الكتابة في زمن الاغتراب: هل من تأثيرٍ لتغيير المكان؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الكتابة في زمن الاغتراب: هل من تأثيرٍ لتغيير المكان؟

    الكتابة في زمن الاغتراب: هل من تأثيرٍ لتغيير المكان؟
    دارين حوماني 11 مايو 2023
    هنا/الآن
    (gettyimages)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    أُطلق مصطلح أدب المهجر على النتاج الأدبي لشعراء عرب هاجروا وأقاموا بعيدًا عن بلادهم الأصليّة، ورغم أنه بداية أطلق على شعراء بلاد الشام تحديدًا إلا أن كل أدب كُتب خارج البلد الأم، إن كان تحت عنوان أدب "الاغتراب" أو أدب المنفى "الإجباري" أو "الاختياري"، يحمل نفس المدلولات والعناصر الاغترابية التي قام عليها أدب المهجر.
    وللهجرة دوافع كثيرة سنجدها حتمًا مدفونة ضمن نتاجات الأدباء، وباللاوعي الكتابي، ولعلّ أول أسباب الهجرة الحروب المتعاقبة على أوطاننا العربية، والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية القاسية. وفي الأدب "المهجري" القديم والجديد ثمة عدسات دقيقة تلتقط تلك النزعة إلى الحنين للمكان الأول، ولجزئيات الشوارع التي كنا مررنا بها، وللصداقات التي تصبح مقدّسة، واللقاءات البسيطة التي تصبح مثل شحنات مخبوءة تحت الصدر تعيد تركيب مشاعرنا على الفقد المزمن. وتحضر في كتابات الهجرة أيضًا تلك العلاقة اليومية اللامتناهية مع الطبيعة وذلك الحفر في الذات ثم نجد أنفسنا وكأننا نكتب من خارج العالم بنبرة حزن واحتجاج على الكون مترافقة مع أسئلة عن الوجود والكينونة. يقول إدوارد سعيد: "المنفى هوة قسرية لا تنجسر في الكائن البشري وموطنه الأصلي، بين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع. أيًّا كانت إنجازات المنفى فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد". ويقول أيضًا "هل المنفى مقولة الجغرافيا- مقولة التغيير في المكان- فحسب؟ أم هو التباس قسري على مستوى السيكولوجيا، وشرخ في الوعي، ومن ثم تحوّل في الرؤية إلى الذات والعالم؟". ومن هنا سألنا بعض الأدباء من عالمنا العربي، الذين يقيمون خارج أوطانهم أو أقاموا خارجها في فترات من حياتهم، عن أدب الاغتراب وتجربة الكتابة تحت وطأة الشعور بالشرخ عن الوطن، وعن تأثيرات الغربة والعلاقة مع المكان الجديد على كتاباتهم الإبداعية؟


    سيف الرحبي (شاعر من عُمان):

    جذر الاغتراب الوجودي العميق موجود في كل تجليات هذه الكتابة وحيواتها وأمكنتها المختلفة

