بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان العلماء قد فهموا أن الخلايا تنشأ من خلايا مثلها، و أن المعلومات التي يتم توارثها موجودة في النواة و على الرغم من ذلك فإن الهيئة الفيزيائية لهذه المعلومات ظلت مجهولة. و لردائة وضوح الميكروسكوبات حينذاك، وجد العلماء أنفسهم مضطرين لمعالجة الخلايا بصبغات مختلفة لزيادة وضوح مكوناتها. كان هذا الأسلوب المبتكر هو وسيلة المشرّح الألماني والتر فلمنج لاستكشاف تحفة الإنقسام الميتوزي، وصف فلمنج شبكة ليفية داخل النواة و التي سميّت فيما بعد بالكروماتين « Chromatin المادة القابلة للصبغ ». لحقت هذه الحقبة تطورًا في التقنيّات الخلوية و الميكروسكوبية و ذلك بنهايات القرن التاسع عشر، خلال هذه الفترة أخد الرائد في علم الأجنّة ثيودور بوفيري اكتشافات فلمنج للمستوى التالي و ذلك بإثبات أن الكروموسوم في الواقع هو المسؤول عن توارث المادة الوراثية. راقب بوفيري مصير كلًا من الكروموسومات الجسدية و الجنسية و لاحظ أن عدد الكروموسومات كان أقل في الجاميتات ( النصف ) و التي كانت تتحول إلى العدد الطبيعي بإتحاد المشيج المذكر و المؤنث مقدمًا بذلك أول وصف لعملية الإنقسام الميوزي. [1]
تلى ذلك جدل عارم في المجتمع العلمي حول ماهية الجزء المسؤول عن انتقال المعلومات في الكروموسوم، هل هو البروتين أم الحمض النووي. كانت الأدلة التي تدعم حقيقة أن الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين DNA هو بالفعل المسؤول عن انتقال المادة الوراثية شحيحة، و ذلك لبساطة تركيبه ظاهريًا. ثم كان لفريدريك جريفث أن يجري تجاربه على الفئران موجهًا أول ضربة للفريق المؤيد للبروتين كمادة وراثية. ثم تتابعت الأدلة بتحليل أفري و مكليود و مكارتي لتجربة جريفث ثم بتجارب هيرشي و تشيس على البكتيريوفاج حتى كان من الآمن القول بأنه قطعًا و لا شك، الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA هو المادة الوراثية! إسهامات وادينجتون
حاول الألماني أوجاست وايزمان خلال تسعينيات القرن التاسع عشر إثبات التأثير البيئي على الوراثة، حيث قام بقطع ذيل خمسة أجيال من الفئران، كانت النتيجة واضحة لا زالت الفئران تولد بذيل! في 1956 حقق كونراد وادنجتون ما فشل في تحقيقه وايزمان و نشر بذلك ورقة بحثية في دورية التطور journal Evolution. امتلك وادينجتون فرصًة أكبر في تحقيق هذا الهدف على أية حال، ذلك لإدراكه أنه إن أراد أن يختبر قابلية الوراثة لصفة مكتسبة فعليه أولًا أن يستكشف الأنماط المختلفة التي يمكن للجنين أن يتطور إليها، لنسمي هذه الخصيصة المرونة التطورية. مثّل وادنجتون عملية التطور الجنيني بسلسلة من القرارات التي يمكن تشبيهها بأودية في أفق « أنظر الشكل أسفله ». و بدراسته لأجنة ذباب الفاكهة، استطاع وادنجتون أن يتحقق من أكثر من نمط لنمو منطقة الصدر و الأجنحة و ذلك بتغيير درجة حرارة البيئة أو بالإستثارة الكيميائية. يمكن تمثيل ذلك في الإستعارة المسبقة بتلاعب في ميل الأفق التطوري و الذي قد يؤدي بإحدى القنوات « قرار تطوري » أن يكون مفضلًا عن سواه. و نتيجًة لذلك يظهر للأفراد البالغة طرز مظهرية مختلفة Phenotypes بدءًا بنفس الطرز الجيني Genotype. [2]
كانت الخطوة التالية في تجربته مثيرًة للاهتمام، اختار وادنجتون الأفراد التي أظهرت خصائص جديدة و سمح لها بالتزاوج مطبقًا عليها نفس الظروف البيئية التي جعلتها تُظهر هذه الخصائص في المقام الأول. كانت النتيجة نسلًايحتوى على نسبة أكبر من الأفراد التي تمتلك الخصيصة الجديدة. و بعد عدد قليل نسبيًا من الأجيال وجد وادنجتون أن بوسعه الحصول على الخصائص الجديدة من أفراد تمتلكها حتى بدون تطبيق التأثير البيئي! لقد صار التغير النمطي في المظهر بتأثير البيئة « مدمجًا » في وراثة الأفراد بعد أن كان مجرد تأثير فوقي. هذا التأثير الفوقي نعرفه اليوم باسم « علم التخلّق أو الإيبيجينتكس » أو « Epigenetics ». [2]
ميكانيكيات التخلّق
