عربي (شيخ اكبر محيي دين )
Ibn Arabi I(Muhi ed Din-) - Ibn Arabi I(Muhi ed Dine-)
ابن عربي (الشيخ الأكبر محيي الدين ـ)
(560 ـ 638هـ/1165 ـ 1240م)
محمد بن علي بن محمد بن أحمد ابن علي من وَلَدِ عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الطائي. وُلِدَ ابن عربي في بلدة «مُرسِيَة» الإسبانية، كنِّي بأبي بكر، وأبي محمد، وأبي عبد الله، ولقّبه المشرقيّون بـ (ابن عربي) وبمحيي الدين، وبالشيخ الأكبر، وبالحاتمي الطائي تمييزاً له من القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي الإشبيلي المالكي.
نشأ ابن عربي في أسرة اتخذت التصوف والتقوى والزهد طريقاً في الحياة، فكان له الأثر الكبير في تكوين شخصيته، وفي بنيته النفسية.
وفي سنة 568هـ، أي في الثامنة من عمره غادرت أسرته «مُرسية» إلى إشبيلية، وفيها قرأ القرآن على القراءات السبع، ودرس مذهب ابن حزم الظاهري، ومذهب الإمام مالك على شيوخ إشبيلية، ويقول عن نفسه في «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار»: إنه لم يترك كتاباً إلا وقرأه، ومما قرأ: السيرة لمحمد بن إسحاق، والسيرة لابن هشام، ومسند ابن حنبل، وصحيح مسلم، وصحيح البخاري، وطبعت هذه القراءات شخصيته بطابع الموسوعية، وجعلته يستقل بآرائه. وفي سن العشرين تحول إلى الصوفية، كما يقول عن نفسه: «ونلت هذا المقام في دخولي هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة»، ولكن ابن عربي نفسه يقدم رواية أخرى في الفتوحات أنه تحول إلى الصوفية قبل العشرين وفي حياة والده، عندما التقى بابن رشد الفيلسوف وهو لا يزال فتى أمرد. وعندما سلك طريق الصوفية أقبل بهمته كلّها على خدمة شيوخه، وأعرض عن الدنيا وشواغلها، فَسَمَتْ روحه إلى مرتبة الإشراق.
وقد توافرت على خلق هذا التكوين الروحي عند ابن عربي تربية الأسرة، ثم استعداده النفسي، ثم الإعداد الجيد من قِبَلِ شيوخٍ عرفوا بتنوع أذواقهم واختلاف مناهجهم في تكوين شخصيته. فقد أخذ عن شيوخ إشبيلية جميعهم من دون استثناء، وعرف طريقة كل واحد منهم، كما يقول: «لم أعرف مذهباً ولا نحِلة، ولا ملّة، إلا رأيت قائلاً بها، ومعتقداً لها، ومتصفاً بها، باعترافه من نفسه، فما أحكي مذهباً ولا نحلة إلا عن أهلها القائلين بها».
بعد أن أتم تكوينه الصوفي على يد شيوخ إشبيلية قرر التجوال، عملاً بنصح صالح البربري، فغادر إشبيلية متجولاً في مدن الأندلس فوصل قرطبة سنة 580هـ، وقابل شيوخها. وفي عام 589هـ وصل إلى سبتة ولازم فيها شيوخ الطريقة، ثم غادر الأندلس إلى شمالي إفريقيا فوصل إلى تونس عام 591هـ، وهناك تمثَّل له في ضوء القمر «الخَضِرُ» ماشياً على الماء من دون أن يصيب قدميه البلل، كما يروي ذلك في الفتوحات، وقرأ في تونس كتاب «خلع النعلين»لأبي القاسم بن قِسّ على يد ابن أخته وكتب عليه شرحاً. وفي عام 593هـ وصل إلى فاس، ثم رجع إلى الأندلس فنزل في «ألمِرية» وقابل أتباع المدارس الثلاث: مدرسة ابن العريف، ومدرسة الحكم بن برجان، ومدرسة أبي القاسم بن قِسّ، وفي عام 595هـ وصل إلى غرناطة، وتجول ثانية في مدن الأندلس في «مُرسية»، و«قبر فيق» و«سبتة».
