عماد حنبلي ()
Ibn al-Imad al-Hanbali - Ibn al-Imad al-Hanbali
ابن العماد الحنبلي
(1032ـ 1089هـ/1623ـ 1679م)
أبو الفلاح، عبد الحي بن أحمد بن محمد بن العماد العكري الدمشقي الحنبلي، العلامة الأديب المؤرخ الأخباري، المعروف بـ(ابن العماد الحنبلي)، ولد في صالحية دمشق زمن الدولة العثمانية، وفي أيام عزّها وقوتها، ونشأ بها، وقرأ القرآن الكريم على بعض الشيوخ، وطلب العلم مشمّراً عن ساعد الجد والاجتهاد، فأخذ عن أعلام الأشياخ وأجلّهم الشيخ أيوب الخلْوَتي الصوفي. وتلقى الفقه قراءة وأخذاً عن ابن فقيه فُصَّة مفتي الحنابلة بالشام في عصره، وعن الشيخ شمس الدين بن بلبان. رحل إلى القاهرة وأقام بها مدة طويلة، فأخذ العلم عن الشيخ سلطان المزّاحيّ، والشيخ النور الشبْراملّسي والشيخ شمس الدّين البابليّ، والشيخ شهاب الدّين القليوبي، وغيرهم من الشيوخ. ثم عاد إلى دمشق ولزم الإفادة والتدريس، وانتفع به كثير من أبناء عصره، وفيهم العلاّمة محمد أمين بن فضل الله المحبي صاحب «خلاصة الأثر» والشيخ عثمان بن أحمد بن عثمان النجدي الحنبلي، والشيخ مصطفى الحموي والشيخ عبد القادر البصري.
قال المحبّي في معرض ترجمته له في «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر»: «وكان مع كثرة امتزاجه بالأدب وأربابه، مائلاً بالطبع إلى نظم الشعر، إلا أنه لم يتفق له نظم شيء وفيما علمته منه، ثم أخبرني بعض الإخوان، أنه رأى في المنام كأنه ينشد هذين البيتين ـ قالوا وأظن أنهما له ـ:
كُنت في لُجة المعَاصي غريقاً
لم يصلني يد تروم خَلاصي
أنقذتني يد العناية منها
بعد ظني أن لات حين مناصِ»
«…، وكنت لقيته في عنفوان عمري وتلمذت له وأخذت عنه، وكنت أرى لُقيته فائدة أكتسبها، وجملة فخرٍ لا أتعدّاها، فلزمته حتى قرأت عليه الصرف والحساب، وكان يتحفني بفوائد جليلة ويلقيها عليّ، وحباني الدهر مدة بمجالسته، فلم يزل يتردد إليّ تردد الآسي إلى المريض، حتى قدّر الله تعالى لي الرحلة عن وطني إلى ديار الروم، وطالت مدة غيبتي وأنا أشوق عليه من كل شيقٍ، حتى ورد عليّ خبر موته وأنا بها، فتجددت لوعتي أسفاً على ماضي عهوده، وحزناً على فقد فضائله وآدابه».
وقد خلف ابن العماد الحنبلي مصنفات عدة في علوم مختلفة، منها: «بغية أولي النهى في شرح المنتهى»، شرح فيه كتاب «منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات» للعلاّمة تقي الدين أبي البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الشهير بابن النجار، و«شرح بديعية ابن حجّة الحموي» الشهيرة التي مطلعها:
لي في ابتدا مَدْحِكمْ يا عُرب ذي سَلَم
براعةٌ تستهلُّ الدّمـــعَ في العَلمِ
و«معطية الأمان من حنث الأيمان» وهو في الفقه، و«شذرات الذهب في أخبار من ذهب» وهو واسطة العقد من مؤلفاته وأفضلها وعليه قامت شهرته، ويعد من أهم مصنفات التاريخ الإسلامي المختصرة، وقد استطاع أن يؤرخ فيه أحداث القرون الهجرية العشرة الأولى بتمامها وكمالها، كالحروب والغزوات والمعارك والتراجم لأعلام الزمان، وبه نحو العشرة آلاف ترجمة؛ لفقهاء ومُحدثين وأدباء وشعراء وقراء، وخلفاء ووزراء، وسواهم، ويمتاز «شذرات الذهب» من غيره من كتب التاريخ الإسلامي الأخرى التي سبقته كـ«الكامل في التاريخ» لعز الدين بن الأثير، و«تاريخ الإسلام» للذهبي، و«البداية والنهاية» لابن كثير، بأمرين اثنين:
أولهما: كونه يؤرخ من السنة الأولى إلى سنة ألف للهجرة، مما جعله من أوسع كتب التاريخ الإسلامي المختصرة.
