علمانيه
Secularism / Laicism - Laïcisme
العلمانية
العلمانية مذهب قانوني ـ سياسي يتميز بإقصاء النفوذ الديني عن الدولة. ولهذا المذهب جانب نظري فلسفي بوصفه نتاجاً للنظر العقلي، وجانب عملي بوصفه ينشأ عن جملة من الممارسات والإشكاليات التي تتصل بالعلاقة بين الدين والدولة، بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية، ومن ثَمَّ بين الإلهيات والإنسانيات.
والعلمانية لفظة عربية مستحدثة مقابلة لكلمتي laïcisme الفرنسية وlaizisms اللاتينية المتأخرة التي تعني العامي أو ابن الشعب؛ أي المدني غير المتعلم، مقابل كلمة clerc التي تعني رجل الدين. وهي مشتقة من العَالَم، وليس من العِلْم، ونقيضها الإكليريكية (نسبة إلى الإكليروس: طبقة رجال الدين)؛ مذهب من يقول بضرورة تدخل رجال الكهنوت في الشؤون العامة.
وتعني العلمانية من الناحية القانونية، عدم كفاءة الكنيسة في الشؤون العامة والمجال الزمني، كما تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة في المجال الروحي، فالحرية الدينية شرط أول ومطلق، وبانتفائه تنتفي العلمانية من أساسها. لكن هذا لايعني أن الدولة العلمانية دولة لا دينية، أو دولة تنكر الدين، بل هي دولة لاتميز ديناً من دين. أما فلسفياً، فهي تعني تأسيس حقل معرفي مستقل عن الغيبيات والافتراضات الإيمانية السابقة، أي مستقل عن المرجعيات المتعالية التي تعطي نفسها حق تنظيم العلم وتضع لحرية الفكر حدوداً تتنافى مع ماهية الفكر بالذات. فالعلمانية ليست إلحاداً، أو نفياً للاعتقاد، بل هي تحرير له من القيود الخارجية. وتاريخياً، تعد إشكالية العلمانية غربية، وفي المقام الأول فرنسية، ففي فرنسا صيغ المفهوم أول مرة، وعرف الصراع بين الدولة والكنيسة أكثر أشكاله ضراوة، فتطور، عبر فلسفة الأنوار وورثتها، فكر فلسفي معاد للدين أو لرجاله أو لكليهما معاً.
اقترنت العلمانية بتيارات العقلانية والحداثة، التي ظهرت في أوربا المسيحية بداية العصر الحديث، وخاصة منذ القرن السابع عشر، وقد شكلت ثقافة واسعة انتشرت في المجتمعات الأوربية، وتجلت في منظومة فكرية، اعتمدت على المنهج العلمي في تفسير الطبيعة و الكون ونشاط الإنسان وفاعليته في حركة المجتمعات وتطورها، واتخذت موقفاً مناوئاً إزاء الفكر والسلطة الكنسية، التي كانت تشكل الخلفية الثقافية والسياسية لنظام الإقطاع الذي كان يحتمي بكهنة الكنيسة وهيمنتها على عقول الناس والمجتمعات.
وفي ظل الثقافة العلمانية ظهرت الأفكار الفلسفية المتباينة، منها العقلانية، والمذاهب الطبيعية والوضعية والمادية والمثالية، ومفاهيم الدولة الحديثة الصناعية، ونظرية فصل السلطات، وفصل الدين عن الدولة والمجتمع المدني، ونشأت معها مفاهيم الحقوق والواجبات والديمقراطية وسيادة القانون والدساتير والأمة والقومية.
وقد أسهمت عوامل عدة في بلورة الفكر العلماني داخل النظام الإقطاعي الكنسي نفسه منها:
ـ إسهام مجتمعات المدن الناشئة في العصور الوسطى التي كانت تمتهن الحرف والصناعة، وكونت لاحقاً مجتمع البرجوازية الصناعية في بنى اجتماعية قابلة للتحديث ورفض النظام الاجتماعي والاقتصادي وثقافته القائمة.