وبعد هذا الترحال الطويل شعر أن سياحته التعليمية قد اكتملت، وأن تربيته الروحية والكلامية نضجت بعد أن تعرف إلى جُلِّ شيوخ الطرق الصوفية ومقاماتهم، وأصبح أهلاً للعطاء، وعليه أن يقرر الخلوة والجلوس على بساط الأدب والحضور مع الله. وما إن قرر الخلوة حتى أجمع أمره على السفر إلى المشرق، فوصل إلى القاهرة، فصدمه مارآه من ادّعاء بعض شيوخها وعلمائها الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً. واعتزل الناس في القاهرة بعد رؤيا أشاعها بين الفقهاء مضمونها: أن رسول الحق جاءه وأبلغه: «إن الخير في الوجود، وإن الشر في العدم، أوجد الإنسان بجوده، وجعله واحداً ينافي وجوده». فاتهمه الفقهاء بالمروق على الدين، ورفعوا كتاباً إلى السلطان يطلبون فيه هدر دمه، إلا أن الشيخ البجائي أنقذه قائلاً للفقهاء: «تلك شطحات سُكْرٍ ولا عتب على سكران». وغادر الشيخ القاهرة إلى القدس سنة 598هـ، ومنها إلى مكة المكرمة فوصلها في العام نفسه، وفي ربوع الحرم المكي وقعت له رؤيا مضمونها: أنه رأى في حائط الحرم موضع لبنتين من ذهب وفضة ناقصتين، ورأى نفسه قد انطبعت في موضع تينك اللبنتين، وكَمُلَ الحائط، وتأول هذه الرؤيا: «بأنه في صنفه في الأتباع كرسول اللهr في الأنبياء» بمعنى أن رسول اللهr خاتم الأنبياء وهو خاتم الأولياء، وفي عام 601هـ غادر مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ومنها إلى الخليل سنة 602هـ، وأقام في مسجد الخليل متأملاً سر الكلمة الإبراهيمية، وفي العام نفسه وصل إلى الموصل لزيارة الشيخ علي عبد الله بن جامع الذي ألبسه الخَضِرُ الخِرْقَةَ، وألبس ابن جامع من ثَمَّ ابن عربي الخرقة في الموضع نفسه. وفي عام 603هـ رجع ابن عربي ثانية إلى القاهرة، وطلب من ابن الفارض[ر] الإذن في شرح قصيدته التائيَّة، فأجابه ابن الفارض: «كتابك الفتوحات المكية هو شرح لها» وبين عامي 604هـ ـ 608هـ جاب القاهرة ومكة وحلب، ثم وصل بغداد عام 608هـ، واجتمع هناك بشهاب الدين بن حبش السَّهْرَوَرَدِْيِّ الفقيه. ثم رجع ثانيةً إلى حلب عام 610هـ، ثم غادرها قاصداً (ملطية) وقونية عام 612 ـ 613هـ، وأقام عند صديقه محمد بن إسحاق الرومي والد الصوفي الشهير صدر الدين القونوي[ر] ثم رجع إلى حلب، واتصل بالسلطان غازي بن صلاح الدين الأيوبي. فأكرمه وقضى الحوائج التي كلفه إياها سكان حلب. ثم قفل راجعاً إلى حمص، ثم إلى دمشق عام 620هـ.
قام قاضي قضاة الشافعية شمس الدين أحمد الخولي بخدمته، والتمس قاضي قضاة المالكية منه الشرف بتزويجه ابنته، ورتب له ابن الزنكي معاشاً كل يوم مقداره ثلاثون درهماً كان يتصدق بها على الفقراء، وتوفي الشيخ الأكبر في دار آل الزنكي، ودفن في الحي المعروف بالصالحية وله مقام يزوره الناس.
