الحاج عَلِي حُسَينْ عَلِي الكَاطِع المِعْمَارِي " أبو فَارِس "
صَفَحاتٌ مِن كِتابي " عَينْ زَالة الفِردَوسُ المَفقُود "
أسَرَتْنِي كَلماتُ أحبتي مِمَّن نشأنا وَتَرَعرَعنا مَعاً في زُمَّارنا وَفَلذة كَبِدِها عِينْ زَالة وضواحيهما التي شَهدتْ مَهد أحلامِ طُفولتنا ثُمَّ نَشوةُ صِبانا حينَما دَاعبَ الهَوى العُذريُّ شِغَافَ قُلوبِنا فتِسارَعت نَبَضاتُ القُلوب وإرتَعَشَتِ الأيادِي وتَضاربَت الأقدامُ بوَقعِ الخُطى ، يُعاتِبُني حَازِمُ السَاير عن إنقِطاعِ تَدفق حُروفي بأهلنا ودِيارِنا ، وهو يَعيْ أنَّ نَثِيثِ مِدادها ودِفق هَديرها يَستَنْزِفُني وما أنْ تُبصِرُ نواظِرهُ سَيل مشاعِرنا وطُوفانَها حتى تَقَر عينهُ ويَلتَمسُ العُذر مُردِفاً :
الله عَلى عُمقِ المعانِي وثَراءَ المشاعر كحَجمِ بَعضِ الوُروُدِ حُروفكَ إلاّ أنَّ عبقها أعطَرُ وأذكى حِينَما امتزجَ فأبكى ؛ فما كُلُ هجرٍ في الحياةٍ قطيعةً يا صاحبي فربما بعضُ الغيابِ وصال ، مقبولٌ غيابُ زِياد عِندَما تكون النَتائِجُ بهذا الكمِّ الهائِلِ مِنَ الإبداع ....
والآن أهلي وأحبتي وأصدقائي دعونا نَستذكِرُ سَيرةً عطرةً لعائلةٍ طيبةٍ مُباركةٍ هي عائلةُ عَمي السَيد عَلي المِعمَاري ومِنْ خِلالها نَستَذكِرُ ماضٍ إندَثَرَ مُنْذُ سِنينٍ عابراتٍ غَابراتٍ ونَستَذكِرُ أشخاصاً عِشنَا وإياهم تِلكَ السنينَ بأفرَاحِها وأتراحِها وَلعلَ بيتَ العَمْ سَيد علي هو عائلتي الثانية وهُم صفوة أهلنا وناسنا فلنشُدَ الرِحال صوب تِلك السِنين .
أولاً : نشأة الحاج عَلي وأصوله وجذوره :
ولِدَ الحاج علي حسين علي الكاطع المعماري بتأريخ ١/٧/١٩٣٠م في قريةٍ بسيطةٍ متواضعةٍ هي "قَريةُ أبو وجنة" يَنتسِب الحاج علي إلى عَشيرة آل بو ياسين من قبيلة السادة المعامرة ، كُنيته أبو فَارِس ويسميه أحباؤه المقربون بــــ (حجي عليوي) تَزوج من عَمتنا الشيخة فاطمة طالب عبد الرحمن الجبوري شقيقة الشيخ عبدالله طالب عبد الرحمن الجبوري ، رافقت أم فارس الحاج علي في السَرَّاءِ والضَرَّاءِ وقد كانت نِعم السَند في هذه الحياة ، شَهِد لها الجميع بكونها إمرأةً كريمةً وشجاعةً أدت رسالتها على أتم وجه أمَّا شهادتنا بحق هذه الشيخة الفاضلة فشهادةٌ مجروحةٌ كونها كانت بمثابةٍ أمٍ ثانيةٍ لنا فقد ربطتنا وشائج علاقة إجتماعيةٍ متينة حتى يومنا هذا .