ـ دعوات الإصلاح السياسي والتي كانت تظهر بين آونة وأخرى في إطار الصراع بين الكنيسة وبعض أمراء الإقطاع عند بعض المفكرين السياسيين، كالمفكر الشهير مكيافيللي[ر] الذي عادى السلطة الزمنية للكرسي المقدس، ولم يكتف بالدعوة إلى علمنة الدولة، بل أراد أن يخضع الدين بصورة كاملة لسلطة الأمير، ولذلك فقد فصل بين مدينة الله ومدينة البشر التي يقودها العقل البشري وحده، وصاغ فلسفة لا أخلاقية للسياسة لتبرير تمجيد الدولة وسلطان الأمير.
ـ دعوات الإصلاح الكنسي، التي كان أهمها دعوة مارتن لوثر، التي أدت إلى ظهور البروتستنتية، ومهدت لقيام كنائس قومية؛ أي كنائس مستقلة عن الزعامة المركزية البابوية وتابعة للأمير المحلي. وقد أدى تفتح الوعي البرجوازي وازدياد السلطة المطلقة للملوك والإمارات في مواجهة الكنيسة وتحدي سلطتها إلى بلورة الأفكار العلمانية في القرن السادس عشر. ففي فرنسا بالذات، تطور المذهب الأنغليكاني الذي يقر لكنيسة فرنسا باستقلال نسبي عن الكرسي البابوي، ولملوك فرنسا باستقلال مطلق في المجال التشريعي الزمني.
وقد ولّدَ ظهور التيارات العقلانية وفلسفة الأنوار في أواسط القرن الثامن عشر، نزعة ضاربة في عدائها للإكليريكية،لا على الصعيد النظري فحسب، بل كذلك على الصعيد العملي من خلال الإجراءات القانونية والاقتصادية التي اتخذتها الثورة الفرنسية ضد الكنيسة والسلك الكهنوتي. فعلى الصعيد النظري ـ الفلسفي، وجدت الأيديولوجيا العلمانية أو المعادية للإكليريكية خير ناطقين بلسانها في أشخاص مفكرين مشاهير، من أمثال روسو، داعية الدين الطبيعي، وفولتير الذي نادى بتوحيد السلطة الزمنية والدينية معاً في وحدة سياسية، والموسوعيين من أمثال مونتسكيو الذي دعا إلى مبدأ فصل السلطات، وديدرو ودالمبير، اللذين جعلا من المادة مبدأ أول، ومن الإنسان، لا الله، مركز الكون.
فضلاً عن ذلك فقد نشأت مذاهب سياسية واقتصادية كبرى كالمذهب الليبرالي، والراديكالي الذي انبثق عنه اتجاهات اشتراكية مادية و مثالية، ونظم الاشتراكية الإصلاحية والثورية.
كما تأسس المذهب الوضعي على يد سان سيمون وأوغست كونت، الذي يدعو إلى هيمنة العلم على السياسة، تحت شعار النظام والتقدم، وتكريس العلم منهجاً في الحياة مما أدى إلى ثورة في البنى الاجتماعية، والنهضة الاقتصادية، والتفتح الفكري والفني والرخاء المادي، والتحرر من ثقافة رجال الكنيسة وتسلطهم، وإحلال مفاهيم إنسانية لمصلحة الفرد في مجتمعه ومفاهيم سياسية تحصن حقوق الفرد وحرياته، وتنظم علاقاته مع السلطة والدولة في إطار الحق و الواجب.
وبهذا فرضت العلمانية نفسها في فرنسا، في شكل سياسي عام 1879، وباتت الغالبية في البرلمان للعلمانيين، وأمكن إصدار سلسلة من القوانين وضعت حداً شبه نهائي لتدخل الكنيسة في الشؤون العامة، فحل التشريع المدني بدل الكنسي في مجالات عدة، ولعل أهمها ميادين التعليم والأحوال الشخصية وإقرار الزواج المدني، مع كل ما يرتبط بذلك من تغيرات اجتماعية وتربوية، مما استتبع قطع العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان سنة 1904، وفي عام 1945 كرس الدستور الفرنسي بصورة نهائية علمانية الدولة، وإقرار فصل تام بين السلطة الدينية والسلطة السياسية.