يعد ابن عربي أكثر علماء المسلمين خصوبة في الإنتاج، وتعد مؤلفاته أكثر انتشاراً في جميع بلدان العالم، وقد تنوعت بين الرسائل التي لا يعدو حجمها بضع صفحات وبين المجلدات الضخمة. ومايزال بعض مؤلفاته مخطوطات لم تنشر ولم ينشرها ابن عربي في حينه، لأنه رأى أنها تتناول علوم الأسرار التي يجب أن يضن بها. من مؤلفاته: «الفتوحات المكية»، «فصوص الحكم»، «ترجمان الأشواق» وهو ديوان شعر، «مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم»، «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار»، «مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية»، «كتاب المعرفة»، «عنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب»، «التنزلات الليلية في الأحكام الإلهية»، «التنزلات الموصلية»، «التدابير الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية»، «إنشاء الدوائر»، «عقلة المستوفز»، «مشكاة الأنوار فيما روي عن الله سبحانه من الأخبار»، «الفتوحات المدينية»، «الفتوحات المصرية»، «الفتح الفاسي»، «الإسراء إلى مقام الأسرى».
ومن الرسائل: «رسالة الفناء في المشاهدة»، «رسالة اليقين»، «الإسفار في نتائج الأسفار»، «تفليس إبليس»، «القسم الإلهي بالاسم الرباني»، «رسالة روح القدس في محاسبة النفس»، «رسالة في اصطلاحات الصوفية»، «رسالة لا يعول عليه»، «الرسالة الفهوانية».
يقدم ابن عربي في مؤلفاته مذهباً في التصوف والفلسفة الإلهية معاً، يبنيه على مبدأ وحدة الوجود، وإلغاء الفصل المطلق بين الله والعالم، بمعنى أنه يرفض الثنائية، ويرفض القول بحقيقتين منفصلتين هما الله والعالم، فعنده أن الله والعالم هما وجهان لحقيقة وجودية واحدة. فقد اقتضت إرادة الله خلق العالم على صورة يرى فيها عينه، ليس لأنه في حاجة إلى العالم فهو غني من حيث الذات، بل أن أسماءه غير المتناهية تتجلى في الوجود، إذ لا تَحَقُّقَ لها إلا بالعالم، وموجودات العالم ليست إلا مظهراً أو تجليات لتلك الأسماء، فالحق له من الأسماء والصفات ما لايتحقق إلا عن طريق الخلق الذي هو مظهرها (… فالعالم مفتقر إلى الحق في وجوده) فلا وجود له إلا بالله. والحق (… الله يفتقر إلى الخلق ليس من حيث الذات الإلهية المجردة عن كل وصف أو نسبة، بل من حيث أسماؤه وصفاته، من حيث إنه أحب أن يرى عظمته وكمالاته، وأن يرى أسماءه وصفاته. وعلى هذا فكل ما يظهر في الوجود هو تجلٍّ إلهي دائمٍ في الوجود، ولكن لايدرك هذا التجلِّيَ إلا المؤيدون بنور من الله، فالعالم كلُّه عينُ تَجَلِّيْ الَحِّق لمن عرف الحقَّ).
وأكمل تجليات الخالق في الوجود هو الإنسان، وهو «مرآة العالم المجلوة، والكلمة الفاصلة الجامعة»، وبه ظهرت جميع الصفات والأسماء الإلهية، «… ولايزال العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل»، ونماذج الإنسان الكامل هم الرسل والأنبياء والأولياء حسب مراتبهم المقدرة منذ الأزل وحسب المشيئة الإلهية، فالرسل والأنبياء من آدم إلى محمدr خاتمهم هم كلمات الله التي لا تنفد، وكل كلمة من تلك الكلمات قد تجلت في هذا الرسول أو ذاك النبي أو الولي.
