سالم الترابين
تنطلقُ الدراما من بُنى سرديّة توثّق لبناءِ حدثٍ في واقعِ المتخيّل، أو واقع الذّاكرة، أو واقع التّاريخ، ليأتي بعد ذلك الممثّل ينقل البُنى السرديّة في مشاهد تتّحد لتكون وثيقة لإطارِ مجتمعِيّ أو سياسِيّ، لعلّ الحدث في الدراما يدور في صِراعاتٍ متفاوتة بين الخيرِ والشرّ، ولكن في النهاية يَظهر للمُشاهِد زاوية لصراعٍ مهم، هو صراع الهامِش والمركِز، هذا الصّراع المؤسّس عادة لصراع الخير والشرّ، وعادة ما يحكم على العمل الدراميّ نجاحه أو فشله في مدى قدرة العمل تعرية الثنائيّات المتنوّعة، ومن إطار الهامش والمركز يمكن اختيار العديد من الهوامش في العمل الدرامِيّ. من الهوامش الّتي أثارت تفاعلًا لدى المشاهد خصوصًا في طريقة طرحها هي صورة البدوِيّ في الدراما: هل هي صورة متخيّلة؟ أم موروثة من مشاهدات تناقلها الأجيال، أو دوّنتها الكتب؟ أم أنها حالة إسناديّة لبُنية الحُبكة التي يبحث عنها المشاهد؟
عادة ما تكون صورة البدوِيّ في الدراما السوريّة صورة نمطيّة، فهي إمّا أن تأتي في إطار من البساطة، وإمّا أن تكون صورة الشرير
أمّا صورة البدوِيّ في الدراما السوريّة فهي في الغالب صورة الهامِش، ولو تتبّعنا معظم الأعمال الدراميّة، وجدنا صورة البدوِيّ صورة نمطيّة: إمّا أن تكون في إطار من البساطة فتكون شخصيّة البدويِّ بسيطًا وساذجًا فقط، وإمّا أن تكون صورة البدوِيّ شريرًا ومشاكسًا فقط، ونكاد لا نجد ذلك التوازن في تقديم تلك الشخصيّات.
ولإدراك صورة الهامِش، يمكن تتبع بُنية البدوِيّ في الدراما السوريّة وفق دراما ما بعد الحرب كمصطلح مؤقّت، لنجدَ صورة البدوِيّ في مسلسلين كنموذج حرّ في البحث عن الهامش الشّرير: الأوّل: الزّند: ذئب العاصي، والثّاني: مَرْبَى العِزّ.
في عاصي الزّند، التشكيل النمطيّ للبدويّ في زمانيّة المسلسل (منتصف القرن التاسع عشر) هي صورة قاطعِ الطّريق، وصورة الغارات على الفلّاحين، وهي صور عاينَها العديد من سكّان بلاد الشّام معاينة مباشرة في تلك الفترة. وهنا لا يمكن تشكيل حالة نقديّة وفق الصّراع لأنّ المعالجة الدراميّة التي قُدّمت لا تشكل صراعًا بين الخير والشرّ بوصفهما صراعا أزليًّا، لكنّ المسلسل يقدّم عُقَدًا، يمكن وصفها بعُقد الشرّ تُبيّن صورة النّهب والسّرقة وفقَ دلالة الصَّعلكة العربيّة أي الشرّ النّبيل.