نشأ الحاج علي وترعرع في قَريةِ أبو وجنة ودخل معترك الحياة في عمر صغير لا يتجاوزُ العشر سنوات أو أكثرُ من ذلك بقليل ، حيث عمل في شركه نفط عين زالة وبأجور يومية زَهيدة سنه ١٩٤٣م وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره ، وفي عام ١٩٥١م تم تثبيته بِصفةِ عاملٍ دائمي في هذه الشركة وإستمر يمارِسُ عمله في قسم الكهرباء طيلة فترة عمله في شركةِ نِفطِ عَين زَالة .
ثَانِياً : مُغادَرة الحاج علي قرية أبو وجنَّة :
في عام ١٩٦٢م غادر قرية أبو وجنَّة إثْرَ خلافٍ مع أبناء عمومته من السالم (سنة ١٩٦٢م وقِيل سنة ١٩٦٤م) ليسكن في مدينة الموصل في منطقة حي الشفاء (الزنجيلي) ليَستَقِرَّ به المقام في البيت الذي قام ببنائه وإنشائه أثناء فترة عمله وهكذا إستقرت العائلة في هذا المنزل مع إستمراره في مزاولته للعمل في عين زالة ؛ شَهِد له أقرانه بكونه رجلاً شجاعاً لا يأبه في قول الحق لومة لائم ، مخلصاً ومحباً للخير ، مِفتاحاً من مفاتيح الخيرِ ومغِلاقاً من مغاليقِ الشَر ، صَواماً قواماً مُصلياً ، حَجَّ بيت الله الحرام ثلاث مرات خلال الأعوام ( ١٩٦٣م / ١٩٦٦م /١٩٧٩م) .
نُشير هنا أنه نتيجةً لتحسن الظروف المادية للحاج علي إنتقل الى بيته الثاني الذي قام ببنائه في منطقه موصل الجديدة عام ١٩٧٢م وهذا التحسن لم يكُ مصادفةً بل جاء كنتيجةً لكونه مكافحاً في شبابه تاجر بالحبوب من (الحنطة والشعير) خاصةً وأنه إمتلك سِيف (مخزن) لبيع الحنطة والشعير ... حيثُ إستمر بقاؤه في بيته الجديد هذا لغاية عام ١٩٧٩م .
ثَالِثاً : شَدَّ الرِحالِ إلى عَينْ زَالة :
في عام ١٩٧٩م تحديداً ولضرورة تواجد الحاج علي في شركة عَين زالة قامت الشركة بمنحه منزلاً (داراً سكنية) داخل مضرب الشركة كي يكونَ قريباً على عمله ؛ وهكذا إنتقل إلى بيته الجديد في عين زالة مع عائلته الكريمة وبقي هناك أكثرُ من أربعةِ أعوامٍ رسخ شَذى عطرها خالداً في ذاكرتنا ، فإستقر بهم المقام جِيراناً لبيوت (ذنون أبو طلال وبيت فريدون أبو رُوني وبيت دِنْخا أبو سركَون الذين كانت تزورهم إمرأة إسمها "هدلة مكانس" وقد إحتفظت الذاكرة بِذِكرياتٍ رائعة عن عَينْ زَالة وبيوتاتها قليلة العدد حيث لا حواجز بين بيت وآخر ولا سياج يفصل البيوتَ عن بعضها الأمر الذي سَهل عَمل المقالِب بين الأهل والجيران والأصدقاء فقد كانت البنت الكُبرى للعم (الحاج علي) تلبس ملابس والدها وتذهب إلى الجيران أو تقف قبالة الشباك لبث الرعبِ أو إخافتهم لكسر الروتين الرتيب وخلق أجواءٍ من المرح ، فلا أحد يزعل من جاره ولا من جارٍ يتململُ من تلك المقالب التي لم يبقَ إلاّ حلاوة إستذكارِها ؛ نستذكر هذه التفاصيل بحكم وجودنا معهم فلطالما إعتدنا أن نكون عندهم في نهاية كل أسبوع أو أن يكونوا عندنا في أجواءٍ تغمرها الفرحة والسرور ....