وثانيهما: صفة الحياد التي حاول ابن العماد التمسك بها في المواطن ذات الأحداث الأليمة التي شهدها التاريخ الإسلامي، ولاسيما في القرن الأول الهجري، ولايخفى على الدارسين أن صفة الحياد إن وجدت لدى المؤرخ فإنها تعزز كلامه وتجعل كتابه مصدر ثقة لكل باحث أو ناقل، والقارئ لكتاب «شذرات الذهب» يجد فيه فوائد تتصل بالأحداث والتراجم، لايقف عليها في غيره من المصادر إلا بعد تتبع واستقراء كبيرين، ولقد عني ابن العماد عناية خاصة بتدوين تراجم المحدثين من رجال القرون العشرة التي استوعبها كتابه، فقدم للمشتغلين بخدمة الحديث النبوي الشريف فوائد قيّمة، كما احتوى على أبيات شعرية كثيرة لم ترد في دواوين أصحابها المطبوعة؛ لوقوفه على نسخ نفيسة تامة من تلك الدواوين، وعدد الأبيات الشعرية الواردة في كتابه المذكور تشكل بمجموعها ديواناً كبيراً متنوعاً من دواوين الشعر العربي في أيام عزّه وعلو مكانته. وهناك أمر مهم تجدر الإشارة إليه، وهو أن ابن العماد الحنبلي لم يكن يعتمد في تدوين ما دوّنه في «شذرات الذهب» على النقل من غير تدقيق ولا تمحيص، بل كان يمحّص المصادر التي نقل عنها تمحيصاً يدل على تعمقه في فهم التأريخ، فكان صاحب قدم راسخة في فنّ التأريخ وكتابة التراجم. وقد أعانه على ذلك إلمامه بفنون أخرى، وتمكنه من علوم العربية مما جعل عبارته في كتابه رصينة متينة.
توفى حين أدائه فريضة الحج، فدفن في مكة المكرمة.
محمود الأرناؤوط
Ibn al-Imad al-Hanbali - Ibn al-Imad al-Hanbali
ابن العماد الحنبلي
(1032ـ 1089هـ/1623ـ 1679م)
أبو الفلاح، عبد الحي بن أحمد بن محمد بن العماد العكري الدمشقي الحنبلي، العلامة الأديب المؤرخ الأخباري، المعروف بـ(ابن العماد الحنبلي)، ولد في صالحية دمشق زمن الدولة العثمانية، وفي أيام عزّها وقوتها، ونشأ بها، وقرأ القرآن الكريم على بعض الشيوخ، وطلب العلم مشمّراً عن ساعد الجد والاجتهاد، فأخذ عن أعلام الأشياخ وأجلّهم الشيخ أيوب الخلْوَتي الصوفي. وتلقى الفقه قراءة وأخذاً عن ابن فقيه فُصَّة مفتي الحنابلة بالشام في عصره، وعن الشيخ شمس الدين بن بلبان. رحل إلى القاهرة وأقام بها مدة طويلة، فأخذ العلم عن الشيخ سلطان المزّاحيّ، والشيخ النور الشبْراملّسي والشيخ شمس الدّين البابليّ، والشيخ شهاب الدّين القليوبي، وغيرهم من الشيوخ. ثم عاد إلى دمشق ولزم الإفادة والتدريس، وانتفع به كثير من أبناء عصره، وفيهم العلاّمة محمد أمين بن فضل الله المحبي صاحب «خلاصة الأثر» والشيخ عثمان بن أحمد بن عثمان النجدي الحنبلي، والشيخ مصطفى الحموي والشيخ عبد القادر البصري.
