كتب مترحلة وأفواه مقفلة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كتب مترحلة وأفواه مقفلة

    كتب مترحلة وأفواه مقفلة
    عزيز تبسي 3 مايو 2023
    هنا/الآن
    (دار الوثائق الورقية)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    -1-

    اختار المحامي والباحث علاء السيد دكانًا، في منتصف شارع القوتلي، ليكون مركزًا لدار الوثائق الورقية، وافتتحه في منتصف شهر نيسان/ أبريل 2023، وكان قد أطلق قبل سنوات موقعًا إلكترونيًا باسم مركز الوثائق الرقمية، والذي نشر بالمجان عشرات المخطوطات والكتب النادرة، والصور والأغاني، ووضعها في تناول المهتمين.

    حمل المشروع الجديد رغبة تداول الكتب بالمقايضة والإعارة، وشراء وبيع الكتب القديمة والحديثة، ومجموعات الصحف والمجلات والأسطوانات الموسيقية.
    لا تزيد مساحة المكان عن ثلاثين مترًا يمكن توسيعها عند الضرورة، باستخدام سقيفة تعلو الدكان، يصعد إليها بدرج معدني. توزعت على الأرفف كتب تاريخية وأدبية وفكرية، ومجموعة كاملة من الموسوعات الدينية والتاريخية، وصحف ومجلات قديمة.

    عرضت للبيع في السنوات العشر الأخيرة، بدوافع الهجرة والعوز المادي، عشرات المكتبات الشخصية، كما تبرع الكثيرون بمكتباتهم ومقتنياتهم إلى مكتبات عامة، أو أودعوها كأمانة عند أصدقائهم، لحين عودتهم.

    يرتبط مشروع "دار الوثائق الكتابية" بترويج الثقافة والقراءة، ويحفز رغبة التملك عند الزبائن. وما نقل الكتب من مكتبة منزلية إلى مكتبة منزلية أخرى، سوى عملية إنعاش أولية للكتب، بمنحها العناية وإنقاذها من الرطوبة والتلف والإهمال.

    -2-

    حلب مدينة غنية بالكتب والمكتبات، ويعود ولع الحلبيين باقتنائها إلى أزمنة بعيدة، وقد عني أهل اليسار من أهلها باقتناء المخطوطات النادرة، باذلين في استنساخها الأموال الطائلة، كما في تحسين جلودها والاهتمام بخزاناتها الجميلة، حتى أن أحدهم، وفق الشيخ كامل الغزي في الجزء الأول من كتابه "نهر الذهب"، "أنفق في استنساخ أحد كتب الفقه الحنفي نحوًا من مائة ذهب عثماني". ولعل ولعهم هذا يعود إما إلى الرغبة الخاصة للاستفادة من محتوياتها، أو إلى الزينة والمباهاة، وما إلى ذلك من دواعي الاحترام والوجاهة، أو إلى الاعتقاد السائد أن اقتناء الكتب يورث الغنى، وفق الكتاب ذاته.

    عرفت المدينة بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر مجموعة من المكتبات العامة التابعة للأوقاف الإسلامية والمسيحية وبعض من المكتبات الخاصة، منها:

    المكتبة الأحمدية، التي أنشأها أحمد الجلبي طه زاده، وأوقف عليها ما ينوف عن ثلاثة آلاف مجلد وفق ما ذكر فيليب دي طرزي في كتابه: "خزائن الكتب العربية في الخافقين".

    المكتبة العثمانية التي أنشأها عثمان باشا الدوركي في القرن الثالث عشر للهجرة، وهو الذي بنى المدرسة العثمانية المعروفة بالرضائية، التي احتوت ألفًا وخمسمائة مجلد مخطوط في مواضيع شتى.
    ربما نحتاج لنقل البندقية من كتف إلى كتف، كناية عن تبديل المهمة، كي لا تموت الكتب تحت أنقاض الأبنية المهدمة، وتتحول أوراقها الناجية إلى أقماع لباعة الفستق ولفائف الفلافل
    المكتبة الخسروية، التي ضمت وفق فهرسها تسعمائة وستة وعشرين كتابًا توزعت على مواضيع متنوعة من الفقه والتصوف والحديث والفرائض والتفسير والحديث... والمكتبة القرناصية التي ضمت أكثر من خمسمائة مجلد، والمكتبة الإخلاصية، التي ضمت مائة وتسعة عشر مجلدًا. ومكتبة الجزار التي أوقفها السيد محمود الجزار للجامع الكبير، وشملت نحو ألف مخطوط ومطبوع.

