من أجل فهم الحلقة الأولى من مسلسل الحياة على كوكبنا الأرض فكَّر العلماء بأخذ منحنى جديدٍ في دراساتهم، يركِّز هذا الاتجاه على إعادة تكوين الحياة البدائيَّة التي كانت على الأرض ودراسة مدخلاتها ومخرجاتها، الأمر الذي بدأ العلماء بتطبيقه خلال الأسبوع الماضي، حيث استخدموا خليطًا من المواد الكيميائيَّة أبسط من الحمض النَّووي الرَّايبوزي منقوص الأكسجين DNA والتي يمكنها إنتاج مركباتٍ مماثلةٍ.
يعتقد هؤلاء العلماء أنَّ الكائنات الحيَّة الأولى كانت تعيش في عالم الحمض النَّووي الرَّايبوزي RNA، حيث حكمت الـ RNA العمليات الحيويَّة في الكائنات الحيَّة قبل الـ DNA، فقد لعب الـ RNA دور كلٍ من المادَّة الوراثيَّة البدائيَّة والإنزيمات البسيطة. وبالتالي فإنَّ كيمياء الحياة الأولى كانت أبسط منها اليوم، إذ تعتمد الثَّانية على البروتينات، وتُفصل فيها الإنزيمات عن المادَّة الوراثيَّة.
مولِّد الحمض النووي الرايبوزي:
لاحظ كلًا من (ديفيد هورنينغ – David Horning) و(جيرالد جويس – Gerald Joyce) من معهد سكريبس في كاليفورنيا، أنَّه عند خلط الـ RNA مع الماء وإنزيم الرايبوزيم، فإن قطع الـ RNA المرتبطة بالإنزيم يمكنها الارتباط بمادةٍ كيميائيَّةِ أخرى تدعى (الموحود – Monomer) لعمل المزيد من الـRNA.
يقول هورنينغ مخاطبًا (لايف ساينس -Live Science ) عبر البريد الإلكتروني: ((إنَّها السَّابقة الأولى التي يتم فيها توليد نسخةٍ جديدةٍ من مادةٍ وراثيةٍ دون استخدام إنزيماتٍ بروتينيةٍ، بمعنى أنَّ الـ RNA قادرٌ على توليد نسخٍ جديدةٍ من المادة الوراثيَّة لوحده مؤكدة بذلك جزءّا من نظريَّة عالم الحمض النَّووي الرايبوزي)).
إنَّ عمليَّة اختيار الرايبوزيم المناسب للارتباط بالحمض النَّووي الرايبوزي في بيئة انبوب الاختبار كانت تشبه الى حدٍ ما عملة الانتقاء الطَّبيعي. حيث قام هورنينغ وجويس بإضافة تعديلاتٍ مختلفةٍ على تركيبته، وكانت النُّسخة التي حققت الارتباط وولدت المزيد من RNA هي النُّسخة النَّاجية.
قد تتساءل عزيزي القارئ عن السَّبب الذي منع المادَّة النَّاتجة من أن تكون كائنًا حيًا.
الفكرة الأساسيَّة تكمن في إيجاد المُركَّب المناسب للارتباط بالحمض النَّووي الرَّايبوي، فقد كان من المتوقع أنَّ الرَّايبوزيم غير قادرٍ على توليد نفسه أو RNA أكبر منه حجمًا، إلا أنَّ هذه الدِّراسة أشارت إلى أنَّه من الممكن على الأقل إنشاء حياةٍ أوليةٍ من RNA لوحده قادرٌ على توليد نفسه عندما يكون تركيب الرَّايبوزيم أفضل.
يتشارك الـ DNA والـ RNA في الوحدة البنائيَّة الأساسيَّة والتي تسمى (نوكليوتيد – Nucleotides)، ولهذه النّوكليوتيدات خمسة أنواع، ثلاثةٌ منها مشتركةٌ بين الحمضين وهي الأدينين والجوانين والسايتوسين المرمَّزة بالأحرف الأولى منها Aو G وC على التَّرتيب. ويختلفان في النوع الرابع، ففي أبجدية DNA هنالك المركب الكيميائي الثايمين T، أما RNA فلديه المركب اليوراسيل U كما يختلفان في شكلهما، فالـ DNA على شكل جديلةٍ حلزونيَّةٍ مزدوجة من النّوكليوتيدات، بينما الـ RNA على شكل حبلٍ منفردٍ من النوكليوتيدات تنطوي أحيانًا على بعضها. لذلك تكمن مهمَّة الرَّايبوزيم الرَّئيسيَّة في فكِّ الطَّيات الموجودة في حبل الـ RNA جاعلًا النّوكليوتيدات مكشوفةً للارتباط بمثيلاتها مكونةً مركب RNA جديد.