وينبني على مبدأ تجلي الألوهية في الأنبياء والرسل مسألة مهمة عند ابن عربي هي التسامح الديني، لأن الاعتقادات وإن اختلفت في الله تعالى لاختلاف تجليات الأسماء والصفات، لكن الله تعالى يبقى هو الواحد الأحد المعبود في كل معتقد، وفي هذا يقول ابن عربي:
عقد الخلائق في الإله عقائداً
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
هيفرو ديركي
Ibn Arabi I(Muhi ed Din-) - Ibn Arabi I(Muhi ed Dine-)
ابن عربي (الشيخ الأكبر محيي الدين ـ)
(560 ـ 638هـ/1165 ـ 1240م)
محمد بن علي بن محمد بن أحمد ابن علي من وَلَدِ عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الطائي. وُلِدَ ابن عربي في بلدة «مُرسِيَة» الإسبانية، كنِّي بأبي بكر، وأبي محمد، وأبي عبد الله، ولقّبه المشرقيّون بـ (ابن عربي) وبمحيي الدين، وبالشيخ الأكبر، وبالحاتمي الطائي تمييزاً له من القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي الإشبيلي المالكي.
نشأ ابن عربي في أسرة اتخذت التصوف والتقوى والزهد طريقاً في الحياة، فكان له الأثر الكبير في تكوين شخصيته، وفي بنيته النفسية.
وفي سنة 568هـ، أي في الثامنة من عمره غادرت أسرته «مُرسية» إلى إشبيلية، وفيها قرأ القرآن على القراءات السبع، ودرس مذهب ابن حزم الظاهري، ومذهب الإمام مالك على شيوخ إشبيلية، ويقول عن نفسه في «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار»: إنه لم يترك كتاباً إلا وقرأه، ومما قرأ: السيرة لمحمد بن إسحاق، والسيرة لابن هشام، ومسند ابن حنبل، وصحيح مسلم، وصحيح البخاري، وطبعت هذه القراءات شخصيته بطابع الموسوعية، وجعلته يستقل بآرائه. وفي سن العشرين تحول إلى الصوفية، كما يقول عن نفسه: «ونلت هذا المقام في دخولي هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة»، ولكن ابن عربي نفسه يقدم رواية أخرى في الفتوحات أنه تحول إلى الصوفية قبل العشرين وفي حياة والده، عندما التقى بابن رشد الفيلسوف وهو لا يزال فتى أمرد. وعندما سلك طريق الصوفية أقبل بهمته كلّها على خدمة شيوخه، وأعرض عن الدنيا وشواغلها، فَسَمَتْ روحه إلى مرتبة الإشراق.
وقد توافرت على خلق هذا التكوين الروحي عند ابن عربي تربية الأسرة، ثم استعداده النفسي، ثم الإعداد الجيد من قِبَلِ شيوخٍ عرفوا بتنوع أذواقهم واختلاف مناهجهم في تكوين شخصيته. فقد أخذ عن شيوخ إشبيلية جميعهم من دون استثناء، وعرف طريقة كل واحد منهم، كما يقول: «لم أعرف مذهباً ولا نحِلة، ولا ملّة، إلا رأيت قائلاً بها، ومعتقداً لها، ومتصفاً بها، باعترافه من نفسه، فما أحكي مذهباً ولا نحلة إلا عن أهلها القائلين بها».
بعد أن أتم تكوينه الصوفي على يد شيوخ إشبيلية قرر التجوال، عملاً بنصح صالح البربري، فغادر إشبيلية متجولاً في مدن الأندلس فوصل قرطبة سنة 580هـ، وقابل شيوخها. وفي عام 589هـ وصل إلى سبتة ولازم فيها شيوخ الطريقة، ثم غادر الأندلس إلى شمالي إفريقيا فوصل إلى تونس عام 591هـ، وهناك تمثَّل له في ضوء القمر «الخَضِرُ» ماشياً على الماء من دون أن يصيب قدميه البلل، كما يروي ذلك في الفتوحات، وقرأ في تونس كتاب «خلع النعلين»لأبي القاسم بن قِسّ على يد ابن أخته وكتب عليه شرحاً. وفي عام 593هـ وصل إلى فاس، ثم رجع إلى الأندلس فنزل في «ألمِرية» وقابل أتباع المدارس الثلاث: مدرسة ابن العريف، ومدرسة الحكم بن برجان، ومدرسة أبي القاسم بن قِسّ، وفي عام 595هـ وصل إلى غرناطة، وتجول ثانية في مدن الأندلس في «مُرسية»، و«قبر فيق» و«سبتة».