    وتأتي المكتبة المارونية في طليعة المكتبات التابعة للأوقاف المسيحية. أسسها المطران جرمانوس فرحات (1670-1732) في القرن السابع عشر، وصل عدد مخطوطاتها إلى ألف خمسمائة وأحد وثلاثين، توزعت بين اللغات العربية واللاتينية والإيطالية والفرنسية. ويعود إنشاء مكتبة السريان إلى القرن السادس عشر، أرفدها البطاركة والمطارنة المتعاقبين بمخطوطات نادرة، توزعت على اللغات العربية والسريانية واللاتينية واليونانية، أجهزت عليها حرائق أحداث 1850، وعهدت مطرانية حلب بتجديدها عام 1862 إلى الخوري جرجس شلحت. وأجهزت أحداث 1850 ذاتها على مكتبتي الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، وأعيد تجديدهما بعد سنوات.

    حرق المكتبات فيما حرق في عام 1850، يضع حدًا للسنوات المضنية التي أزهقت في جمع المخطوطات، وسهر الليالي على ضوء القناديل في نسخها، والحرق هو النهاية العدمية للثقافة، كأنما الحلبيين في السنوات العشر الماضية، يحاولون النجاة من تلك العدمية الثقافية، بنقل الوثائق من البيوت المدمرة، أو بيوت آمنة، بتصوير الوثائق ونسخها على أشرطة مدمجة، لتسهيل نقلها ونشرها.

    تواجدت في المدينة مجموعة من المكتبات الخاصة: خزانة مصطفى آغا كتخدا التي ضمت نحو ألف وخمسمائة مجلد، وخزانة آل الكواكبي وخزانة آل الكيالي وخزانة الشيخ محمد الزرقا، ومكتبة الشاعر والباحث قسطاكي الحمصي (1858-1941) والتي ضم إليها مكتبة خاله الشاعر جبرائيل الدلال، التي حوت نحو خمسمائة مجلد.

    تأسست دار الكتب الوطنية عام 1937 بمبادرة من محافظ حلب، الأمير مصطفى الشهابي، وهو أحد أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، على نفقة المجلس البلدي، واختار لمكانها ساحة باب الفرج، في مركز المدينة، إلى الجنوب من النصب المميز للساعة. ضمت المكتبة خمسة آلاف وخمسمائة وواحدًا وتسعين مجلدًا باللغات العربية والتركية واللغات الأوروبية، زاد عدد مجلداتها مع مرور السنوات، فضلًا عن شرائها لمكتبة المؤرخ والباحث خير الدين الأسدي.

    -3-

    ماذا لو انتهت التجربة بنقل الكتب من ملكية شخص إلى ملكية شخص آخر. لا تملك الكتب قوة ذاتية لنشر الثقافة وما يستتبعها من تنوير وتحفيز على التغيير، اللذين يحتاجان إلى حوامل اجتماعية، وفاعلية جماعية.

    ربما نحتاج لنقل البندقية من كتف إلى كتف، كناية عن تبديل المهمة، وفق التعبير الذي راج بكتابات البلاشفة الروس في بدايات القرن المنصرم، كي لا تموت الكتب تحت أنقاض الأبنية المهدمة، وتتحول أوراقها الناجية إلى أقماع لباعة الفستق ولفائف الفلافل... لا حياة للكتاب من دون إخصاب الثقافة، ولا خصوبة للثقافة إلا بالحرية.



    مراجع:

    - عائشة الدباغ: الحركة الفكرية في حلب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى 1972.

    - فيليب دي طرازي: خزائن الكتب العربية في الخافقين. دار الكتب اللبنانية، الطبعة الأولى 1947.

    - كامل الغزي: نهر الذهب في تاريخ حلب. المطبعة المارونية حلب.

    (حلب)


يعمل...
X