هارتموت فاندريتش: عابر بين ضفتين ترجم 75 كتابًا عربيًّا
سليمان بختي 14 أبريل 2023
هنا/الآن
شارك هذا المقال
حجم الخط
التقيته في بيروت قادمًا من معرض القاهرة الدولي للكتاب. يسأل عن روايات جديدة صدرت في بيروت للترجمة، وكأنه يبحث عن ضالة. يعرف الترجمان الألماني هارتموت فاندريتش مدينة بيروت من الزاوية الأبهى، زاوية الكلمة والأدب والإبداع. يدخل فاندريتش في أعماق السياق العام للمثل العليا والسمو والتواصل الذي تحققه الترجمة ودورها الفذ في العالم.
يقف بين أقرانه المترجمين كألوان قوس قزح، ليقول إن المترجم هو الوسيط الحضاري بين المجتمعات المختفلة الألسن والثقافات والألوان والمذاقات.
سألته غير مرة على هامش إحدى الندوات عن تاريخ علاقته بترجمة الأدب العربي المعاصر، فقال: منذ 1982، مع رواية "الصبار" لسحر خليفة. والآن في 2023 رواية "طوق الحمام" لسحر خليفة، ولم أزل أحاول. وماذا عن العدد؟ فأجاب: 75 بين رواية وقصة. وآخر ما صدر له كان أنطولوجيا في موضوع مشاكل الشباب في نصوص الأدباء والروائيين العرب.
هو من مواليد 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1944 في توبنغن في ألمانيا، حيث أنهى دراسته الابتدائية والثانوية. بدأ التخصص في الدراسات الإسلامية والفلسفة والأدب العربي المقارن في جامعات توبنغن ومونستر (ألمانيا)، وUCLA، وفيلادلفيا (الولايات المتحدة). نال الماجستير في الأدب المقارن من جامعة CLA عام 1971 والدكتوراة من الجامعة عينها في الدراسات الإسلامية ـ الأدب العربي الكلاسيكي عام 1972. عمل في ما بعد على مشروع بحثي حول تاريخ الطب في العالم الإسلامي. مارس التعليم الجامعي أستاذًا متفرغًا وزائرًا في جامعات برن، وإسطنبول، والمعهد التكنولوجي في زوريخ، وفرايبورغ، ونابولي، وجامعة ليون الثانية. منذ عام 1984 حتى 2010 هو محرر مجموعة الأدب العربي في دار نشر لينوس في بازل في سويسرا، وهناك ترجم كثيرًا من العناوين من عيون الأدب العربي المعاصر. حاز على جائزة الترجمة في مدينة برن مرتين 1988، لترجمته رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم (1996)، ولترجمته رواية "التبر" لإبراهيم الكوني. حائز على "خاتم جيروم" من الجمعية الألمانية للمترجمين. في عام 1988، تلقى منحة من مدينة وكانتون برن لترجمته رواية "المجوس" لإبراهيم الكوني. وعام 2004، فاز بالجائزة الأدبية للاتحاد العربي للترجمة، لترجمته الأدب العربي المعاصر إلى الألمانية. وفي عام 2005، حاز على جائزة كانتون برن لترجمته أعمال إبراهيم الكوني إلى الألمانية. وفي عام 2006، حاز على التكريم من المجلس الأعلى للثقافة المصرية ووزارة الثقافة المصرية في القاهرة لجهوده التي قدمها في ترجمة الأدب العربي المعاصر إلى الألمانية. في عام 2008 كان عضوًا في جائزة بوكر الدولية للرواية العربية. نال عام 2009 جائزة عبدالله بن عبدالعزيز الدولية للترجمة (المملكة العربية السعودية). أسس وشارك في تنظيم عدد من المؤتمرات الأكاديمية المتعلقة بالحضارة العربية. كما شارك في تأسيس المشروع الأوروبي لترجمة الأدب العربي تحت عنوان "ذاكرة المتوسط".