ولكن يبقى السّؤال لما اقترنت صورة البدويّ بصورة الشرّ في الأعمال الدراميّة؟
قبل السّؤال يمكن عَرْض أماكن تواجد القبائل البدويّة المرتبطة بالدراما السوريّة والّتي قدّمت وفق صيغ الشرّ: صحراء الحجاز، وصحراء الشّام، وصحراء فلسطين (النقب، وسيناء)، وفي هذه المناطق تنوّعت الولاءات للدولة العثمانيّة بين ولاء مطلق وولاء ضبابيّ، وخير مثال على ذلك محاولة اتّحاد قبائل الحجاز الثورة على الحكم العثماني وفق بيئة فكريّة تسمى الحركة الوهابيّة أو التيار السلفيّ الجديد والذي انتهي بهزيمة هذا التيار في واقعة الدرعيّة الشهيرة. أمّا مسألة الإغارة على محاصيل الفلّاحين فهي كذلك نتيجة تركة عثمانيّة في تهميش القبائل البدويّة وعدم إخضاعهم للسّلطة المدنيّة في أقل الحاجات وهي تأمين المأكَل والمشرب، وفي مرحلة متأخرة ساعدت القبائل البدويّة في خروج العثمانيين من المناطق التي ذُكرت. تبقى مسألة طريق الحجّ والعلاقة البدويّة مع هذا الموسم، وهنا يمكن أن تُحاك الأساطير، وتُروى الأقاويل؛ فالحجّ فَرْشٌ معرفيّ للحكاية ببعديها الأسطوريّ والعجائبيّ، وليس بعيدًا من مشاهد مسلسل عاصي الزّند، والذي يحتوي على مشاهد قتل متنوّعة، نجد أحمد البُديري الحلّاق في كتابِهِ المشهور حوادِثُ دِمشق اليوميّة يصف مشهدًا يحمل من العجائبية والغرائبيّة ما يحمل، واصفًا هجوم البدو على قافلة الحجّ في حدود 1171 للهجرة، يصف البديري مشهد الهجوم: "حيث إنّ هذهِ الأفعال الّتي فُعلت في الحجّاج لا يفعلُها عبّاد النّيران: يشلّحونَ الرّجلَ، ويفتّشون تحتَ إبطِه، ودبره وفمه وتحت خصيتيه، وإن وجدوا الرّجل كبيرًا بطنه شقّوا بطنه وبقروه، ويدخلون أيديهم في دُبر الرّجال وفروجِ النِّساء، وقد كانت المرأة تضعُ الطّينَ على قبلها ودبرها؛ سترًا لعورتِها فيكشفونَه.. وحاصله: صدَرتْ عن العرب أمورٌ ما سُمعت من قديم الزمان ولا من عبّاد الأوثان والأصنام". ويضيف: "ثمّ أقامَ الحجّاج أربعةَ أيّامٍ جوعًا وعَطشًا لا ماء ولا زاد، ومنهم من مات وذلك بعدما شرب بعضُهم بول بعض، وما كفى جَوْرُ العُربان، بل زادَ عليهم جَوْر أهلِ مَعان، غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذابَ النيران".
يظهر البدوي في الدراما السورية دون مسوغات مقنعة، ففلي مسلسل "مربى العز" نراه يبحث عن الثأر دون أيّ تحمّل لتبعيّات الشرّ
وليس تحقيقًا في القولِ أنّ البُديريّ بالغ في وصف تلك الحادثة، وخصوصًا عندما خصّ بالذّكرِ بدو القطرانة، وهو يقصد عرب بني صخر بالتحديد، ومن كان في حلفهم، وهو هنا ينقل لنا صورة عدوانيّة للبدويّ، ولا يمكن إنكار الغارات المتكرّرة، ولكنها في صورة فرديّة أشبه بمجموعة من قطاع الطريق، ولكن ذاكرة الحجّ المشهورة والتي ذكرها البُديري تحمل أبعادًا سياسيّة الأولى بأنّ هذه الحادثة اتّهم فيها أسعد باشا (والي الشّام في تلك الفترة) وقد ذَكر البديري إنّ أسعد باشا اتفق مع مجموعة من البدو للإغارة على تلك القافلة؛ وذلك لأسباب تتعلّق بنقله من دمشق، وبعد التحقيق بالحادثة والتأكد من صلة أسعد باشا أعدم من قبل السلطات العثمانيّة. لم يُؤتَ بنص البديري كمقاربة على واقع الدراما ومصادرها بقدر ما تمثل هذه الكتابات والمرويّات مرجعًا للكتابة الدراميّة. بالرغم من وجود أعمال اختصت الحياة البدويّة وقدّمت نماذج للخير والعزّة والإباء، مثل المسلسلات البدويّة الأردنيّة.
أمّا في مسلسل مَرْبَى العِزّ فقد كانت صورة البدوِيّ مغايرة لعاصي الزّند، وذلك في حدود الحُبكة الدراميّة والتي يمكن حصرها في صورة ذلك البدوِيّ الذي يطلب الثأر دون أيّ تحمّل لتبعيّات الشرّ، وهذه الصّورة أيضًا صورة نمطيّة متوارثة لها دلالات اجتماعيّة في عصور متنوّعة، وقد عولجت دراميًّا في مَرْبَى العزّ على الرغم مِن بعد العشائر البدويّة من حارات دمشق، واقتصار تلك القبائل على حركة ترحّل وانتقال طلبًا لمرعى الحلال، وإن كانت هناك أحداث تتعلق بغارة القبائل البدويّة على حارات دمشق، فلا بدّ أن توضع في ظاهرة دراميّة وفق الصورة الحقيقية وليس الصورة المتخيّلة.