه رواقيين [ر. الرواقية] ينشدون الانسجام بين العمل والعقيدة بعيداً عن جموح الشهوات. والأمر الآخر الذي يلفت الانتباه لدى جيرودو هو أن غالبية شخصياته فتيات في مقتبل العمر، مفعمات بالحيوية وعلى اتصال مباشر ومتناغم مع عناصر الطبيعة. وليس في هذا ما يشير إلى إهمال جيرودو للرجال أو عدائه لهم، لكنه يرى أن الفتاة أكثر قابلية وأهلية للاتصال بالطبيعة من الشاب، الأمر الذي يتجلى في مسرحه أيضاً.
بدأ جيرودو الاهتمام بالمسرح والكتابة له بتشجيع من أصدقائه المعجبين بحواراته في رواياته، وبعد أن أنجز مسرحية «زيغفريد» Siegfried التي عُرضت في عام 1928 إخراج الممثل والمخرج لوي جوفيه[ر] L.Jouvet الذي أخرج له معظم مسرحياته حتى الحرب العالمية الثانية، فهيمنا معاً على الساحة المسرحية الفرنسية قرابة ثلاثين عاماً. وقد تميزت مسرحيات جيرودو بأسلوب فني رفيع وحوارات رشيقة وبتوجه إنساني شامل ولغة مطواعة رشيقة، مما جعل تأثيره المسرحي في الجمهور فعالاً وممتعاً، حتى لقبه النقاد الفرنسيون بـ «راسين العصر».
لم يبتكر جيرودو موضوعاته المسرحية، بل استمدها من الأساطير والحكايات والكتاب المقدس، وقدمها في معالجات جديدة تتسم ببعدٍ ساخر وتهكم كئيب مبطن. وهو يرى في جل أعماله أن السمة الأساسية للوجود الإنساني تتشكل من توق الإنسان نحو القيم المطلقة، وتتركز في الصراع بين الإرادة البشرية والفشل المحتوم قدرياً. وفي بعض مسرحياته، مثل «زيغفريد» ينحل هذا الصراع في الختام إيجابياً بفضل صدفة عادية. وفي مسرحية «أمفيتريون - 38» (1928) Amphitryon-38 ترغب الآلهة في أن تغرِّر بالبشر وتتسلى في وحدتها بحيرتهم، ولكن تفشل بسبب ذكاء البشر وولائهم لها، إذ إن ألكمينه Alkmene زوجة القائد والحاكم أمفيتريون تفضل بساطة علاقتها البشرية بزوجها على الخلود الموعود باتصالها بالإله جوبيتر الذي خدعها وجعلها تنجب منه هرقل[ر] Herakles، الذي استقبل أمفيتريون ولادته بامتنان لكرم الآلهة. أما «جوديت» (1931) Judith المقتبسة من التوراة[ر] فهي المسرحية الوحيدة التي صنفها المؤلف كمأساة، ولكن خلافاً للأصل فإن جوديت هنا لا تقتل انتقاماً ولكن خشية أن يضيّع النسيان حبها الفتي الجميل. أما موضوع الحرب القدرية التي تنزل بالبشر كالوباء لحظة هنائهم فقد عالجه جيرودو في «لن تقع حرب طروادة» (1935) La guerre de Troie n‘aura pas lieu وفي «سدوم وعمورة» (1943) Sodome et Gomorrhe المستقاة أيضاً من التوراة. وفي «إنترمتزو أو بين بين» (1933) Intermezzo يقابل الكاتب بسخرية مرّة بين ضيق العقل الوظيفي الممثل بالمفتش وبين خيال المعلمة الفتية إيزابيل الذي يحقق السعادة والعدالة لطالباتها ولسكان البلدة. أما مسرحية «أوندين» (1939) Ondine فقد اقتبسها جيرودو من قصة بالعنوان نفسه للكاتب الفرنسي فريدريك فوكيه[ر] لكنه عاد إلى أصولها الجرمانية القديمة وقلب العلاقة التقليدية المألوفة في الحكايات الخرافية[ر] بين البشر والحوريات بحيث تنتصر في مسرحيته فكرة العدالة الفنية، مبينة أن البشر المتبجحين بتطورهم هم الأكثر حاجة إلى فطرة وطبيعية الكائنات الأخرى وليس العكس. وفي آخر مسرحياته «مجنونة شايو» (1945) La folle de Chaillot التي تُعد الأكثر تشاؤماً بين أعماله حيال حكمة البشر، ينسب جيرودو إنقاذ مدينة باريس من براثن التجار الذين يبغون تدميرها إلى امرأة مجنونة والمؤمنين بها من الفقراء. وقد رسم شخصية المجنونة ببراعة مسرحية جعلت الممثلات يتهافتن على أداء الدور. وهكذا فإن مسرحياته تراوح بين لونين، الأسود المتشائم والوردي المتفائل، متنقلة ومازجة بين الأنواع المسرحية، من الهزل الخفيف حتى الحوار الفلسفي، ومن القصص الخيالية والخرافية إلى الهجائيات المرحة أو الساخرة.
إن عالم العقل لدى جيرودو مليء بالشر وحافل بالحمقى، لذلك لجأ إلى الخيال ليخلق عالماً شاعرياً بديلاً بعيداً عن رتابة الحياة الأرضية، وسكانه صفوة تعيش في غبطة، وحتى رموز الشر في هذا العالم تبدو مغايرة لما هي عليه في الواقع، فلا تبعث الخوف والاشمئزاز، بل إن القدر المهلك عادة يبدو هنا متجانساً مع عناصر الطبيعة، وهو إذ يقوم بوظيفته فإنه لا يريد بالبشرية شراً، بل هو يحفظ لها تعادلها وانسجامها. والموت في عالم جيرودو هذا ليس عدواً مفزعاً وظالماً، بل هو عالم عذب جذاب ترتاح إليه القلوب. وإن لم تُصب روايات جيرودو كبير اهتمام من جانب النقد الأدبي عالمياً، ولم تحقق ذلك النجاح في الترجمة نظراً لخصوصيتها اللغوية، فإن مسرحياته على النقيض من ذلك قد حققت على صعيد العرض المسرحي في فرنسة وخارجها، وفي مختلف اللغات التي تُرجمت إليها، نجاحاً ملحوظاً وتأثيراً عميقاً في حركة التأليف المسرحي في القرن العشرين.
نبيل الحفار