رَابِعاً : ذِكرياتٌ في تَضاريس الذاكرة :
مما رسخ في تضاريس الذاكرة العامرة بحب الديار وأهلنا فيها ، في إحدى المرات أصت الخالة أم سركَون عمتنا أم فارس على صُبغ شعرٍ باذنجاني في حال نزولها للموصل ، وبالفعل نزلت عمتنا للموصل في اليوم التالي ولكونها من أهل الله ولا تفرق بين تدرجات الألوان إشترت للخالة أم سَركَون صبغ شعرٍ بلون أسودٍ داكن ، وكانت الكارثة حينما إصطبغ شعر خالتنا بذاك اللون الأسود الغامق الأمر الذي جعلها في حالة هستيريا من الإنفعال المصحوب بالضحك لتبدأ موجةً من الهجوم بالكلام الذي يجعل المستمع له يموت ضحكاً (فشار ما ينلبس عليه عكَال) رحم الله أم فارس وأم سركَون وكل من رحل عن عالمنا بعد أن أدى رسالته وترك في قلوبنا غصة بإستذكارهم .
المجتمعُ في عين زالة عبارةٌ عن عائلة كبيرةٍ موزعة في بيوتٍ ليس لها أسوارٌ تفيض البيوت حباً ووئام لا فرق بين عائلةٍ مسلمة ومسيحية بتاتاً بل أضفى هذا التنوع ألقاً وجمالاً كما هو حال ورود الربيع التي تسحر العيون بِسحرها الأخاذ ، تقول إبنة عمي حجي علي :
كنا أنا وصديقاتي الجميلات نتسابق إلى البساتين لجني الفستق والعنب في وقت الظهيرة دون علم الأهل وكان أبي رمزاً لكل رجل متيمٌ بوظيفته شغوفٌ بأداء واجبه من حيث القيام بعمله في دائرة الكهرباء ومولعاً بقيامه بالأعمال الزراعية في منزلنا ، حيث كان يزرع العديد من المحاصيل الحقلية لا سيما الخضروات فضلاً عن هوايته بتربيه الأبقار والدجاج رغم أوامر المنع المشددة من قبل مدير شركه عين زاله حسين بيك (يرحمهم الله تعالى) تواصل إبنة عمنا حديثها بدموع تترقرق في العيون وهي تستذكرُ طفولتها قائلة :
كُنّا صغاراً ننتظرُ وصول باص المدرسة الذي يُقِلُنا من عين زاله إلى زمار القديمة وكان بيتنا أولُ بيتٍ يمرُ عليه الباص لِذا كنت أحجز لصديقاتي أماكن جلوسهن في الباص ، فقد كنا نصل متلهفين لمدرستنا لنلتقي بصديقاتنا ولعل أعزهن كانت (نجاح محمد حمود) لنباشر بلعبةٍ كانت الأقرب إلى قلوبنا هي (لعبة خَابر دار) وكنا نُشكل مجموعات طلابية من كافة الصفوف لنقوم بتأديةِ تمارين رياضية نبقى نتمرن أو نتدرب عليها ثُمَّ نؤديها خارج المدرسة في منطقه إسمها الكزرة إستعداداً للإستعراض السنوي الذي يصادِف في شهر نيسان من كلِ عام .
خَامِساً : الخَاتِمة :
نُشير هُنا إلى أن الأشخاص والأصدقاء المقربون للحاج علي هو والدِي " أبو رياض" السيد مُحَمَّد حمود ومفوض كريم "أبو سلوان" مسؤول عن شرطة عين زالة فضلاً عن علاقاته الطيبة مع الجميع .... وفي النِصفُ الأول من الثمانينات قَدم أبا فارِس طلباً لإحالته على التقاعد وتمت الموافقة عليه بعد خدمةٍ جليلةٍ وسيرةٍ حسنةٍ تجاوزت الثلاثين عاماً ، وهكذا عاد العم الحاج علي وعائلته إلى منزله في موصل الجديدة عام ١٩٨٤م وبقي فيه حتى وافت المنية زوجته الشيخة أمُ فارِس في٢٩/١٢/٢٠١٥ م وبعدها ببضع سنوات إلتحق بها إلى الرفيق الأعلى بتأريخ ٢٢/٧/٢٠١٩م ، يرحمهما الله تعالى وجعل الفِردَوس الأعلى مُستَقراً لهما ومُقاما .