ذات مرة، سئل الروائي الكولومبي غبريال غارسيا ماركيز عن دور المترجم وأهميته فقال: "إنه روحي الثانية". أراد هارتموت فاندريتش، كما يقول، أن يكون روحًا ثانية لنجيب محفوظ، ولإبراهيم الكوني، وعلاء الأسواني، وغسان كنفاني، وسحر خليفة، وزكريا تامر، وصنع الله إبراهيم، وجمال الغيطاني، وإدوار الخراط، وإميلي نصر الله، ورشيد الضعيف، وخالد زيادة، وحنان الشيخ، وإيمان حميدان يونس، ورجاء عالم، وسلوى بكر، ومنصورة عز الدين، وشادي لويس، وسحر مندور، وفوزي ذبيان، وغيرهم. ربما لا يتذكر هارتموت فاندريتش عدد زياراته إلى العالم العربي، ولكنه منذ الزيارة الأولى صدم بما رأى، ووقع في حب ما رأى. وأحسب أنه لا يزال أسير الصدمة وعليل الحب وعاشق اللغة. ولكنه وجد أمرًا أثيرًا، وجد أن الكتب وسيلة رائعة للتواصل الحضاري ولتبادل الأفكار والهموم والهواجس. ووجد في الروايات العربية رموزًا للحياة الإشكالية العربية. وجد في كتبهم الأفكار والأحلام والمخاوف وتعبيرات الوجود. وجد في أدبنا شيئًا غير النفط، وغير الإرهاب، وغير الغواية والإستشراق. وجد إمكانية عرض مساحة من مساحات المجتمع الذي ينطلق منه هذا الأدب.
قرر فاندريتش أن الشرق والغرب يلتقيان بالثقافة والإنسان، وراح ينقل النص من ضفة إلى ضفة، وأحيانًا إعادة خلقه بلغة جديدة ناصعة؛ "ما أترجمه يصف للقراء الأوروبيين عالم جيرانهم العرب"، يقول. جميل أن نرى صورتنا الألمانية في العين وفي القلب، وفي ذلك الشغف المستدام والعزلة المستنيرة، وأيضًا في النزاهة والأمانة والموضوعية التي ميزت اختيارات فاندريتش وترجماته. كشاف مثابر هو هارتموت يمشي في العالم العربي ومدنه ودساكره ويلتقط الرواية التي تجذبه من الإيقاع العام ويدفعها في طرق جديدة وآفاق جديدة. وهو في ذلك إنما يمشي على خطى أسلافه الذين ترجموا في طليطلة ـ إسبانيا في القرن الثاني عشر، ومنها إلى برشلونة، وتولوز، وبادوفا، وشكلت هذه الترجمات مرتكزًا أساسيًا للنهضة في الغرب.
75 عملًا مترجمًا ولم يزل يأكل ويشرب ويمشي على قدميه ويلوّح بالجديد الآتي في هذا المعنى: ظاهرة، مؤسسة. أما ماذا ترجم؟ ولماذا ترجم؟ وكيف ترجم؟ ولمن ترجم؟ فهذه أسئلة راحت تتهاوى تحت سنابك الكتب العربية التي طلعت إلى الضوء وانوجدت في الضفة الأخرى.
فتح هارتموت فاندريتش الباب أمام الأرواح والكلمات والنفوس لتتلاقى وتحلق أبعد من اللغات. زحزح الباب العملاق بدأب النملة ونشاط النحلة والإرادة الحية والضمير الميزان.
سألته كيف يصف المترجم ويراه؟ أهو الروح الثانية، بحسب ماركيز، أم الخائن، أم الجسر؟ أجاب: "شأن الترجمة شأن غريب. الأرواح تتعدد، والخيانات كذلك، ولكن الشغف يبقى. الحجر شيء صلب، شيء جليد، شيء جماد، لا يتحرك، لا يحس، أفضل على ذلك استعارة القديس كريستوفر، أي عابر النهر الذي يحمل الناس على كتفيه، ويعبر من ضفة إلى الضفة الأخرى. وخلال العبور يصبح الحمل أثقل فأثقل، ولا يصل إلى الضفة إلا بمشقة وجهد. هذا هو وضع المترجم، العابر بين الضفتين".
يبحث هارتموت فاندريتش عن روايات تستحق الجهد والمغامرة والمشقة. وتستحيل مع النهر والضفتين والعابر الحامل صورة لجوهر واحد وجديد.
قلت له أخيرًا: متى تكتب روايتك يا هارتموت؟ ابتسم وقال "أنا ترجمان".
