علمنا في المقال السابق كيفية عمل المضادات الحيوية، مثل إعاقة تكوين البيبتيدوجلايكانات peptidoglycans)) التي تدخل في تركيب الجدار الخلوي البكتيري عن طريق استخدام البنسلين، أو عن طريق إعاقة تكوين حمض الفوليك بالخلايا البكتيريا بواسطة السلفوناميدات وغيرها. علمنا كيفية انتقال المادة الوراثية المسؤولة عن المناعة بين الخلايا البكتيرية وكيفية اصطفاء الظروف البيئية لتلك السلالات التي تحمل الجين المناعي الذي يساعدها على البقاء، وكيفية تورطنا كبشر في تحفيز هذه المشكلة. والنتيجة كانت موت آلاف الضحايا كل عام بسبب خلقنا لهذا الوحش البشع. والآن جاء دور العلم ليخصلنا.
نفحات من الماضي:
إحدى طرق مكافحة البكتيريا المنيعة هي إعادة استخدام المضادات الحيوية القديمة التي تم هجرها واستبدالها بأقوى منها، مثل السبيكتينومايسين (Spectinomycin) الذي تم تقديمه في ستينيات القرن المنصرم لعلاج السيلان (Gonorrhea). تطلّب علاج البكتيريا المنقولة جنسيًا بهذا المضاد الحيوي كميات كبيرة، وتم هجره في النهاية لصالح بدائل أقوى، يرى الباحثون أن يتم إعادة توظيف هذا المضاد الحيوي عن طريق إعادة تصميمه ليستهدف سلالات بكتيرية معينة؛ لقدرته على الارتباط بالريبوسوم البكتيري وإعاقة عملية تصنيع البروتين. تم إعادة تصميم هذا المضاد الحيوي بفضل التقدّم التكنولوجي الذي سمح بدراسة التركيب الكريستالي للمضاد الحيوي؛ ليحارب الدرن (Tuberculosis) في المعمل وفي الفئران بشكل مدهش.
مجموعة أخرى من المركبات هي الأسيل ديبسيبيبتايدات (acyldepsipeptides) «ADEPs» التي تم اكتشافها في ثمانينيات القرن العشرين، جذبت هذه المجموعة من المركبات شركات الأدوية لقدرتها على مقاومة البكتيريا، ولكنها لم تلبث حتى تمت الإطاحة بها بمنافسٍ أقوى. تعمل هذه المركبات على تحفيز إنتاج البكتيريا لإنزيم ((ClpP الذي يعمل على تحلل البروتينات البكتيرية. يتم إنتاج هذا الإنزيم بشكل عادي للتخلص من البروتينات التي تحتوي أخطاءً في تكوينها. لم يفضل استخدام الـ «ADEPs» آنذاك لأن البكتيريا كانت تكتسب مناعة ضد هذه المركبات بسرعة، ولكن لأنها تعمل بشكل فريد عن المضادات الحيوية التي نستخدمها حاليًا؛ فإن هذا يجعلها مرشحًا قويًا للاستخدام في حربنا ضد هذه البكتيريا المنيعة. أظهرت الدراسات المبدئية نجاحًا في مقاومة المكورات العنقودية (staph) والبكتيريا المعويةEnterococcus) ).
مواد أخرى تشكّل مرشحًا محتملًا في حربنا مع البكتيريا المنيعة، هي قطع جينية صغيرة تسمى بـ PMOs «Phosphorodiamidatemorpholino oligomers». تم اختراع هذه المادة في ثمانينيات القرن الماضي، بتركيب مميز يجعلها منيعة ضد إنزيمات النيوكلييز ((Nuclease Enzymes (وهي إنزيمات تعمل على إذابة النيوكليوتيدات في الأحماض النووية) مما يعطيها القدرة على التسلل والاختباء من الدفاعات البكتيرية ضد الحمض النووي الغريب. التتابع النيوكليوتيدي في الـ (PMOs) يمكن تصميمه بشكل خاص ليتداخل مع التعبير الجيني للحمض النووي الريبوزي الرسول mRNA)) لجين معين في الحمض النووي البكتيري مانعًا التعبير عنه. عمل الباحثون على تركيب ببتيدات تعمل على اختراق الجدار الخلوي البكتيري في الـ (PMOs) التجريبية لزيادة قدرتها على الاختراق. المركب الناتج -والذي يسمى PMO)) معالج بالببتيد أو Peptide conjugated PMOs «PPMOs» -هو علاج متميز في وظيفته، لأنه يمكن تحديد الجينات التي يستهدفها والأنواع البكتيرية التي يصيبها.
تمت تجربة هذه الطريقة أيضًا، حيث تم معالجة فئران مصابة بعدة سلالات من بكتيريا من نوع الراكدة البومانية Acinetobacter baumannii)) بـ (PPMOs) محددة لتعطيل جين (acpP) المهم في عملية تصنيع الليبيد في البكتيريا. نجت الفئران المعالجة بالـ (PPMOs) لإسبوع ، بينما ماتت الفئران من مجموعة الضبط (control group) في خلال يوم.