وبعد هذا الترحال الطويل شعر أن سياحته التعليمية قد اكتملت، وأن تربيته الروحية والكلامية نضجت بعد أن تعرف إلى جُلِّ شيوخ الطرق الصوفية ومقاماتهم، وأصبح أهلاً للعطاء، وعليه أن يقرر الخلوة والجلوس على بساط الأدب والحضور مع الله. وما إن قرر الخلوة حتى أجمع أمره على السفر إلى المشرق، فوصل إلى القاهرة، فصدمه مارآه من ادّعاء بعض شيوخها وعلمائها الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً. واعتزل الناس في القاهرة بعد رؤيا أشاعها بين الفقهاء مضمونها: أن رسول الحق جاءه وأبلغه: «إن الخير في الوجود، وإن الشر في العدم، أوجد الإنسان بجوده، وجعله واحداً ينافي وجوده». فاتهمه الفقهاء بالمروق على الدين، ورفعوا كتاباً إلى السلطان يطلبون فيه هدر دمه، إلا أن الشيخ البجائي أنقذه قائلاً للفقهاء: «تلك شطحات سُكْرٍ ولا عتب على سكران». وغادر الشيخ القاهرة إلى القدس سنة 598هـ، ومنها إلى مكة المكرمة فوصلها في العام نفسه، وفي ربوع الحرم المكي وقعت له رؤيا مضمونها: أنه رأى في حائط الحرم موضع لبنتين من ذهب وفضة ناقصتين، ورأى نفسه قد انطبعت في موضع تينك اللبنتين، وكَمُلَ الحائط، وتأول هذه الرؤيا: «بأنه في صنفه في الأتباع كرسول اللهr في الأنبياء» بمعنى أن رسول اللهr خاتم الأنبياء وهو خاتم الأولياء، وفي عام 601هـ غادر مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ومنها إلى الخليل سنة 602هـ، وأقام في مسجد الخليل متأملاً سر الكلمة الإبراهيمية، وفي العام نفسه وصل إلى الموصل لزيارة الشيخ علي عبد الله بن جامع الذي ألبسه الخَضِرُ الخِرْقَةَ، وألبس ابن جامع من ثَمَّ ابن عربي الخرقة في الموضع نفسه. وفي عام 603هـ رجع ابن عربي ثانية إلى القاهرة، وطلب من ابن الفارض[ر] الإذن في شرح قصيدته التائيَّة، فأجابه ابن الفارض: «كتابك الفتوحات المكية هو شرح لها» وبين عامي 604هـ ـ 608هـ جاب القاهرة ومكة وحلب، ثم وصل بغداد عام 608هـ، واجتمع هناك بشهاب الدين بن حبش السَّهْرَوَرَدِْيِّ الفقيه. ثم رجع ثانيةً إلى حلب عام 610هـ، ثم غادرها قاصداً (ملطية) وقونية عام 612 ـ 613هـ، وأقام عند صديقه محمد بن إسحاق الرومي والد الصوفي الشهير صدر الدين القونوي[ر] ثم رجع إلى حلب، واتصل بالسلطان غازي بن صلاح الدين الأيوبي. فأكرمه وقضى الحوائج التي كلفه إياها سكان حلب. ثم قفل راجعاً إلى حمص، ثم إلى دمشق عام 620هـ.
قام قاضي قضاة الشافعية شمس الدين أحمد الخولي بخدمته، والتمس قاضي قضاة المالكية منه الشرف بتزويجه ابنته، ورتب له ابن الزنكي معاشاً كل يوم مقداره ثلاثون درهماً كان يتصدق بها على الفقراء، وتوفي الشيخ الأكبر في دار آل الزنكي، ودفن في الحي المعروف بالصالحية وله مقام يزوره الناس.