سليمان بختي 14 أبريل 2023
هنا/الآن
شارك هذا المقال
حجم الخط
التقيته في بيروت قادمًا من معرض القاهرة الدولي للكتاب. يسأل عن روايات جديدة صدرت في بيروت للترجمة، وكأنه يبحث عن ضالة. يعرف الترجمان الألماني هارتموت فاندريتش مدينة بيروت من الزاوية الأبهى، زاوية الكلمة والأدب والإبداع. يدخل فاندريتش في أعماق السياق العام للمثل العليا والسمو والتواصل الذي تحققه الترجمة ودورها الفذ في العالم.
يقف بين أقرانه المترجمين كألوان قوس قزح، ليقول إن المترجم هو الوسيط الحضاري بين المجتمعات المختفلة الألسن والثقافات والألوان والمذاقات.
سألته غير مرة على هامش إحدى الندوات عن تاريخ علاقته بترجمة الأدب العربي المعاصر، فقال: منذ 1982، مع رواية "الصبار" لسحر خليفة. والآن في 2023 رواية "طوق الحمام" لسحر خليفة، ولم أزل أحاول. وماذا عن العدد؟ فأجاب: 75 بين رواية وقصة. وآخر ما صدر له كان أنطولوجيا في موضوع مشاكل الشباب في نصوص الأدباء والروائيين العرب.
هو من مواليد 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1944 في توبنغن في ألمانيا، حيث أنهى دراسته الابتدائية والثانوية. بدأ التخصص في الدراسات الإسلامية والفلسفة والأدب العربي المقارن في جامعات توبنغن ومونستر (ألمانيا)، وUCLA، وفيلادلفيا (الولايات المتحدة). نال الماجستير في الأدب المقارن من جامعة CLA عام 1971 والدكتوراة من الجامعة عينها في الدراسات الإسلامية ـ الأدب العربي الكلاسيكي عام 1972. عمل في ما بعد على مشروع بحثي حول تاريخ الطب في العالم الإسلامي. مارس التعليم الجامعي أستاذًا متفرغًا وزائرًا في جامعات برن، وإسطنبول، والمعهد التكنولوجي في زوريخ، وفرايبورغ، ونابولي، وجامعة ليون الثانية. منذ عام 1984 حتى 2010 هو محرر مجموعة الأدب العربي في دار نشر لينوس في بازل في سويسرا، وهناك ترجم كثيرًا من العناوين من عيون الأدب العربي المعاصر. حاز على جائزة الترجمة في مدينة برن مرتين 1988، لترجمته رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم (1996)، ولترجمته رواية "التبر" لإبراهيم الكوني. حائز على "خاتم جيروم" من الجمعية الألمانية للمترجمين. في عام 1988، تلقى منحة من مدينة وكانتون برن لترجمته رواية "المجوس" لإبراهيم الكوني. وعام 2004، فاز بالجائزة الأدبية للاتحاد العربي للترجمة، لترجمته الأدب العربي المعاصر إلى الألمانية. وفي عام 2005، حاز على جائزة كانتون برن لترجمته أعمال إبراهيم الكوني إلى الألمانية. وفي عام 2006، حاز على التكريم من المجلس الأعلى للثقافة المصرية ووزارة الثقافة المصرية في القاهرة لجهوده التي قدمها في ترجمة الأدب العربي المعاصر إلى الألمانية. في عام 2008 كان عضوًا في جائزة بوكر الدولية للرواية العربية. نال عام 2009 جائزة عبدالله بن عبدالعزيز الدولية للترجمة (المملكة العربية السعودية). أسس وشارك في تنظيم عدد من المؤتمرات الأكاديمية المتعلقة بالحضارة العربية. كما شارك في تأسيس المشروع الأوروبي لترجمة الأدب العربي تحت عنوان "ذاكرة المتوسط".