    قد يكون الكائن في البلد الذي ينتمي إليه من حيث الولادة والجغرافيا والتاريخ ويكون شعوره بالمنفى أكثر قسوة من وجوده خارج المجال المكاني الذي ولد وصدف وجوده فيه هو وعائلته، وهذا تحدّث عنه أبو حيان التوحيدي. الكاتب من خلال نمط حياته وممارسة تفاصيل حياتية يعيش الغربة والإحساس بها أكثر من أن يكون في مدن أوروبية أو مدن خارجة عن هذا النطاق الجغرافي المصطلح عليه بـ "الوطن"، مثل البلدان العربية بصورة عامة، ونحن نرى كيف أن المتن الأساسي من البلاد العربية التي دمرها الطغيان ودمرتها الأنظمة القمعية والبوليسية وافترستها فعلًا، لدرجة أنها ألغت الشعور بالمواطنة عند الكائن البشري الذي يعيش فيها، عند كل الديمغرافيا الموجودة على أرضها، من فرط ممارساتها، ثم جاءت الحروب والثورات والحروب الأهلية فتوّجت الموضوع بتراجيديا أكثر فظاعة وقسوة من ذي قبل. وهذه نتيجة لتلك الممارسات المتراكمة من القمع والإلغاء والتهميش للإنسان وللثقافة وللمعرفة وسيادة رأس السلطة الاستبدادية سيادة كاملة مكتملة، تحت شعارات مختلفة، لكل نظام شعاراته، الشعارات كلها، على الأرجح، تكون راجحة ومقدسة ومهمة من العدالة الاشتراكية للقومية وللعلمانية، وغالبًا الدينية التي تخترق هذه المواضيع، وهذا يجعل الكائن كائنا منفيا مغتربا داخل أوطانه ويطمح إلى الخروج. وتلك المدن، مدن الآخرين التي يعيش فيها الإنسان العربي كغريب، تعطيه شعورًا بالأمان، على الأرجح، أفضل من شعوره بالاغتراب الساحق في هذه الأوطان التي سحقتها الأحداث والحروب والاستبدادات المتعاقبة. الكتابة تختلف من حيث الأساليب والتفاصيل ولكن جذر الاغتراب الوجودي العميق موجود في كل تجليات هذه الكتابة وحيواتها وأمكنتها المختلفة.

    أود أن أشير إلى أن المهجريين انطلقوا من بلاد الشام بكل تمظهراتها الجغرافية، دفعتهم الأوضاع للرحيل وتمركزوا في أميركا الشمالية تحديدًا، أميركا وكندا، الأقل سمعة موجودين في أميركا اللاتينية. هناك مجموعة من أدباء بلاد الشام شكلوا جزءًا من نسيج تلك البلاد السياسي والاجتماعي والثقافي والأدبي وظهر في روايات لرموز أدب القارة اللاتينية منهم جورج أمادو وماركيز وبورخيس، لكن أدباء رابطة المهجر ميخائيل نعيمة وجبران وديفيد معلوف وكثيرين، لعبوا إلى جانب مفكرين آخرين في الأدب والفلسفة والتنوير الفكري والثقافي، دورًا في تثوير وتنوير اللغة العربية والثقافة العربية والشعوب العربية على صعيد نخبها. أعتقد أن هجراتهم كانت أكثر توفيقًا في سياق التأثير على الداخل. فيما بعد، أخذت الأمور منعطفات أخرى حيث قلّ هذا التأثير وصارت الأمور أكثر تعقيدًا. هناك مرحلة زمنية شاسعة ومعقدة لصعود وهبوط إمبراطوريات وسياسات وأفكار ومفاهيم وآداب وأسماء، مساحة زمن شاسعة وحاسمة، الحضارة انحسمت بهذه المراحل، ربما في الخمسين سنة الأخيرة أكثر حسمًا من القرون السابقة، لكن تلك الهجرات كانت مهمة. حتى التفاعل الثقافي والتنوير الثقافي الذي حصل بفعل هجرة بعض المفكرين العرب ثم عودتهم إلى بلادهم، مثل رفاعة الطهطاوي وطه حسين، الذين أضاف للثقافة العربية، لأنه كان ثمة مشروع سياسي وفكري وثقافي في البلدان الأصل التي عادوا منها، قبل أن تحصل الحالة القيامية المروعة التي عصفت بالبلاد العربية وطوّحت بها إلى المنافي الأكثر قسوة وعنفًا.
    هالة كوثراني، سيف الرحبي وأمير تاج السر
    هالة كوثراني (روائية من لبنان)ـ قطر:

    المكان الأول يسكننا حيثما حللنا

    عشرون عامًا تفصل بين اغترابين عشتهما، ولا يتشابهان. أسأل نفسي: ما الذي تغيّر؟ النضج أولًا، كي لا أقول تقدُّمَ العمرِ بي إلى حيث يصبح التفكير في الموت أشدّ وطأة ووضوحًا وصدقًا. ما تغيّر أيضًا هو المرارة. تجربة الاغتراب الأولى والقصيرة، أو المتقطّعة، قبل عشرين عامًا، دفعتني إلى الكتابة الأولى التي تجرأتُ على نشرها في رواية قصيرة. كتبت آنذاك المكان الذي تركته، وأنا أحلّل أسباب غربتي القصيرة. كنت أحلّل علاقتي ببيروت وتعلّقي بها وكرهي لها وخوفي منها وعليها. كان الكره في جوهره حبًا وعتبًا وأملًا. لكن الاغتراب الثاني ليس خارجيًا بقدر ما هو داخلي. لقد غادرت بيروت قبل ألا أعود موجودةً فيها. هذه المرّة تبخّرت رائحةُ الحنين. هذه المرّة الضياع أقلّ والشوق أيضًا، واللوم والعتب.

    فكرت في تأثير هذا الوضوح في كتابتي. روايتي الأخيرة "يوم الشمس" تأثرت بطوافي في بيروت، قبل مغادرتي، برغبتي في الضياع في أزقّة تهيّأ لي أنني لا أزال أكتشفها، وفي تخيّل ما كانت هذه الأزقّة والشوارع عليه قبل أن تحيا المعارك والانهيارات.

    وعدت نفسي أخيرًا ألا أحاول أن أكتب المكانَ الأول في المكان الجديد. لكنني حين بدأت ألمح الشخصيات في مرآة مخيّلتي، رأيتها هناك، في ماضي المكان وتاريخه. هذه المرة هربت من الحاضر لأسباب مفهومة، ولعلّي كنت أدرك أن المكان الأول يسكننا حيثما حللنا. هذا ما تخبرنا به تجارب كاتبات وكتّاب يستمرون في الكتابة عن مدنهم بعد خمسين عامًا من الرحيل عنها. يطاردنا المكان الأول، ولا نتوقف عن كتابته. لكن ما يتغيّر بعد الرحيل هو نظرتنا إليه، والتخفّف من آلام يستحيل الهروب منها حين نكون في قلب المطحنة. ولا أقول إن هذه الآلام تبرد، لكننا من مسافة بعيدة نحاول أن نعقلها، ألا يكون انفعالنا تورّطًا. أظنّ الكتابة يمكن أن تتغذّى من هذا الانفصال. أتمنّى ذلك.


    أمير تاج السر (روائي من السودان)- قطر:

    في قطر لم أحس صراحة بأنني غريب عن وطني

    بالنسبة لي في منطقة الخليج وقطر بالتحديد التي أقيم فيها منذ زمن طويل، لا أستطيع أن أسمي ما أكتبه أدب مهجر، لأن المهجر في الغالب انقطاع تام أو شبه تام عن الوطن حيث يكتسب المهاجر هوية جديدة، ويحاول بقدر الإمكان الاندماج في ثقافة جديدة، لم تكن ثقافته يومًا، ونجد كثيرين في هذا السياق ممن يعيشون في أميركا أو أوروبا يكتبون بلغات البلدان التي يعيشون فيها، وتترجم أعمالهم للعربية أسوة بأي كاتب غربي. الخليج مكان اغتراب مختلف، حيث يمكن العمل وممارسة النشاط الكتابي من دون الانسلاخ عن الوطن الأم، صحيح هناك ثقافة مختلفة، لكنه اختلاف طفيف يمكن استيعابه داخل ثقافة الوطن الذي قدم منه الكاتب. وخلال إقامتي في قطر لم أحس صراحة بأنني غريب عن وطني، اللسان نفسه، الوجوه نفسها وكثير من العادات هي نفسها، ولكن رغم ذلك لا بد من ظهور مؤثرات لم تكن موجودة والإنسان يعيش في وطنه، مثل الحنين، هناك دائمًا حنين لأشياء ما، لحوادث حدثت في الطفولة، لبيوت وأماكن عاش أو تردد عليها الكاتب في صغره، لمدارس ومعلمين وزملاء ولحبيبات عرفهن في فترة ما. وإذا كان الكاتب محليًا، أي يكتب عن وطنه فقط، مثلما أفعل، نجد تلك المؤثرات واضحة، هناك شجن كثير، هناك انتماء مؤثر يسوقه الحنين إلى الوطن، ولذلك تجدين في كتابتي تلك الأشياء التي ذكرتها عن قيادة الحنين للنص، خاصة في ما أسميه سيرة مثل "مرايا ساحلية" و"قلم زينب" و"تاكيكارديا". وحتى الروايات التاريخية التي ربما فيها إسقاطات على الحاضر، كانت مكتوبة بقلم الحنين إلى شيء ما. عمومًا، لا بد في النهاية من كتابة عمل مرتبط بالبيئة الجديدة، لأن تأثيرها يظل موجودًا أيضًا ويسير جنبًا إلى جنب مع تأثير البيئة الأم.