قال المحبّي في معرض ترجمته له في «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر»: «وكان مع كثرة امتزاجه بالأدب وأربابه، مائلاً بالطبع إلى نظم الشعر، إلا أنه لم يتفق له نظم شيء وفيما علمته منه، ثم أخبرني بعض الإخوان، أنه رأى في المنام كأنه ينشد هذين البيتين ـ قالوا وأظن أنهما له ـ:
كُنت في لُجة المعَاصي غريقاً
لم يصلني يد تروم خَلاصي
أنقذتني يد العناية منها
بعد ظني أن لات حين مناصِ»
«…، وكنت لقيته في عنفوان عمري وتلمذت له وأخذت عنه، وكنت أرى لُقيته فائدة أكتسبها، وجملة فخرٍ لا أتعدّاها، فلزمته حتى قرأت عليه الصرف والحساب، وكان يتحفني بفوائد جليلة ويلقيها عليّ، وحباني الدهر مدة بمجالسته، فلم يزل يتردد إليّ تردد الآسي إلى المريض، حتى قدّر الله تعالى لي الرحلة عن وطني إلى ديار الروم، وطالت مدة غيبتي وأنا أشوق عليه من كل شيقٍ، حتى ورد عليّ خبر موته وأنا بها، فتجددت لوعتي أسفاً على ماضي عهوده، وحزناً على فقد فضائله وآدابه».
وقد خلف ابن العماد الحنبلي مصنفات عدة في علوم مختلفة، منها: «بغية أولي النهى في شرح المنتهى»، شرح فيه كتاب «منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات» للعلاّمة تقي الدين أبي البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الشهير بابن النجار، و«شرح بديعية ابن حجّة الحموي» الشهيرة التي مطلعها:
لي في ابتدا مَدْحِكمْ يا عُرب ذي سَلَم
براعةٌ تستهلُّ الدّمـــعَ في العَلمِ
و«معطية الأمان من حنث الأيمان» وهو في الفقه، و«شذرات الذهب في أخبار من ذهب» وهو واسطة العقد من مؤلفاته وأفضلها وعليه قامت شهرته، ويعد من أهم مصنفات التاريخ الإسلامي المختصرة، وقد استطاع أن يؤرخ فيه أحداث القرون الهجرية العشرة الأولى بتمامها وكمالها، كالحروب والغزوات والمعارك والتراجم لأعلام الزمان، وبه نحو العشرة آلاف ترجمة؛ لفقهاء ومُحدثين وأدباء وشعراء وقراء، وخلفاء ووزراء، وسواهم، ويمتاز «شذرات الذهب» من غيره من كتب التاريخ الإسلامي الأخرى التي سبقته كـ«الكامل في التاريخ» لعز الدين بن الأثير، و«تاريخ الإسلام» للذهبي، و«البداية والنهاية» لابن كثير، بأمرين اثنين:
أولهما: كونه يؤرخ من السنة الأولى إلى سنة ألف للهجرة، مما جعله من أوسع كتب التاريخ الإسلامي المختصرة.
وثانيهما: صفة الحياد التي حاول ابن العماد التمسك بها في المواطن ذات الأحداث الأليمة التي شهدها التاريخ الإسلامي، ولاسيما في القرن الأول الهجري، ولايخفى على الدارسين أن صفة الحياد إن وجدت لدى المؤرخ فإنها تعزز كلامه وتجعل كتابه مصدر ثقة لكل باحث أو ناقل، والقارئ لكتاب «شذرات الذهب» يجد فيه فوائد تتصل بالأحداث والتراجم، لايقف عليها في غيره من المصادر إلا بعد تتبع واستقراء كبيرين، ولقد عني ابن العماد عناية خاصة بتدوين تراجم المحدثين من رجال القرون العشرة التي استوعبها كتابه، فقدم للمشتغلين بخدمة الحديث النبوي الشريف فوائد قيّمة، كما احتوى على أبيات شعرية كثيرة لم ترد في دواوين أصحابها المطبوعة؛ لوقوفه على نسخ نفيسة تامة من تلك الدواوين، وعدد الأبيات الشعرية الواردة في كتابه المذكور تشكل بمجموعها ديواناً كبيراً متنوعاً من دواوين الشعر العربي في أيام عزّه وعلو مكانته. وهناك أمر مهم تجدر الإشارة إليه، وهو أن ابن العماد الحنبلي لم يكن يعتمد في تدوين ما دوّنه في «شذرات الذهب» على النقل من غير تدقيق ولا تمحيص، بل كان يمحّص المصادر التي نقل عنها تمحيصاً يدل على تعمقه في فهم التأريخ، فكان صاحب قدم راسخة في فنّ التأريخ وكتابة التراجم. وقد أعانه على ذلك إلمامه بفنون أخرى، وتمكنه من علوم العربية مما جعل عبارته في كتابه رصينة متينة.
توفى حين أدائه فريضة الحج، فدفن في مكة المكرمة.
محمود الأرناؤوط