وكانت إسبانيا من أسبق الدول الأوربية إلى إعلان علمانيتها بعد فرنسا، وذلك في ظل الحكم الجمهوري بين عامي 1868 و1876. أما في أمريكا، فعلى الرغم من الطابع الليبرالي والعقلاني لإعلان استقلال الولايات المتحدة في عام 1776، فإن المكسيك كانت هي السباقة إلى التكريس العلني لعلمانية الدولة منذ أواسط القرن التاسع عشر، كما كانت تركيا في عهد مصطفى كمال أتاتورك أول دولة إسلامية تتبنى العلمانية. وبالمقابل فإن الدولة اليهودية، أي إسرائيل، ماتزال بين سائر دول العالم أكثرها طائفية،لأنها جعلت من الدين نفسه قومية، ولم تتخذ لنفسها دستوراً لأن أي دستور معناه الحد من سلطة التوراة والشريعة الموسوية.
وباستثناء ما تبقى الدول الاشتراكية (رغم أنها لاتعد علمانية خالصة بسبب دعايتها الإلحادية)، يندر اليوم وجود أي دول أو دساتير علمانية خالصة، فالقانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية)، الصادر في عام 1949، يؤكد مثلاً أن «الشعب الألماني واعٍ لمسؤوليته أمام الله». ودساتير النرويج والسويد لاتبيح أن يكون رئيس الدولة غير بروتستنتي، كما لايبيح دستور إنكلترا أن يكون الملك غير أنغليكاني، أما دستور سويسرا الاتحادي الصادر عام 1874، فيعزز مبدأ سيطرة الدولة على الكنيسة، وهو أحد الأسباب التي جعلتها تمتنع عن التصديق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948. كذلك تشترط دساتير بعض الدول العربية والإسلامية التي أخذت بالحداثة أن يدين رئيس الدولة بدين الإسلام، وتنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.
ومع هذا فلم تقتصر العلمانية على الغرب وحسب، فسرعان ما تسربت أفكارها إلى الشرق، وكان لها تأثيرها في توجيه الأفكار الإصلاحية، فراجت بعض الدعوات للاقتداء بها والأخذ بما ينسجم مع روح الدين الإسلامي ومع التطور الاجتماعي. وقد أسهم كل من رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، وهما من أوائل المصلحين، في ذلك.
والشعار الذي طرحته العلمانية العربية هو الدعوة لقومية عربية يكون الرابط فيها اللغة لا الدين، وتكون القيم السائدة فيها هي القيم الإنسانية العالمية، لا القيم الدينية. من هنا كان توجه هذا التيار العلماني توجهاً اجتماعياً إنسانياً، فرض نظرة تجديدية للمجتمع ترتكز على مقومات سياسية ومعرفية جديدة. ومن أبرز الممثلين المسيحيين لهذا التيار العلماني القومي العربي بطرس البستاني وأديب إسحاق وأنطون سعادة وناصيف اليازجي وشبلي شميل وفرح أنطون وأمين الريحاني وغيرهم. ورغم أن العلمانيين المسيحيين كانوا السباقين لطرح موضوعاتهم ضمن هذا الإطار العلماني بفعل أوضاعهم الاجتماعية وبفضل اطلاعهم على الأفكار الأوربية التي احتضنت هذا الاتجاه، إلا أن ثمة تيارات عريضة من العلمانيين المسلمين قد شقت طريقها وسط فكر عصر النهضة، متحدية بذلك الاتجاهات المحافظة والتقليدية، ودعت إلى مزيد من الحرية والعلم والتربية، أمثال عبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين، أبرز رواد التربية الحديثة. وقد ترافقت دعوة قاسم أمين هذه مع دعوة إصلاحية مماثلة، قال بها محمد عبده ودعت إلى تحرير العقل من قيود التقليد ومهدت بذلك لتقبل الإصلاحات السياسية، بيد أن دعوة أمين كانت أكثر برمجة وتحديداً، إذ أدرك أن العلم وحده هو الذي يحرر الإنسان من الخوف والجهل، ويمنحه الحرية الفردية وحق التعبير بحرية عن معتقداته ومبادئه ونشر آرائه بعيداً عن أي مؤثرات دينية تقليدية، إضافة إلى النهوض بالمجتمع ومواكبة الحضارة والرقي والتقدم.
