سلسلة البكتيريا الخارقة: البدائل 2
عدوّ عدوّي هو صديقي: البكتيريوفاج
كان الصيف حاراً في ميزون-لافيت Maisons-Laffite بضواحي باريس في يوليوز وغشت من عام 1915 عندما كان الجنود يعانون من زحار نزفي حاد (Severe Hemorrhagic Dysentery)، تم تعيين الميكروبيولوجيّ فيليكس دوريل Felix d’Herelle ليجري تحقيقاً في هذا الوباء. أخذ دوريل عينات بكتيريا من هؤلاء المرضى و قام بزراعتها في أجار لمراقبة نموها. أثناء ذلك لاحظ دوريل مناطق نظيفة تخلو من البكتيريا سُميت فيما بعد بالـ plaques اقترح دوريل أن هذه الظاهرة كانت نتيجًة لفيروٍس غاٍز للبكتيريا و سمّاه ( بكتيريوفاج Bacteriophage ) « من bacteria الذي يتطفل عليها و Phagein يأكل أو يحلل».
اكشتاف تدريجي:
كانت مساهمة دوريل بمثابة إعادة اكتشاف رسمية للبكتيريوفاج، فتاريخ اكتشاف الفيروس الغازي للبكتيريا يمتد لنهايات القرن التاسع عاشر وهو الأمر المثير للجدل. في عام 1896 لاحظ البكتيريولوجيّ البريطاني إرنست هانكن Ernest Hankin ظاهرة موت بكتيري (لبكتيريا Vibrio Cholera) في مياه نهري الغانج وجومنا بالهند وعزى هذه الظاهرة ومحدودية انتشار الكوليرا إلى مادة مجهولة قام بعزلها. بعدها بعامين لاحظ البكتيريولوجيّ الروسي Gamaleya ظاهرة مماثلة أثناء تجاربه ببكتيريا Bacillus subtilis وغيرها من التجارب التي من المعتقد أنها كانت أولى خطواتنا في التعامل مع البكتيريوفاج. بعد عشرين عاماً أعاد البكتيريولوجي الإنجليزي فريدريك تورت Fredrick Twort فتح ملفات هذه التحقيقات بعد أن لاحظ الظاهرة وقدم اقتراحا، ضمن اقتراحات أخرى، أنه ربما يكون فيروسًا. لم يستمر بحث تورت لعدة أسباب من ضمنها مشاكله المالية. [1]،[2]
بعد اكتشافه، استخدم دوريل الفاج في علاج الزحار والذي يعد على الأرجح بمثابة أول استخدام للبكتيريوفاج علاجياً. تم إجراء التجارب في مستشفى الأطفال Hôpital des Enfants-Malades في باريس عام 1919، بعد عامين من نشر نتائجه رسمياً. توقفت أعراض أول طفل في الثانية عشر من عمره بعد جرعٍة واحدة من الفاج المضاد للزحار الخاص بدوريل وفي خلال أيام كان الطفل معافى كليًا. و عندما تم إعطاء الفاج لمرضى آخرين بدأ علامات التحسن في الظهور في خلال 24 ساعة. لم يتم نشر هذه الدراسات بسرعة فكان أول تطبيق مسجل لعلاج الأمراض المعدية بواسطة البكتيريوفاج في عام 1921 بواسطة Richard Bruynoghe و Joseph Maisin اللذان استعملا البكتيروفاج لعلاج مرض المكورات العنقودية الجلدي staphylococcal skin disease بحقن الفاج البكتيري في مناطق التشوهات والذي أظهر تحسناً في غضون 24 إلى 48 ساعة. تلا ذلك سلسلة أخرى من التطبيقات الناجحة وبدأت بعض الشركات في تصنيع الفاج وتوزيعه لعلاج الأمراض المعدية، وحفز ذلك المزيد من العلماء لمتابعة التجارب ومعرفة المزيد عن هذه الفيروسات لتوظيفها في محاربة البكتيريا.
شعبية الفاج والمنافس القوي :
أنتج معمل دوريل على الأقل 5 لقاحات من البكتيريوفاج ضد مجموعة من العدواى البكتيرية: [ called Bacté-coli-phage, Bacté-rhino-phage, Bacté-intesti-phage, Bacté-pyo-phage, Bacté-staphy-phage ] و تم تسويقهم بواسطة الشركة الفرنسية L’Oréal . أنتجت الشركة الأمريكية the Eli Lilly 7 لقاحات أخرى للإستخدام البشري ضد Staphylococci, Streptococci, Escherichia coli و غيرها. استخدمت هذه اللقاحات لعلاج الخراج والتقرح والجروح والتهاب المهبل وأمراض الجهاز التنفسي الحادة والمزمنة وغيرها. لم تلبث نيران الحماسة هذه أن هدأت إلى أن خمدت تماماً في العالم الغربي، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية بإستخدام المضادات الحيوية. وعلى الجانب الآخر، لم تتوقف دول شرق أوروبا والإتحاد السوفيتي عن تطوير العلاج بالبكتيريوفاج. في المقابل استعملت دول غرب أوروبا الفاج في النمذجة الجينية وتطوير البيولوجيا الجزيئية.