التخلّق أو الأيبيجينتكس epigenetics هو مصطلٌح صاغه وادينجتون نفسه مشيرًا إلى تلك التغيرات في النمط المظهري أو الشكلي أو الوظيفي لكائن حي معين من نمط جيني ثابت استجابًة لتأثير بيئي ما. يمكن التعرف على ميكانيكيات عدة تشارك في عملية التخلّق مثل methylation و acetylation و phosphorylation و ubiquitylation و sumolyation. مثل هذه الميكانيكات تحدث بشكل طبيعي و تساهم في الكفاءة الوظيفية للكائن الحي، و لكن في حال حدوثها بشكل غير مناسب « مثل مرض أو مادة كيميائية دخيلة » يمكن أن يكون لها تأثيرات صحية و سلوكية غير مرغوب فيها. [3]،[4]
الـ DNA Methylation :
و هي عبارة عن عملية كيميائية يحدث فيها – كما يقترح الاسم – إضافة لمجموعة ميثيل للحمض النووي DNA. هذه العملية دقيقة جدًا و دائمًا ما تحدث في نيوكليوتيدة السايتوزين المجاورة لنيوكليوتيدة الجوانين و المرتبطة بها بمجموعة فوسفات في تركيب يسمى « موقع CpG ». تحدث عملية الـ Methylation بمساعدة انزيمات تسمى DNA methyltransferases « DNMTs ». تم التعرف على هذه العملية بادئ الأمر في الأورام الخبيثة عام 1983 و تم اكتشاف ارتباطها بأمراض أخرى. تساهم هذه العملية أيضًا في تحديد أي الجينات تورث من الأب و أيها يورث من الأم.
التعديل الكروماتيني :
تعديل آخر يمكن أن يؤثر على التعبير الجيني هو التعديل الكروماتيني. يتكون الكروماتين من بروتينات تسمى الهستونات Histones و حول هذه البروتينات يلتف شريط الحمض النووي DNA ليتم تكديسه ليتَ سع داخل النواة. يمكن التحكم في التعبير الجيني بواسطة التعديل الكروماتيني عن طريق الـ Acetylation بإضافة مجموعة أسيتيل إلى الحمض الأميني اللايسين Lysine في الهستون. تعمل هذه الإضافة على زيادة التعبير الجيني بجعل الكروماتين أقل تكديسًا ( كروماتين نشط Euchromatin ). في حين تعمل إزالة مجموعة الأسيتيل على تثبيط التعبير الجيني بجعل الكروماتين أكثر تكديسًا ( كروماتين مثبط أو هيتروكروماتين « Hetrochromatin »).
يمكن التحكم في عملية التعديل الكروماتيني أيضًا بإضافة مجموعة ميثيل كعلامات لمناطق التنشيط و التثبيط، على سبيل المثال إن إضافة مجموعة ميثيل على اللايسين K9 على الهستون H3 يقوم بعمل تثبيط للتعبير الجيني في الهيتروكروماتين. هذا النوع من التعديل الإيبيجيني هو المسؤول عن خمول الكروموسوم X الثاني في الإناث. و على النقيض يمكن لإضافة مجموعة ميثيل إلى اللايسين K4 على نفس الهستون H3 أن يكون علامة لجينات نشطة. [4]،[5] الحمض النووي RNA عديم الترميز :
المصطلح Non-coding RNA يشير إلى مجموعة من جزيئات الحمض النووي الريبوزي RNA التي لا تدخل في عملية الترميز و بناء البروتين مثل small inhibitory RNA « siRNA » و microRNA « miRNA ». [7]
تأثير التخلّق على الصحة
كما ذكرنا سابقًا فإن عملية التخلّق قد تكون ضرورية صحيًا و مهمة للنمو. و على الرغم من ذلك فقد تشارك في إحداث أضرار صحية و أمراض عن طريق تنشيط جينات معينة بشكل غير طبيعي أو تثبيط أخرى.
السرطان :
كان السرطان أول الأمراض التي تم ربطها بالتخلّق و ذلك في عام 1983 عندما وجد الباحثون انخفاضًا في الحمض النووي DNA المعالج بالميثيل في النسيج الخبيث لمرضى سرطان القولون المستقيم عن باقي أنسجة نفس المرضى، و ذلك لإن الجينات التي تمت معالجتها بالميثيل غالبًا ما تكون مثبطة، و نقص المعالجة بالميثيل – تباعًا – قد يزيد من كمية الجينات المنشطة بشكل مرضي يؤدي إلى ورم خبيث.
من ناحيٍة أخرى، فإن زيادة معالجة جينات ضرورية – مثل الجينات الكابحة للورم tumor suppressor genes – قد يؤدي إلى نفس النتيجة بإضرار النسيج، يحدث ذلك عادًة بسبب حدوث المعالجة بالميثيل في مواقع الـ CpG كما ذكرنا سابقًا، تنتشر هذه المواقع بشكل كبير بالقرب من المحفّز Promoter region « منطقة تحفز بداية عملية نسخ الـ DNA إلى RNA » في تشكيل يسمى بجزر CpG « CpG islands » و التي عادًة ما تخلو من مجموعة الميثيل في الخلايا العادية. وُجِدَ أن هذه الجزر عادًة ما يتم معالجتها بالميثيل في الخلايا السرطانية مثبطًا جينات حيوية و مهمة مثل الجينات الكابحة للسرطان.