ولم يكن قاسم أمين النموذج الوحيد عن العلمانية العربية التي برزت في القرن العشرين، رغم تميزه، وذلك لتوسع الموضوعات التي طرحتها هذه العلمانية، ففي إطار التفكير القومي يبرز ساطع الحصري ممثلاً للقومية العلمانية، بنظريته المنهجية التي تبين أن روابط اللغة والتاريخ والثقافة المشتركة، وليس رابط الدين، هم أساس القومية العلمانية العربية. ومن الدعوات البارزة أيضاً في إطار العلمانية العربية دعوة علي عبد الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» إلى الفصل التام بين الدين والدولة. وكذلك دعوة طه حسين بمنهجه الشكي الذي طال به قسماً من المقدسات الإسلامية والقصص القرآنية، كما كان لدعوة إسماعيل مظهر النقدية في العلمانية الروحية ولدعوة عبد الرازق السنهوري في العلمانية التشريعية إضافة إلى العلمانيين شكيب أرسلان، ورفيق العظم، ومحمد حسنين هيكل وغيرهم، أثر كبير في المجتمع العربي، فما زالت أفكارهم تلقى اهتماماً بالغاً.
سامي هابيل
Secularism / Laicism - Laïcisme
العلمانية
العلمانية مذهب قانوني ـ سياسي يتميز بإقصاء النفوذ الديني عن الدولة. ولهذا المذهب جانب نظري فلسفي بوصفه نتاجاً للنظر العقلي، وجانب عملي بوصفه ينشأ عن جملة من الممارسات والإشكاليات التي تتصل بالعلاقة بين الدين والدولة، بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية، ومن ثَمَّ بين الإلهيات والإنسانيات.
والعلمانية لفظة عربية مستحدثة مقابلة لكلمتي laïcisme الفرنسية وlaizisms اللاتينية المتأخرة التي تعني العامي أو ابن الشعب؛ أي المدني غير المتعلم، مقابل كلمة clerc التي تعني رجل الدين. وهي مشتقة من العَالَم، وليس من العِلْم، ونقيضها الإكليريكية (نسبة إلى الإكليروس: طبقة رجال الدين)؛ مذهب من يقول بضرورة تدخل رجال الكهنوت في الشؤون العامة.
وتعني العلمانية من الناحية القانونية، عدم كفاءة الكنيسة في الشؤون العامة والمجال الزمني، كما تتضمن بالمقابل عدم كفاءة الدولة في المجال الروحي، فالحرية الدينية شرط أول ومطلق، وبانتفائه تنتفي العلمانية من أساسها. لكن هذا لايعني أن الدولة العلمانية دولة لا دينية، أو دولة تنكر الدين، بل هي دولة لاتميز ديناً من دين. أما فلسفياً، فهي تعني تأسيس حقل معرفي مستقل عن الغيبيات والافتراضات الإيمانية السابقة، أي مستقل عن المرجعيات المتعالية التي تعطي نفسها حق تنظيم العلم وتضع لحرية الفكر حدوداً تتنافى مع ماهية الفكر بالذات. فالعلمانية ليست إلحاداً، أو نفياً للاعتقاد، بل هي تحرير له من القيود الخارجية. وتاريخياً، تعد إشكالية العلمانية غربية، وفي المقام الأول فرنسية، ففي فرنسا صيغ المفهوم أول مرة، وعرف الصراع بين الدولة والكنيسة أكثر أشكاله ضراوة، فتطور، عبر فلسفة الأنوار وورثتها، فكر فلسفي معاد للدين أو لرجاله أو لكليهما معاً.