يعد ابن عربي أكثر علماء المسلمين خصوبة في الإنتاج، وتعد مؤلفاته أكثر انتشاراً في جميع بلدان العالم، وقد تنوعت بين الرسائل التي لا يعدو حجمها بضع صفحات وبين المجلدات الضخمة. ومايزال بعض مؤلفاته مخطوطات لم تنشر ولم ينشرها ابن عربي في حينه، لأنه رأى أنها تتناول علوم الأسرار التي يجب أن يضن بها. من مؤلفاته: «الفتوحات المكية»، «فصوص الحكم»، «ترجمان الأشواق» وهو ديوان شعر، «مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم»، «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار»، «مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية»، «كتاب المعرفة»، «عنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب»، «التنزلات الليلية في الأحكام الإلهية»، «التنزلات الموصلية»، «التدابير الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية»، «إنشاء الدوائر»، «عقلة المستوفز»، «مشكاة الأنوار فيما روي عن الله سبحانه من الأخبار»، «الفتوحات المدينية»، «الفتوحات المصرية»، «الفتح الفاسي»، «الإسراء إلى مقام الأسرى».
ومن الرسائل: «رسالة الفناء في المشاهدة»، «رسالة اليقين»، «الإسفار في نتائج الأسفار»، «تفليس إبليس»، «القسم الإلهي بالاسم الرباني»، «رسالة روح القدس في محاسبة النفس»، «رسالة في اصطلاحات الصوفية»، «رسالة لا يعول عليه»، «الرسالة الفهوانية».
يقدم ابن عربي في مؤلفاته مذهباً في التصوف والفلسفة الإلهية معاً، يبنيه على مبدأ وحدة الوجود، وإلغاء الفصل المطلق بين الله والعالم، بمعنى أنه يرفض الثنائية، ويرفض القول بحقيقتين منفصلتين هما الله والعالم، فعنده أن الله والعالم هما وجهان لحقيقة وجودية واحدة. فقد اقتضت إرادة الله خلق العالم على صورة يرى فيها عينه، ليس لأنه في حاجة إلى العالم فهو غني من حيث الذات، بل أن أسماءه غير المتناهية تتجلى في الوجود، إذ لا تَحَقُّقَ لها إلا بالعالم، وموجودات العالم ليست إلا مظهراً أو تجليات لتلك الأسماء، فالحق له من الأسماء والصفات ما لايتحقق إلا عن طريق الخلق الذي هو مظهرها (… فالعالم مفتقر إلى الحق في وجوده) فلا وجود له إلا بالله. والحق (… الله يفتقر إلى الخلق ليس من حيث الذات الإلهية المجردة عن كل وصف أو نسبة، بل من حيث أسماؤه وصفاته، من حيث إنه أحب أن يرى عظمته وكمالاته، وأن يرى أسماءه وصفاته. وعلى هذا فكل ما يظهر في الوجود هو تجلٍّ إلهي دائمٍ في الوجود، ولكن لايدرك هذا التجلِّيَ إلا المؤيدون بنور من الله، فالعالم كلُّه عينُ تَجَلِّيْ الَحِّق لمن عرف الحقَّ).
وأكمل تجليات الخالق في الوجود هو الإنسان، وهو «مرآة العالم المجلوة، والكلمة الفاصلة الجامعة»، وبه ظهرت جميع الصفات والأسماء الإلهية، «… ولايزال العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل»، ونماذج الإنسان الكامل هم الرسل والأنبياء والأولياء حسب مراتبهم المقدرة منذ الأزل وحسب المشيئة الإلهية، فالرسل والأنبياء من آدم إلى محمدr خاتمهم هم كلمات الله التي لا تنفد، وكل كلمة من تلك الكلمات قد تجلت في هذا الرسول أو ذاك النبي أو الولي.
وينبني على مبدأ تجلي الألوهية في الأنبياء والرسل مسألة مهمة عند ابن عربي هي التسامح الديني، لأن الاعتقادات وإن اختلفت في الله تعالى لاختلاف تجليات الأسماء والصفات، لكن الله تعالى يبقى هو الواحد الأحد المعبود في كل معتقد، وفي هذا يقول ابن عربي:
عقد الخلائق في الإله عقائداً
وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
هيفرو ديركي