و على الرغم من أن مثل هذه التغيرات هي السبب الأكثر شيوعًا في حدوث الورم السرطاني في مقابل الطفرات، إلا أن التخلّق قد يسبب حدوث طفرة و ذلك بتأثيره على الجينات الكابحة للسرطان و التي تساعد على إصلاح الحمض النووي DNA الغريب. على سبيل المثال فإن معالجة محفز جين MGMT « methylguanine-DNA methyltransterase » بالميثيل يعطل عمله و يزيد بسبب ذلك عدد الطفرات التي تتحول فيها نيوكليوتيدة G جوانين إلى A أدينين. [5]
التأخر العقلي :
متلازمة الكروموسوم X الهش « Fragile X chromosome » هو مرض جيني يسبب تأخر عقلي، تنتشر متلازمة الكروموسوم X الهش بصفة خاصة في الذكور لأن الذكر يحمل كروموسوم X وحيد و يلزم نسخة واحدة من الخلل لتظهر عليه الأعراض – على عكس الإناث التي تملك زوج من الكروموسوم X. تصيب متلازمة الكروموسوم X الهش 1 من كل 4000 ذكر و 1 من كل 8000 أنثى مسببًا تأخرًا عقليًا و تأخر تطور الحديث و سلوك مشابه لمرضى التوحد.
جاءت تسمية متلازمة الكروموسوم X الهش من الهيئة التي يوجد عليها الخلل الكروموسومي تحت الميكروسكوب، حيث يبدو و كأنه متعلق بخيط رفيع سهل الانفصال. تحدث هذه المتلازمة نتيجة خلل في جين FMR1 « fragile X mental retardation 1 ».
في الأشخاص الأصحَاء يوجد حوالي من 6 إلى 50 تكرار لثلاثيّ النيوكليوتيدات CGG في جين FMR1، أما الأشخاص الذين يمتلكون أكثر من 200 تكرار فإن أعراض المتلازمة عادًة ما تظهر عليهم. يتسبب زيادة عدد التتابعات CGG في معالجة محفز الجين FMR1 بالميثيل مسببًا تثبيطه. يؤدي ذلك إلى نقص انتاج بروتين معين يسمى Fragile X mental retardation protein، مما يؤدي إلى حدوث المرض.
متلازمة الكروموسوم X الهش ليست الحالة الوحيدة التي يسبب فيه تغيير تخلّقي تأخرًا عقليًأ، هناك حالات أخرى تتضمن عمليات مقاربة مثل متلازمات Rubenstein-Taybi و Coffin-Lowry و Prader-Willi و Angelman و Beckwith-Wiedemann و ATR-X و Rett « شاهد الجدول لمزيد من التفاصيل ». [5]
التدخين :
لم تقتصر أضرار التدخين على زيادة خطر الإصابة بالسرطان و أمراض القلب و الأوعية الدموية و مرض الإنسداد الرئوي المزمن و إلتهاب الشعب الهوائية و ارتفاع كوليسترول الدم و العقم و ضعف الانتصاب و انقطاع الطمث المبكر، إضافة إلى الأضرار التي تصيب الجنين في حال تدخين الأم مثل إعاقة نموه و زيادة خطر إصابته بمتلازمة الموت الجنيني المفاجئ بعد الولادة و زيادة خطر تطور سلوك إدماني له و زيادة خطر السمنة المفرطة و الأمراض القلبية و غيرها – بل امتدت لتشمل آثارًا إيبيجينية. [8]،[9] يؤثر التدخين إيبيجينيًأ على الشخص بعدة طرق، قد يكون هذا التأثير بواسطة النيكوتين و تأثيره على التعبير الجيني، حيث يرتبط النيكوتين بمستقبلات الأسيتيل كولين في الجهاز العصبي مما يعطي إشارة بفتح بوابات الكالسيوم و يزيد تركيز الكالسيوم الذي يحفز عمل مركب وسيط « cAMP » يعمل على تحفيز الترجمة لعدة جينات. قد يكون هذا التأثير الإيبيجيني أيضًا بواسطة المركبات المسرطنة الموجودة في دخان السجائر مثل الزرنيخ و الكروم و الفورمالدهيد و الهيدروكربونات الأروماتية متعددة الحلقات و غيرها و ذلك بإتلاقها للحمض النووي DNA و تحفيزها لمركبات DNMT و عملية المعالجة بالميثيل. قد تحدث عملية التخلّق المصاحبة للتدخين أيضًا بواسطة نقص الأكسجين الذي يحدث بسبب زيادة تركيز أول أكسيد الكربون الذي يتملك قدرة أكبر على الإرتباط بهيموجلوبين الدم من الأكسجين معطلًأ عملية نقل الأكسجين إلى أنسجة الجسم المختلفة. [8]