اقترنت العلمانية بتيارات العقلانية والحداثة، التي ظهرت في أوربا المسيحية بداية العصر الحديث، وخاصة منذ القرن السابع عشر، وقد شكلت ثقافة واسعة انتشرت في المجتمعات الأوربية، وتجلت في منظومة فكرية، اعتمدت على المنهج العلمي في تفسير الطبيعة و الكون ونشاط الإنسان وفاعليته في حركة المجتمعات وتطورها، واتخذت موقفاً مناوئاً إزاء الفكر والسلطة الكنسية، التي كانت تشكل الخلفية الثقافية والسياسية لنظام الإقطاع الذي كان يحتمي بكهنة الكنيسة وهيمنتها على عقول الناس والمجتمعات.
وفي ظل الثقافة العلمانية ظهرت الأفكار الفلسفية المتباينة، منها العقلانية، والمذاهب الطبيعية والوضعية والمادية والمثالية، ومفاهيم الدولة الحديثة الصناعية، ونظرية فصل السلطات، وفصل الدين عن الدولة والمجتمع المدني، ونشأت معها مفاهيم الحقوق والواجبات والديمقراطية وسيادة القانون والدساتير والأمة والقومية.
وقد أسهمت عوامل عدة في بلورة الفكر العلماني داخل النظام الإقطاعي الكنسي نفسه منها:
ـ إسهام مجتمعات المدن الناشئة في العصور الوسطى التي كانت تمتهن الحرف والصناعة، وكونت لاحقاً مجتمع البرجوازية الصناعية في بنى اجتماعية قابلة للتحديث ورفض النظام الاجتماعي والاقتصادي وثقافته القائمة.
ـ دعوات الإصلاح السياسي والتي كانت تظهر بين آونة وأخرى في إطار الصراع بين الكنيسة وبعض أمراء الإقطاع عند بعض المفكرين السياسيين، كالمفكر الشهير مكيافيللي[ر] الذي عادى السلطة الزمنية للكرسي المقدس، ولم يكتف بالدعوة إلى علمنة الدولة، بل أراد أن يخضع الدين بصورة كاملة لسلطة الأمير، ولذلك فقد فصل بين مدينة الله ومدينة البشر التي يقودها العقل البشري وحده، وصاغ فلسفة لا أخلاقية للسياسة لتبرير تمجيد الدولة وسلطان الأمير.
ـ دعوات الإصلاح الكنسي، التي كان أهمها دعوة مارتن لوثر، التي أدت إلى ظهور البروتستنتية، ومهدت لقيام كنائس قومية؛ أي كنائس مستقلة عن الزعامة المركزية البابوية وتابعة للأمير المحلي. وقد أدى تفتح الوعي البرجوازي وازدياد السلطة المطلقة للملوك والإمارات في مواجهة الكنيسة وتحدي سلطتها إلى بلورة الأفكار العلمانية في القرن السادس عشر. ففي فرنسا بالذات، تطور المذهب الأنغليكاني الذي يقر لكنيسة فرنسا باستقلال نسبي عن الكرسي البابوي، ولملوك فرنسا باستقلال مطلق في المجال التشريعي الزمني.