لماذا يتفوَّق الحمض النووي الرَّايبوزي منقوص الأكسجين في إنشاء الحياة؟
يستخدم الـ DNA منظومةً ضخمةً من الإنزيمات التي تساعده على تكرار نفسه، كمان أنَّ نوكليوتيداته الأربع بعد أن تُكشف للارتباط مع نظيراتها تكون شديدة الدِّقة، فلا يرتبط الأدينين إلا مع الثايمين، وكذلك الجوانين لا يرتبط إلا مع السايتوسين. بهذه الطَّريقة يحتفظ الحمض بالبيانات الوراثيَّة دون تحريف.
أمَّا في المختبر، فقد استطاع الـ RNA أن يكرر نفسه لمراتٍ محدودةٍ فقط قبل أن يتوقف. علاوةً على ذلك، فإنَّ عمليَّة التّكرار لم تكن دقيقةً.
إنَّ محاولة بدء حياةٍ أوليةٍ باستخدام الـ RNA وحده ليست حديثة العهد، فقد سبرت دراساتٌ بدأت العام المنصرم إمكانيَّة عمل الـ RNA بالتعاون مع أحماضٍ أمينيةٍ بسيطةٍ دون استخدام إنزيماتٍ معقَّدةٍ. قد تحمل هذه الدِّراسات نفس مبدأ فرضية عالم الـ RNA إلا أنها تختلف معها في بعض التَّفاصيل.
يقول (تشارلز كارتر- Charles Carter) من جامعة شمال كارولينا، والذي عمل على واحدة من تلك الدِّراسات ((إنَّ العمل المنكب على هذه الدِّراسة لعظيمٌ جدًا، إلا أنَّها لن تقدم أجوبةً شافيةً للعلماء عن شكل الحياة الأولية. فالمركَّب المستخدم الرايبوزيم هو مركبٌ اصطناعي حديث، وليد تكنلوجيا القرن الحادي والعشرين، ولا تحلُّ الطَّريقة التي يستخدمها جويس وهورنينغ أحجية تكوّن الكيمياء الحيويَّة البدائيَّة)).
إلا أنَّ هورنينغ يرى الموضوع من زاويةٍ أخرى، ويقول مقارنًا هذه الدِّراسة بأوائل التَّجارب في الفيزياء ((لفترةٍ وجيزةٍ قبل بناء القنبلة النَّووية، فهم العلماء أنَّه عند إشباع اليورانيوم يمكن الحصول على طاقةٍ حراريةٍ، بشرط توفير كتلةٍ معينةٍ من اليورانيوم حتى يحصل التَّفاعل بشكلٍ تلقائي)) ويضيف: ((الخطوة المقبلة ستكون إيجاد الإنزيم المناسب للحفاظ على معلومات الـ RNA من الضَّياع)).
وفي سياق أخر يقول هورينغ: ((لقد تبدَّلت الكيمياء الحيويَّة إلى كيمياءَ تعتمد على الـ DNA والبروتينات كونها المتفوقة وذلك منذ زمنٍ بعيدٍ جدًا، لذلك من الصًّعب أن نجد دليل على نوع الـ RNA الذي كان موجودًا منذ مليارات السنين. فقد مات عالم الـ RNA منذ ما لا يقل عن 3 مليارات سنةٍ مضت)).
من جهة أخرى هنالك من يبحث عن حياةٍ في مكان آخر من الكون، إلا أنَّه وحتى الآن لا يوجد بيانات حقيقية حول عدد المرَّات التي بدأت فيها الحياة من نقطة الصفر في الكون كله. لذلك تهدف هذه الدِّراسة إلى إيجاد الكيمياء المناسبة التي يمكنها أن تبدأ الحياة، فهي تبدأ بإثبات أن الحياة لا تحتاج شيفرة جينيَّة.