لا تداعب موسيقى الجيتار حسّ كارول كرين الفني فقط، ولكنها تمس كاحليها أيضًا برفق عندما تستمع للكمان، وتشعر أيضًا بها على وجنتيها. وتعرّف الأبواق بنفسها على رقبتها.
بالإضافة إلى إحساس الآلات الموسيقية على جسدها، ترى كرين الألوان والأحرف بأصباغ رائعة. وبالنسبة لها، كل وحدة من وحدات قياس الزمن لها شكلها الخاص: فترى أشهر السنة كسيارات على دولاب دوار، حيث يكون شهر تموز في الأعلى، وفي الأسفل كانون الأول.
يقول البروفيسور شون داي في علم اللغويات في الجامعة الوطنية المركزية في تايوان: «طعم اللحم المشوي يجعلني أرى لونًا أزرقًا، بينما يبدو مشروب المانجو كحائط من الأخضر الليموني المقلم بلون أحمر كرزي. الحبار مع الزنجبيل المطهي على البخار يبدو ككرة رطبة من الرغوة البرتقالية أراها على بعد مئة وعشرين سنتيمترًا أمامي مباشرةً».
يتشارك كرين وداي حالة حسية استثنائية تسمى الحس المواكب (synesthesia)
يأتي اسم الظاهرة من اللغة اليونانية، وتعني «الإدراك المزدوج» وتأتي على أصناف متنوعة. فبعض المصابين يتذوقون أو يشمون أو يسمعون أو يشعرون بالألم من خلال الألوان.
ويتذوق آخرون الأشكال، ويوجد أيضًا من يدرك الأرقام والأحرف والكلمات من خلال الألوان. ولدى بعضهم ما يُطلق عليه الباحثون اسم: «الحس المواكب المفاهيمي»، فيرى هؤلاء المفاهيم المجردة، مثل وحدات الوقت والعمليات الحسابية، على هيئة أشكال هندسية داخل عقلهم أو تُسقط في الفضاء المحيط بهم. والعديد من المصابين يجربون أكثر من نوعٍ للحالة.
لاتزال دراسة الحالة في البداية، وأحد الأسباب هو أن العديد من المصابين يخافون السخرية من قدراتهم غير العادية. عادةً يصف الأشخاص المصابين بالحس المواكب أنفسهم أنهم قد أُجبروا على الصمت بعد أن تم التهكم عليهم في صغرهم لوصفهم روابط إحساسهم التي ظنوا أنها طبيعية.
يُقدم الحس المواكب مشكلة مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى العلماء. فقد أكدت البحوث أن الظاهرة بيولوجية وتلقائية والظاهر أنها غير مدروسة، مختلفة عن الهلوسة وعن الاستعارة. وتكون الحالة في النساء أكثر منها في الرجال، كما يعرف الباحثون الآن. لكن استطاع الباحثون مؤخرًا تخمين الأسباب وراء الحس المواكب.
أما الآن، فتحمل السلوكيات العصرية الصور الدماغية والأدوات الجزيئية الجينية وعودًا مثيرة للكشف عن الآلية التي تسبب الحس المواكب، ويأمل الباحثون أن يعرفوا أكثر عن كيفية إدراك وتفكير الدماغ الطبيعي.
ويعتقد الباحثون أنه يوجد شخصٌ من كل ألفي شخص مصاب بالحس المواكب، لكن بعض الخبراء يعتقد أن العدد قد يكون واحدًا من كل 300 شخص لديه إحدى صور الحالة. أشيع أن الكاتب فلاديمير نابوكوف كان أحد المصابين بالحس المواكب، كالكاتب أوليفر ماسيان والفيزيائي ريتشارد فينمان.
يعتقد الباحثون أن الحالة الأكثر شيوعًا من الحس المواكب هي سماع الألوان: فالأصوات والموسيقى تسمع في الألوان. أغلب المصابين بلّغوا عن أصوات داخلية، في «أعين دماغهم». وترى القلة منهم -مثل داي- يرون رؤى تُسقط خارج أجسامهم، غالبًا في مكان تحت متناول أيديهم.