وقد ولّدَ ظهور التيارات العقلانية وفلسفة الأنوار في أواسط القرن الثامن عشر، نزعة ضاربة في عدائها للإكليريكية،لا على الصعيد النظري فحسب، بل كذلك على الصعيد العملي من خلال الإجراءات القانونية والاقتصادية التي اتخذتها الثورة الفرنسية ضد الكنيسة والسلك الكهنوتي. فعلى الصعيد النظري ـ الفلسفي، وجدت الأيديولوجيا العلمانية أو المعادية للإكليريكية خير ناطقين بلسانها في أشخاص مفكرين مشاهير، من أمثال روسو، داعية الدين الطبيعي، وفولتير الذي نادى بتوحيد السلطة الزمنية والدينية معاً في وحدة سياسية، والموسوعيين من أمثال مونتسكيو الذي دعا إلى مبدأ فصل السلطات، وديدرو ودالمبير، اللذين جعلا من المادة مبدأ أول، ومن الإنسان، لا الله، مركز الكون.
فضلاً عن ذلك فقد نشأت مذاهب سياسية واقتصادية كبرى كالمذهب الليبرالي، والراديكالي الذي انبثق عنه اتجاهات اشتراكية مادية و مثالية، ونظم الاشتراكية الإصلاحية والثورية.
كما تأسس المذهب الوضعي على يد سان سيمون وأوغست كونت، الذي يدعو إلى هيمنة العلم على السياسة، تحت شعار النظام والتقدم، وتكريس العلم منهجاً في الحياة مما أدى إلى ثورة في البنى الاجتماعية، والنهضة الاقتصادية، والتفتح الفكري والفني والرخاء المادي، والتحرر من ثقافة رجال الكنيسة وتسلطهم، وإحلال مفاهيم إنسانية لمصلحة الفرد في مجتمعه ومفاهيم سياسية تحصن حقوق الفرد وحرياته، وتنظم علاقاته مع السلطة والدولة في إطار الحق و الواجب.
وبهذا فرضت العلمانية نفسها في فرنسا، في شكل سياسي عام 1879، وباتت الغالبية في البرلمان للعلمانيين، وأمكن إصدار سلسلة من القوانين وضعت حداً شبه نهائي لتدخل الكنيسة في الشؤون العامة، فحل التشريع المدني بدل الكنسي في مجالات عدة، ولعل أهمها ميادين التعليم والأحوال الشخصية وإقرار الزواج المدني، مع كل ما يرتبط بذلك من تغيرات اجتماعية وتربوية، مما استتبع قطع العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان سنة 1904، وفي عام 1945 كرس الدستور الفرنسي بصورة نهائية علمانية الدولة، وإقرار فصل تام بين السلطة الدينية والسلطة السياسية.
وكانت إسبانيا من أسبق الدول الأوربية إلى إعلان علمانيتها بعد فرنسا، وذلك في ظل الحكم الجمهوري بين عامي 1868 و1876. أما في أمريكا، فعلى الرغم من الطابع الليبرالي والعقلاني لإعلان استقلال الولايات المتحدة في عام 1776، فإن المكسيك كانت هي السباقة إلى التكريس العلني لعلمانية الدولة منذ أواسط القرن التاسع عشر، كما كانت تركيا في عهد مصطفى كمال أتاتورك أول دولة إسلامية تتبنى العلمانية. وبالمقابل فإن الدولة اليهودية، أي إسرائيل، ماتزال بين سائر دول العالم أكثرها طائفية،لأنها جعلت من الدين نفسه قومية، ولم تتخذ لنفسها دستوراً لأن أي دستور معناه الحد من سلطة التوراة والشريعة الموسوية.
وباستثناء ما تبقى الدول الاشتراكية (رغم أنها لاتعد علمانية خالصة بسبب دعايتها الإلحادية)، يندر اليوم وجود أي دول أو دساتير علمانية خالصة، فالقانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية)، الصادر في عام 1949، يؤكد مثلاً أن «الشعب الألماني واعٍ لمسؤوليته أمام الله». ودساتير النرويج والسويد لاتبيح أن يكون رئيس الدولة غير بروتستنتي، كما لايبيح دستور إنكلترا أن يكون الملك غير أنغليكاني، أما دستور سويسرا الاتحادي الصادر عام 1874، فيعزز مبدأ سيطرة الدولة على الكنيسة، وهو أحد الأسباب التي جعلتها تمتنع عن التصديق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948. كذلك تشترط دساتير بعض الدول العربية والإسلامية التي أخذت بالحداثة أن يدين رئيس الدولة بدين الإسلام، وتنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.