1+2=3
آخذين في الاعتبار الصعوبات التي تقف أمامنا في اكتشاف مجموعة جديدة من المضادات الحيوية وإيصالها للسوق، قرّر بعض الباحثين توظيف العقاقير الحالية وخلطها لإنتاج علاجات أكثر فعالية. أحد الأمثلة على ذلك هو أحد مركبات المضاد الحيوي (ADEP) والذي يسمى (ADEP4). تم اكتشاف العقار في 2005 ولكنه لم يلبث طويلًا حتى كوّنت البكتيريا مناعة ضده في تجارب معملية. تم خلط العقار ADEP4)) مع المضاد الحيوي التقليدي الريفامبسين (rifampicin) على أمل أن يكون فعالًا في علاج المكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus) المنيعة. كان الخليط فعالًا بشكل مدهش، فبالرغم من أن كلٍ من الريفامبسين والـ ADEP4)) قاما بتقليل عدد الخلايا البكتيرية فقط؛ فإن الخليط من كلا المركبين محا البكتيريا في المعمل والفئران تمامًا.
لم يعلم القائمون على التجربة الميكانيكية التي عمل خليط الريفامبسين/ADEP4 عليها للقضاء على البكتيريا، ولكنهم رجحوا عمل المادتين بجانب بعضهما البعض، عمل الـ ADEP4 على تحفيز المذيب البروتيني ClpP)) لتدمير البروتينات في الخلايا المنيعة. أما تلك الخلايا التي لم تحتوي على شفرات جينية للمذيب البروتيني، فإن الريفامبسين يتدخل ليوقف عمل إنزيم نسخ الحمض النووي الريبوزي RNA polymerase)) بها، مسببًا موتها.
عمل مجموعة أخرى من الباحثين على خليط مختلف من مركب يسمى HT61)) الذي يمتلك قدرة على قتل المكورات العنقودية الذهبية الحساسة للميثيسيلين والمنيعة ضده Methicillin susceptible S. aureus (MSSA) , Methicillin resistant S. aureus (MRSA) عن طريق التأثير على الجدار الخلوي البكتيري لها -ومضادات حيوية تقليدية أخرى. كانت النتائج مبشرة في المعمل و الفئران، خصوصًا باستخدام الأمينوجلايكوسايدات Aminoglycosides)) مثل (neomycin)و (gentamicin)و (chlorhexidine) ضد كلاً من الـ (MSSA) و الـ MRSA))، حيث عمل العقارين بتناغم، فبدأ الـ (HT61) بإحداث ثقوب في جدر الخلايا البكتيرية سامحًا للأمينوجلايكوسايدات بالدخول. لم تتوقف الأخبار الجيدة عن هذا الحد، فقد أعلن الفريق أنهم يمتلكون حوالي 300 مركب مشابه تمتلك القدرة على مقاومة البكتيريا المنيعة.
إعادة الشباب إلى العقاقير التقليدية:
بدلًا من تصنيع مركّبات علاجية جديدة سواء من الصفر أو من مركبات موجودة أصلًا، عمل فريق من الباحثين على مركبات تعيد الحساسية ضد المضادات الحيوية التقليدية للبكتيريا. حيث وجد فريق من الباحثين عام 2012 مركب بروتيني-دهني من حليب البشر، بوسعه تقوية عمل مضادات حيوية تقليدية ضد سلالة منيعة من المكورات العقدية الرئوية (Streptococcus pneumonia).
ومن وجهة نظر اقتصادية، تصنيع هذه المواد أسهل من تصنيع عقارٍ جديدٍ كليًا. فنحن بذلك نعمل على زيادة المدى الذي تؤثر به المضادات الحيوية التي نمتلكها. كما ناقشنا في المقال السابق، فإن أحد الطرق التي تعمل بها البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية هي عن طريق منع المركب من الدخول إلى الخلية، أو بواسطة تصنيع إنزيمات مثل بيتا-لاكتاميز β-lactamase)) التي تمنع دخول المضادات الحيوية التي تمتلك حلقة بيتا-لاكتيم β-lactam ring)) مثل مركبات البنسلين penicillins)) والسيفامايسين cephamycins)) وبعض مركبات الكاربابينيم ((carbapenems. و بالتالي تفشل هذه المركبات في إيقاف عملية تصنيع الجدار الخلوي. وحتى لو نجا المركب من إنزيمات البيتا لاكتاميز الهاضمة؛ فإنه لن يصمد طويلًا أمام المضخات التي ستطرده خارج الخلية.
تعمل بعض العوامل المساعدة Adjuvant Sensitizers)) على استهداف إحدى هذه الدفاعات عن طريق إتلاف الجدار الخلوي أو إيقاف عمل إنزيم البيتا لاكتاميز أو إيقاف المضخات التي تطرد المركب. تعمل شركة (EnBiotix) مثلًا على مركبات تقوي المضادات الحيوية التقليدية بزيادة نفاذية الجدار البكتيري لهذه المركبات. تعمل شركة (Synereca) على مركبات تثبط البروتين البكتيري (RecA) الذي يعمل على إصلاح الحمض النووي البكتيري.