بلّغ بعض المصابين عن إحساسهم بالإفراط الحسي والشعور بالتعب بمجرد التنبيه. لكن عادةً لا تكون الحالة مشكلة. في الحقيقة يظن أغلب المصابين بأن ما يمتلكونه هو كنز ويعتبروه حاسة إضافية.
يقول الدكتور سيمون بارون كوهين، الذي يدرس الحس المواكب في جامعة كامبردج: «لو سألت أغلب المصابين بالحس المواكب إن كانوا يريدون التخلص منه؛ سيقولون غالبًا: كلا. فهم يشعرون أن الحس المواكب هو التجربة الطبيعية. وأخذ ذلك منهم يُشعرهم بأنهم حرموا إحدى حواسهم».
الإنجازات العلمية:
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أجريت العديد من الدراسات العلمية على الحس المواكب، كانت أكثرها في منتصف القرن العشرين. على أية حال، سقط الحس المواكب في «رادار» العلماء، ضحيةً للحركة السلوكية. وبدأت الظاهرة بالظهور على سطح البحث في علم النفس في السبعينات من القرن المنصرم، عُززَ هذا العمل بتعاون عالمَين.
كتب عالم النفس في جامعة ييل الدكتور لاري ماركس عام 1975 مراجعة لتاريخ الحس المواكب ونشر بحثه في مجلة (Psychological Bulletin)، التي كانت أول معالجة للموضوع بعد 30 عامًا من التوقف.
وفي أوائل الثمانينات نشر الطبيب وعالم الأعصاب ريتشارد إي كيتوويك عدة حالات بُلّغ فيها عن حس مواكب. واقترح بشكل مثير للجدل أن أسباب المشكلة تكمن في الجهاز الطرفي وهو جزء أكثر عاطفية وأكثر بدائية في الدماغ من القشرة المخية الحداثية -المكان المسؤول عن التفكير الأكثر تنظيمًا-. على الرغم من أن هذه النظرية لم تحصل على دعم كبير، دراسة كيتوويك وكتابه المشهور المنشور عام 1993، «الرجل الذي يتذوق الأشكال- The Man Who Tasted Shapes » ضاعف أهمية الحس المواكب ودفع علماء النفس وعلماء الأعصاب لدراسة الحالة عن طريق التجارب.
في عام 1987، وجد فريق بقيادة بارون كوهين أول دليل واضح على أن تجارب الحس المواكب متسقة عبر الزمن. طلب الباحثون من المصابين أن يشرحوا لونًا خلال مئة كلمة. بعد عام واحد، أعادوا التجربة لكن دون تحديد عدد الكلمات وجدوا أن عدد الكلمات التي وصفها موضوعهم كان متسقًا مع إجابتهم المبدئية أكثر من 90 % من المرات. مقارنةً بالأشخاص الذين لا يملكون حسًا مواكبًا حين طُلب منهم تأدية نفس المهمة، ولكن خلال أسبوعين فقط بين الاختبارين، لم تتسق إجابتهم إلا 20% من المرات فقط.
في بحثٍ لاحق أكّد فريق بارون كوهين أن الحس المواكب ليس متسقًا عبر الزمن فقط، لكنه قابل للقياس في الدماغ بشكل ملموس. باستعمال التصويرالمقطعي بالإصدار البوزيتروني والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وجد الباحثون هذا للمصابين بسماع الألوان، أظهرت المناطق المرئية من الدماغ زيادةً في نشاط مناطق عدة استجابةً للصوت. ولا تنطبق هذه الحالة على الأشخاص غير المصابين بالحس المواكب.