ومع هذا فلم تقتصر العلمانية على الغرب وحسب، فسرعان ما تسربت أفكارها إلى الشرق، وكان لها تأثيرها في توجيه الأفكار الإصلاحية، فراجت بعض الدعوات للاقتداء بها والأخذ بما ينسجم مع روح الدين الإسلامي ومع التطور الاجتماعي. وقد أسهم كل من رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، وهما من أوائل المصلحين، في ذلك.
والشعار الذي طرحته العلمانية العربية هو الدعوة لقومية عربية يكون الرابط فيها اللغة لا الدين، وتكون القيم السائدة فيها هي القيم الإنسانية العالمية، لا القيم الدينية. من هنا كان توجه هذا التيار العلماني توجهاً اجتماعياً إنسانياً، فرض نظرة تجديدية للمجتمع ترتكز على مقومات سياسية ومعرفية جديدة. ومن أبرز الممثلين المسيحيين لهذا التيار العلماني القومي العربي بطرس البستاني وأديب إسحاق وأنطون سعادة وناصيف اليازجي وشبلي شميل وفرح أنطون وأمين الريحاني وغيرهم. ورغم أن العلمانيين المسيحيين كانوا السباقين لطرح موضوعاتهم ضمن هذا الإطار العلماني بفعل أوضاعهم الاجتماعية وبفضل اطلاعهم على الأفكار الأوربية التي احتضنت هذا الاتجاه، إلا أن ثمة تيارات عريضة من العلمانيين المسلمين قد شقت طريقها وسط فكر عصر النهضة، متحدية بذلك الاتجاهات المحافظة والتقليدية، ودعت إلى مزيد من الحرية والعلم والتربية، أمثال عبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين، أبرز رواد التربية الحديثة. وقد ترافقت دعوة قاسم أمين هذه مع دعوة إصلاحية مماثلة، قال بها محمد عبده ودعت إلى تحرير العقل من قيود التقليد ومهدت بذلك لتقبل الإصلاحات السياسية، بيد أن دعوة أمين كانت أكثر برمجة وتحديداً، إذ أدرك أن العلم وحده هو الذي يحرر الإنسان من الخوف والجهل، ويمنحه الحرية الفردية وحق التعبير بحرية عن معتقداته ومبادئه ونشر آرائه بعيداً عن أي مؤثرات دينية تقليدية، إضافة إلى النهوض بالمجتمع ومواكبة الحضارة والرقي والتقدم.
ولم يكن قاسم أمين النموذج الوحيد عن العلمانية العربية التي برزت في القرن العشرين، رغم تميزه، وذلك لتوسع الموضوعات التي طرحتها هذه العلمانية، ففي إطار التفكير القومي يبرز ساطع الحصري ممثلاً للقومية العلمانية، بنظريته المنهجية التي تبين أن روابط اللغة والتاريخ والثقافة المشتركة، وليس رابط الدين، هم أساس القومية العلمانية العربية. ومن الدعوات البارزة أيضاً في إطار العلمانية العربية دعوة علي عبد الرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» إلى الفصل التام بين الدين والدولة. وكذلك دعوة طه حسين بمنهجه الشكي الذي طال به قسماً من المقدسات الإسلامية والقصص القرآنية، كما كان لدعوة إسماعيل مظهر النقدية في العلمانية الروحية ولدعوة عبد الرازق السنهوري في العلمانية التشريعية إضافة إلى العلمانيين شكيب أرسلان، ورفيق العظم، ومحمد حسنين هيكل وغيرهم، أثر كبير في المجتمع العربي، فما زالت أفكارهم تلقى اهتماماً بالغاً.
سامي هابيل