"في عام 2008 كان عضوًا في جائزة بوكر الدولية للرواية العربية. ونال عام 2009 جائزة عبدالله بن عبدالعزيز الدولية للترجمة" |
ذات مرة، سئل الروائي الكولومبي غبريال غارسيا ماركيز عن دور المترجم وأهميته فقال: "إنه روحي الثانية". أراد هارتموت فاندريتش، كما يقول، أن يكون روحًا ثانية لنجيب محفوظ، ولإبراهيم الكوني، وعلاء الأسواني، وغسان كنفاني، وسحر خليفة، وزكريا تامر، وصنع الله إبراهيم، وجمال الغيطاني، وإدوار الخراط، وإميلي نصر الله، ورشيد الضعيف، وخالد زيادة، وحنان الشيخ، وإيمان حميدان يونس، ورجاء عالم، وسلوى بكر، ومنصورة عز الدين، وشادي لويس، وسحر مندور، وفوزي ذبيان، وغيرهم. ربما لا يتذكر هارتموت فاندريتش عدد زياراته إلى العالم العربي، ولكنه منذ الزيارة الأولى صدم بما رأى، ووقع في حب ما رأى. وأحسب أنه لا يزال أسير الصدمة وعليل الحب وعاشق اللغة. ولكنه وجد أمرًا أثيرًا، وجد أن الكتب وسيلة رائعة للتواصل الحضاري ولتبادل الأفكار والهموم والهواجس. ووجد في الروايات العربية رموزًا للحياة الإشكالية العربية. وجد في كتبهم الأفكار والأحلام والمخاوف وتعبيرات الوجود. وجد في أدبنا شيئًا غير النفط، وغير الإرهاب، وغير الغواية والإستشراق. وجد إمكانية عرض مساحة من مساحات المجتمع الذي ينطلق منه هذا الأدب.
قرر فاندريتش أن الشرق والغرب يلتقيان بالثقافة والإنسان، وراح ينقل النص من ضفة إلى ضفة، وأحيانًا إعادة خلقه بلغة جديدة ناصعة؛ "ما أترجمه يصف للقراء الأوروبيين عالم جيرانهم العرب"، يقول. جميل أن نرى صورتنا الألمانية في العين وفي القلب، وفي ذلك الشغف المستدام والعزلة المستنيرة، وأيضًا في النزاهة والأمانة والموضوعية التي ميزت اختيارات فاندريتش وترجماته. كشاف مثابر هو هارتموت يمشي في العالم العربي ومدنه ودساكره ويلتقط الرواية التي تجذبه من الإيقاع العام ويدفعها في طرق جديدة وآفاق جديدة. وهو في ذلك إنما يمشي على خطى أسلافه الذين ترجموا في طليطلة ـ إسبانيا في القرن الثاني عشر، ومنها إلى برشلونة، وتولوز، وبادوفا، وشكلت هذه الترجمات مرتكزًا أساسيًا للنهضة في الغرب.
75 عملًا مترجمًا ولم يزل يأكل ويشرب ويمشي على قدميه ويلوّح بالجديد الآتي في هذا المعنى: ظاهرة، مؤسسة. أما ماذا ترجم؟ ولماذا ترجم؟ وكيف ترجم؟ ولمن ترجم؟ فهذه أسئلة راحت تتهاوى تحت سنابك الكتب العربية التي طلعت إلى الضوء وانوجدت في الضفة الأخرى.
فتح هارتموت فاندريتش الباب أمام الأرواح والكلمات والنفوس لتتلاقى وتحلق أبعد من اللغات. زحزح الباب العملاق بدأب النملة ونشاط النحلة والإرادة الحية والضمير الميزان.
سألته كيف يصف المترجم ويراه؟ أهو الروح الثانية، بحسب ماركيز، أم الخائن، أم الجسر؟ أجاب: "شأن الترجمة شأن غريب. الأرواح تتعدد، والخيانات كذلك، ولكن الشغف يبقى. الحجر شيء صلب، شيء جليد، شيء جماد، لا يتحرك، لا يحس، أفضل على ذلك استعارة القديس كريستوفر، أي عابر النهر الذي يحمل الناس على كتفيه، ويعبر من ضفة إلى الضفة الأخرى. وخلال العبور يصبح الحمل أثقل فأثقل، ولا يصل إلى الضفة إلا بمشقة وجهد. هذا هو وضع المترجم، العابر بين الضفتين".
يبحث هارتموت فاندريتش عن روايات تستحق الجهد والمغامرة والمشقة. وتستحيل مع النهر والضفتين والعابر الحامل صورة لجوهر واحد وجديد.
قلت له أخيرًا: متى تكتب روايتك يا هارتموت؟ ابتسم وقال "أنا ترجمان".