أثبتت دراسات أخرى أن إدراك الحس المواكب يحدث لاإراديًا ويتعارض مع الإدراك العادي. وفي آخر صيف أظهر كل من الدكتور مايك ديكسون والدكتور دانيال سميليكوسيرا كوداهي والدكتور فيليب ماريكل أنه بالنسبة للمصابين ترتبط تجربة رؤية الألوان بمفهوم العدد أكثر من رؤيته لهذا العدد. حيث قدم هؤلاء الباحثون لأحد المصابين مسألة حسابية سهلة مثل 5+2 وأظهرت تجربتهم أن حل هذه المسألة يفعل المفهوم 7 مما يؤدي للمصاب أن يدرك اللون المرتبط بالرقم 7.
نشر هذا البحث في مجلة (Nature) في تموز وكان كما قال ديكسون: أول دليل مادي على أن تجارب الحس المواكب يمكن إثارتها عن طريق تفعيل مفهوم الأعداد فقط. كما اقترحت هذه الأبحاث أن -على الأقل لهذا المصاب- تجربة اللون مرتبطة بمعنى الأعداد وليس فقط بشكلها.
يخلص الدكتور كريستوفر لوفيلاس الباحث والزميل في جامعة ويكفوريست كلية الطب: «تظهر الأدلة مجتمعة أن هنالك شيءٌ ما يجري في المنطقة الحسيّة في الدماغ، وما ينبغي علينا فعله الآن هو معرفة كيف يفعلها الدماغ».
السبب غير المؤكد
قبل قرنٍ مضى، نسب الباحثون الأمر بطريقة غامضة إلى حدٍ ما، إلى «تقاطع أسلاك» في الدماغ. أما اليوم فبغض النظر عن أن علماء الأعصاب يفهمون بشكل أعقد من السابق تركيب الدماغ وطرقهم المعقدة لتتبع آلية عمل الدماغ؛ يستمر الحس المواكب بالتملّص من فهمنا. مما أدى إلى نشوء عدة فرضيات لتفسيره، لكنها جميعًا تحتاج إلى تجارب إضافية.
اقترح بارون كوهين وزملاؤه أن الحس المواكب ينتج عن خلل جيني يؤدي إلى إنتاج الروابط العصبية في الدماغ بشكل مفرط. ويشرح بارون كوهين: «عادةً، تُعيَّن عدة آليات حسية لفصل الوحدات في الدماغ، مع تواصل محدود بينها. بينما في حالة الحس المواكب أسلوب بناء الدماغ مختلف، ونعتقد بأنه مزود بروابط عصبية أكثر، مما تسبب في كسر الحالة الاعتيادية مما أدى إلى الحس المواكب».
الدكتورة دافني موريرعالمة نفس في جامعة ماكماستر، تعتقد أن كل البشر قد يولدون بروابط عصبية تسمح بحدوث الحس المواكب لكن أكثرنا يفقدها حين ينضج.
عالم النفس الدكتور بيتر غروسنباكر في جامعة ناروبا، وافق على أن هنالك أصل جيني للحس المواكب، ومثل مجموعة بارون كوهين، قام هو وفريقه بالتعاون مع علماء الوراثة الجزيئية للبحث في القضية. لكن شك غروسنباكر وفريقه بوجود آلية أخرى لعمل الدماغ. وقال غروسنباكر: «لسنا مضطرين أن نطرح أسلوبًا غير عادي في تركيب روابط الدماغ لنعلل الحس المواكب».
اقترح غروسنباكر بدلًا من ذلك أن الروابط التي تحمل معلومات من مناطق متعددة الحواس ذات المستوى العالي إلى مناطق أحادية الحس لا تكون مثبطة في أدمغة المصابين بالحس المواكب. عادةً تسمح المعلومات المعالجة في المناطق متعددة الحواس للعودة فقط وتثبط المناطق الأخرى إلى المناطق أحادية الحس المناسبة. «لكن في أدمغة المصابين بالحس المواكب هذا التثبيط معطل بطريقة ما، مما يسمح للحواس الأخرى بالاختلاط».
يعتقد غروسنباكر أن رؤيته متسقة مع الحقيقة القائلة بأن عقاقير الهلوسة تحفز تفعيل الحس المواكب مؤقتًا.
