اقترحت دراستان بأن الحمض النووي (DNA) المكتسب من التزاوج مع النياندرتال قد يفسّر الاختلاف الموجود في استجابة الجسم للعدوى بين ذوي الأصول الأوروبية وبين أولئك المتحدرين من أصول أفريقية.
كما تقدم لنا نتائج الدراسة فكرة عن السبب الذي يجعل ذوي الأصول الأفريقية أكثر عرضة للإصابة بأمراض المناعة الذاتية، والتي تعزى بدورها إلى وجود نظام مناعي مفرط النشاط.
في ورقة بحثية نشرت في دورية الخلية (Cell) في 20 تشرين الأول لهذا العام، قام لويس باريرو (Luis Barreiro) المتخصص في علم الجينات الوراثية من جامعة مونتريال في كندا وزملاؤه بجمع عينات دم من 80 شخص أمريكي ذي أصول أفريقية، وأخرى من 95 شخص أوروبي الأصل.
ثم عزلوا من كل عينةٍ نوعًا من الخلايا المناعية والتي تدعى بالبلعم (Macrophage) وهي التي تبتلع البكتريا وتدمرها، وقاموا بزراعتها في وعاء مخصص لذلك. بعدها، أصابوا كل مجموعة من الخلايا بنوعين من البكتريا وقاسوا كيفية استجابة الخلايا لها.
وجدوا أن خلايا البلعم العائدة للأمريكيين الأفارقة تقتل البكتيريا أسرع من نظيراتها العائدة لذوي الأصول الأوروبية بثلاث مرات.
بعد ذلك قام الباحثون بتحديد الكيفية التي يتغير فيها التعبير الجيني استجابةً للعدوى.
ووُجدَ أن قرابة 30% من الجينات التي تم اختبارُها -والبالغ عددها 12000 جين تقريبًا- مُعبَّرة جينيًا بطريقة مختلفة بين المجموعتين، حتى قبل حدوث العدوى.
كما وجدوا أن العديد من الجينات التي تغيّر نشاطها بصورة كبيرة خلال الاستجابة المناعية كانت ذات تسلسل جيني متشابه إلى درجة كبيرة بين الأوروبيين والنياندرتال، ولكن ليس مع الأفارقة.
الامتزاج المناعي:
يظن باريرو أن البشر المعاصرين عندما غادروا أفريقيا لأول مرة -في وقت ما قبل 100,000 – 60,000 سنة- كان عليهم أن يتكيفوا مع أنواع أخرى جديدة من المايكروبات في القارة الأوروبية.
ومن المحتمل أن تزاوجهم مع النياندرتال واكتسابهم استجاباتهم المناعية المغايرة، قد وفّر لهم مقاومة أفضل للأنواع الجديدة من العدوى التي قد يواجهونها هنالك.
في الدراسة الثانية، قام لويس كوينتانا مورسي (Lluis Quintana-Murci) المختص في علم الجينات السكانية وزملاؤه في مؤسسة باستير في باريس بجمع عينات من 200 شخص يعيشون في بلجيكا، نصفهم من أصول أفريقية والنصف الآخر من أصول أوروبية.
زرع الباحثون نوعًا آخرًا من الخلايا المناعية والتي تدعى الخلايا الوحيدة (Monocyte) ونقلوا لها عدوى بكتيرية وفيروسية.
مرة أخرى، أظهرت المجموعتان اختلافات في نشاط جينات متعددة، وكان للجينات المشابهة لجينات النياندرتال دورًا رئيسيًا في اختلاف الاستجابة المناعية لدى المجموعة الأوروبية.
وكانت الفروقات على أشدها في الطريقة التي استجابت فيها كل من المجموعتين للعدوى الفيروسية.
ويقول باول نورمان (Paul Norman) المختص في الجينات الوراثية والمناعة في جامعة ستانفورد من كاليفورنيا، أن كلًا من الدراستين كانتا فريدتين من نوعيهما، وذلك لبحثهما في الاختلاف على مستوى التعبير الجيني في الاستجابة للعدوى، بدلًا من مجرّد مقارنة التسلسل الجيني للأفراد.
ويتمنى نورمان الآن أن يرى هذه الدراسات تُكرّر على أنواع أكثر من الخلايا المناعية.
وتقول العالمة البيولوجية جانيت كيلسو (Janet Kelso) من مؤسسة ماكس بلانك للعلوم الإنسانية التطورية في ليبزيغ ألمانيا، أن النظام المناعي يميل إلى التطوّر بصورة سريعة، وذلك لأن الإصابة بالعدوى ينتج عنها ضغط تطوري مباشر.
لذلك من المنطق أن يتشبث الأوروبيون بأي ميزة تطورية استطاعوا الحصول عليها من النياندرتال.
وتضيف: «نفهم الآن بصورة واضحة تعدّد المصادر المساهمة لميزاتنا التطوّرية، والأنواع البشرية القديمة واحدة منها».
ما الذي حفز التغيير؟
تقول كيلسو أن هذه الدراسات لا تخبرنا بالضبط ما هي الأسباب التي أدت إلى هذا التطوّر على سبيل المثال، ربما كان السبب هو تفشي نوع معين من العدوى الفيروسية في أوروبا.
في بعض الأمراض، مثل التدرّن الرئوي، فإن الاستجابة المناعية الأقل حدةً تعتبر ميزة بقائية، والإنسان الأوروبي الحديث قد اكتسب الصفات الوراثية التي تساعده في ذلك من النياندرتال.
يقول كوينتانا مورسي: «ربما كان أفضل شيء على الإطلاق هو أن نعيش بسلام مع المايكروبات».
ويضيف باريرو: «وجود الأجهزة المناعية مفرطة النشاط قد يساعدنا في تفسير كون النساء الأمريكيات ذوات الأصول الأفريقية معرّضات للإصابة بالمرض المناعي الذاتي المعروف بداء الذئبة الاحمراري (Lupus) ثلاث مرات أكثر من الأمريكيات الأوروبيات.
وتبدو هذه الاختلافات صامدةً بغضّ النظر عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من العوامل البيئية كالتدخين ونوع الغذاء، رغم أنها قد تلعب دورًا.
إن تحديد مقدار تأثير العوامل الوراثية على مدى الاختلافات الموجودة يساعد الباحثين على استخلاص دور العوامل البيئية، وبالتالي توجيه الجهود الصحية العامة.
ويؤكد نورمان على ضرورة إجراء بحوث أكثر على جينات وعينات بيولوجية مأخوذة من مجاميع عرقية مختلفة.
حيث أن قرابة 80% من الأشخاص المشمولين بدراسات الترابطات الجينية واسعة النطاق هم ذوو أصول أوروبية، و جاء في تعليق في مجلة(Nature) يدعو إلى تنوّع عرقي أكثر في قاعدة البيانات الوراثية.
ويضيف نورمان أن الدراسات الأخيرة تظهر الفائدة الكبيرة في هذا التنوّع لمعرفة جذور الأمراض: «لا بدّ من الالتفات إلى الشعوب الأفريقية كذلك، ليس فقط لكون بعض الأمراض تصيب الأفارقة أسوأ من غيرهم، ولكن لأنها ستسهل طريقنا للحصول على الأجوبة».