الفاج كعلاج: عزله واختياره وتنقيته
هناك نموذجان للعلاج بالفاج: الأول عبارة عن كوكتيل من الفاج يضمن مدًا واسعًا من التأثير ويضمن القضاء على أي مناعة تظهر على المدى القريب. النموذج الثاني يتم عن طريق اختبار مجموعة كبيرة واسعة من الفيروسات المنفردة ضد بكتيريا معينة معزولة لتحديد الفاج الأكثر كفاءة في القضاء على هذه البكتيريا.
بعد العزل و اختيار الفاج تكون الخطوة الثانية هي تخصيب هذا الفاج و إكثاره. تخدم هذه العملية فائدتان :
الفائدة الأولى : هي أن عملية التخصيب تتسبب فيما يشبه « الانتخاب الطبيعي » في المعمل مؤدية إلى تكاثر وانتشار الفاج ذو التأثير الأكثر قوة على البكتيريا.
الفائدة الثانية : أن هذه العملية تدفع نسل الفاج أن يكون أكثر قدرة على التكاثر والتطفل على البكتيريا مما يسمح بتجهيز مخزون من الفيروسات لتطبيقها على المرضى.
يتم بعد ذلك عملية تنقية بعد التخصيب، وذلك عن طريق التخلص من البقايا البكتيرية والخلايا الغير متأثرة بواسطة الطرد المركزي العادي أو الفائق السرعة أو التصفية وقد يتم ترسيب الفاج أيضاً باستخدام البولي إيثايلين جلايكول.
الفاج كعلاج: الفارماكوكاينتكس [أ]
يدخل الفاج إلى الدورة الدموية للحيوانات بالمختبر بعد إعطائه فموياً خلال (2 إلى 4) ساعات ومنها إلى الأعضاء الداخلية (الكبد والطحال والكلى … إلخ) في خلال 10 ساعات وقد يبقى الفاج لفترات طويلة قد تصل إلى عدة أيام. عندما يصل الفاج إلى الخلية البكتيرية فإنه يقوم بالتضاعف بداخلها مسبباً تحلل البكتيريا وذلك عن طريق سيناريوهين يختلفان باختلاف الفاج « إما Lytic أو Lysogenic كما توضح الصورة ».
كما أن دراسة الحمض النووي للبكتيريوفاج T4 أظهرت أن عملية التحلل البكتيري عملية معقدة تعتمد على عدة جينات تركيبية و تنظيمية. « الصورة بالأسفل »
الفاج كعلاج: الأمان [أ]
الفاج غير مضرٍ من الناحية السريرية. فخلال تاريخنا الطويل من التعامل مع الفاج كمضادات بكتيرية سواءاً في أوربا الشرقية والإتحاد السوفيتي سابقاً أو في الولايات المتحدة في عصر ما قبل المضادات الحيوية، تم استخدام الفاج :
أ- فموياً كأقراص أو محاليل سائلة
ب- شرجياً
جـ- موضعياً « على الجلد أو العين أو الأذن أو الغشاء المخاطي الأنفي … إلخ »
د- كبخاخات Aerosols أو حقن بداخل غشاء الجنب Interpleural Injection
هـ- وريدياً بشكل أقل.
و لم يتم الإبلاغ عن أية مضاعفات خطيرة مرتبطة به. في الواقع فإن الفاج phi X174 تم استخدامه في الولايات المتحدة الأمريكية لتقييم مناعة مرضى نقص إنزيم الأدينوزين دي أمينيز بإختبار تكوين الأجسام المضادة من الخلايا البيضاء T ضد هذا الفيروس. [ب]. بالإضافة لما سبق فإن فيروس الفاج شائع جداً في البيئة المحيطة «يقدر تركيز الفاج في مياه غير ملوثة بحوالي 2×108 فيروسياً لكل ميللي لتر» وفي الطعام المستهلك يومياً. غير أنه من الواجب إجراء المزيد من الدراسات قبل الشروع في استخدامه علاجياً.
فوائد استخدام الفاج :
أ-لا خلاص منه: الخلايا البكتيرية المصابة بالفيروس لا يمكن أن تستعيد صلاحيتها ومصيرها يكون الموت، يسمى هذا التأثير Bactericidal. على النقيض فإن بعض المضادات الحيوية مثل Tetracycline تعد Bacteriostatic أي تعمل على إيقاف نمو الخلية وتضاعفها مما قد يسمح للسلالة البكتيرية بتكوين مناعة.
ب-جرعة ذاتية: أثناء قضاء الفيروسات على الخلايا البكتيرية فإن أعدادها تتزايد تحديداً في المكان الذي توجد فيه هذه الخلايا، يسمى هذا Auto Dosing لأن الفيروسات بنفسها تشارك في زيادة جرعة الفاج في الأماكن ذات الكثافة البكتيرية الأعلى.