ويقول: «لا أعتقد أن الروابط الجديدة تنشأ داخل الأدمغة لعدة ساعات ثم تختفي. بينما الأكثر منطقية هو أن الروابط المثيرة تستعمل بطريقة تغير الروابط العصبية الكيميائية لعدة ساعات».
لكن، غروسنباكر يعترف: «مشاكل التنظير في هذه المنطقة أننا لا نمتلك البيانات الكافية. بل في الواقع، لا يوجد نوع بيانات صحيحة بعد لنميّز بين النظريات المختلفة».
ويوافق بارون كوهين: «تصوير الأعصاب هو أفضل شيء فعلناه حتى الآن، لكن الجودة المكانية ليست جيدة كفاية لكي نرى هل يوجد ارتباطات منفصلة تقاطعت في الدماغ».
يتفق كل من بارون كوهين وغروسنباكر أن الفحص بعد الوفاة سيسمح بفحص أدق للاختلاف بين عقل المصاب بالحس المواكب وبين عقل الشخص الطبيعي، لكن إلى الآن لا يُعرف عن مصاب بالحس المواكب مات وترك عقله للعلم.
آثار:
يمتد الاهتمام بالحس المواكب -بالنسبة لعلماء النفس- لما خلف دراسة حالات فردية لقلة ممن جربوا الظاهرة.
يقول مارك: «الحس المواكب يتداخل مع الكثير من المجالات الأخرى الأكثر ألفةً للعديد من علماء النفس. فهو يخبرنا شيئا ما عن طبيعة الإدراك وما الذي يجعل الأمور القابلة للإدراك مشابهة لبعضها البعض. قد يساعدنا الحس المواكب لاستيعاب مفهوم المشابهة المضمن داخل نظامنا العصبي».
ويقترح ديكسون: «بالإضافة إلى المعلومة القائلة أن الحس المواكب يتعارض مع إدراك المحفزات الجسدية مما يسلط الضوء على نقطة جوهرية في طريقة تفكيرنا. فنحن نميل إلى أن نحسب الخبرات المكتسبة وخصوصًا النظام البصري، على أنها نظام تصاعدي، لكن هنالك العديد من الحالات التي تعني العودة إلى الأسفل والتأثير على نظامنا الإدراكي البسيط للعالم. الحس المواكب هو فقط أحد أندر وأكثر الأمثلة استثنائية لهذه الحالات».
يقول غروسنباكر: «احتمالية احتواء الحس المركب على جذور جينية مثيرة. خصوصًا عندما يتضح أن هنالك جين واحد فقط يتحكم بالحالة كما توقع البعض. فإذا كان فعلًا شيئًا مركزيًا بالنسبة للحياة العقلية كالحس المواكب يتم التحكم به عن طريق جين واحد، فهذا سيكون نوعًا جديدًا من الجينات لدراسته. فسيكون جينًا -مهما كان شكله- يؤثر في صحة الإنسان لكن له تأثير أعمق في منظومة الجهاز العصبي».
وعلى المستوى الجزيئي، رصد العديد من الباحثين، بحوثًا عن الحس المواكب قد تساعد على زيادة وضوح الحالات، مما يخفض خطر إساءة تشخيص الحالة على أنها مرض عقلي.
بالإضافة إلى أن غروسنباكر، لوفلاس وكرين -التي تقود الأبحاث عن الحس المواكب أثناء إكمال الدكتوراه الخاصة بها في علم النفس السريري- قد بدأوا فحص ما إذا كانت هنالك آليات مشتركة قد تكمن خلف كلٍ من الهلوسة والحس المواكب. إذا كانت كذلك قد يكون الحس المواكب هو المكتبة المثالية لدراسة هذه الآليات.
وتقول كرين: «هذه مجموعة من الناس متاحين للدراسة، على عكس مرضى الهلوسة، المصابين بالحس المواكب لم يتم علاجهم إذًا أنت لا تمتلك عامل الإرباك. نحن نستطيع أن نتحدث عن تجاربنا. ونعرض شيئًا قيمًا جدًا».