جـ-لا تسمم: لأن الفاج يتكون أساساً من بروتين وأحماض أمينية فهو في الأصل غير سام. غير أن تفاعل الجهاز المناعي مع الفاج قد يكون ضاراً بدوره. ومع ذلك فإن بعض جرعات الفاج تطلب تحضيراً عالي النقاوة لمنع الحساسية المفرطة للمكونات البكتيرية والتي قد توجد في النواتج التحليلية للفاج الخام. «لوحظ أن مثل هذه المواد ترتبط بطبيعة التحلل الخلوي أي أنها تكون مصاحبة للمضادات الحيوية التي تعمل على تكسير جدار الخلية أيضاً «.
د-لا إزعاج للفلورا: وبسبب تحديدية الفيروس، فإنه يستهدف البكتيريا الضارة المحددة فقط ولا يؤثر على الفلورا العادية إلا بشكل طفيف. وعلى العكس من ذلك فإن المضادات الحيوية الكيميائية والتي تملك مدًا واسعًا تؤثر عليها وتجعل المريض عرضة للعداوى الإضافية.
هـ-لا كوابيس عن بكتيريا خارقة: يحد المدى الضيق الذي يعمل عليه الفاج من تطور مقاومة بكتيرية محددة لهذا الفاج.
و-المناعة ليست موحدة: لأن الفاج يعمل على قتل البكتيريا بطرق تختلف عن تلك التي تعمل بها المضادات الحيوية، فإن المناعة المتطورة ضد المضادات الحيوية لا تعنى بالضرورة مناعة ضد الفاج. في الحقيقة يمكن استخدام الفاج في علاج العدوى المنيعة للمضادات الحيوية مثل المكورات العنقودية الذهبية المنيعة لعدة مضادات حيوية multi-drug-resistanceStaphylococcus aureus .
ز-اكتشاف سريع: يتم اكتشاف الفيروسات المتطفلة على أنواع بكتيرية عديدة بسهولة، من الصرف والمخلفات التي تحتوي تركيزات بكتيرية عالية.
ح-التشكيل بحرية: يمكن تشكيل الفاج العلاجي بحرية في سوائل أو كريمات أو مواد صلبة…إلخ. يمكن إعطاء الفاج في كوكتيلات لضمان مد أوسع أو خلطه بمضادات حيوية.
ط- إزالة البيوفيلم : البيوفيلم Biofilm هو مادة بين خلوية بوليميرية تكونها الأحياء الدقيقة. يمكن لهذه المادة أن تكون أكثر مناعة للمضادات الحيوية مما توجد عليه الخلايا منفردة. أظهر البكتيريوفاج على النقيض قدرة على اختراق البيوفيلم.
ي-فوائد أخرى: يمكن استخدامه في جرعة واحدة، انتقال الفاج بين الكائنات والبيئة مما يسمح بتطبيقات زراعية، تقليل تكاليف العلاج بتقليل الجرعة، لا تأثير بيئي يذكر لإنه يتكون من بروتين وأحماض أمينية فحسب بالإضافة إلى مداه الضيق وإمكانية تثبيطه بسرعة، يمكن باستخدام الفاج إعطاء مساحة وحرية أكبر في استخدام المضادات الحيوية، الفاج هو منتج طبيعي، تكلفة انتاجه المنخفضة نسبياً.
عيوب استخدام الفاج:
أ-ليست جميع الفيروسات تصلح للعلاج: يجب على الفاج أن يمتلك القدرة على الوصول إلى البكتيريا المستهدفة وقتلها مع انخفاض قدرته على التأثير السلبي على البيئة الموجود بها. وما دامت الفيروسات محللة Lytic ومستقرة ومخزنة في ظروف التخزين النموذجية من ظروف ودرجة حرارة وخاضعة لدراسات الكفاءة والأمان ومدروسة جينياً للتأكد من خلوها من جينات غير مرغوبة مثل السموم، فإن مثل هذه الشروط تصبح سهلة التحقيق.
ب- المدى ضيق : يحد المدى الضيق للبكتيريوفاج من المعالجة الظنية Presumptive Treatment . و يمكن التغلب على ذلك بإعطاء الفاج في مزيج ( كوكتيل ) مما يزيد من المدى الذي يؤثر فيه. ولتوضيح ضيق المدى الذي يعمل عليه الفاج فإن كوكتيلاً من الفاج واسع المدى يكون أكثر تحديداً في النشاط من مضاد حيوي ضيق المدى.
[أ]- الفارماكوكاينتكس Pharmacokinetics هو دراسة تأثير الجسم على العقار من «ADME «Absorption, Distribution, Metabolism, and Excretion امتصاص و توزيع و تعديل و إفراز بواسطة الكلى. [4]1
[ب]- الأدينوسين دي امينيز هو إنزيم يحلل مادة الأدينوسين إلى إينوسين و التي يتم إخراجها في البول في صيغة حمض البول uric acid ، نقص إنزيم الأدينوزين دي أمينيز هو مرض جيني تتراكم في مواد وسيطة مثل الكلورو دي أوكسي أدينوسين Chlorodeoxyadenosine بسبب عدم وجود الإنزيم و الذي يؤثر على خلايا الدم البيضاء بجميع أنواعها و خاصة النوع T.