    جاكلين سلام (شاعرة ومترجمة وصحافية من سورية)- كندا:

    كتبت رحلتي بين خط الخوف والرغبة في رفع سقف الحرية

    حين غادرت سورية عام 1997 إلى كندا ببطاقة ذهاب بلا إياب كان لا بد أن أتهيأ لولادة جديدة في أرض غريبة نائية. أدمتني سنوات الهجرة الأولى وأطلقت صوتي بحرية مواربة.

    في هجرتي ولدتُ من جديد كي أمسك بالحلم عبر القلم. بعد وصولي بأقل من سنة، نشرتُ كتاباتي وشاركتُ في مهرجانات للأقليات وفي المسيرات السلمية لمناصرة حرية الكتاب السجناء في العالم. كنتُ أحسد كتّاب العالم على حدود حريتهم التي ليست متاحة لي باللغة العربية.

    في كندا صار لي حرية أن أصرخ بوعي للمرة الأولى. قرأت بالإنكليزية واشتغلت بها في مهنتي كمترجمة. درستُ كطالبة لغة، وسجلت في ورشات للتمرين على الكتابة الإبداعية بالإنكليزية في جامعة "رايرسون" في تورنتو. علمتُ نفسي بالقراءة والبحث وما زلت أحاول وأتعثر وأحفر الطريق.

    قرأت ما استطعت من الآداب غير المترجمة إلى العربية، وكتبت عنه مقالات وترجمات نشرت في الصحافة العربية وستصدر في كتب. لي كتاب سيصدر قريبًا ويشمل حوارات ومقالات فكرية أدبية عن أدباء ومفكري الخليط الكندي والإنكليزي. فيه اشتباكات الأثر الذي تركته تجربة الهجرة في كتاباتي، مقالة وقصيدة وترجمة وسردًا قصصيًا ورحلة يومية.

    هذه العلاقة الملتبسة بالأشياء والعالم عزّزت فيّ حس السائحة التي تريد أن ترى أكثر ما يمكن، تلتقط صور الشارع ثم تعود إلى كتابتها وقراءة دواخلها. في الكتابة من هناك تحضر العلاقة مع المكان كجغرافيا، لغة، طقسًا، حالة نفسية، وأسئلة وجودية وتأملية طُرحت في أدبيات أجدادنا المبدعين المهجريين الأوائل الذين لم يقتصروا على كتابة الشعر بل أثروا المكتبات العالمية بسرد رؤيوي وفكري وفلسفي.

    نحن جيل الشتات والهزيمة والحروب المتتالية لم نتجاوز كثيرًا حجم الكارثة المعاصرة في الشرق المتهالك.
    جاكلين سلام، عبد الهادي سعدون، سرجون كرم، وجمال المعتصم بالله
    عبد الهادي سعدون (كاتب وأكاديمي من العراق)- إسبانيا:

    ما كنا نعانيه من بُعد أصبح بالضرورة دافعًا للتأكيد على النهوض بمشروع ثقافي

    كل تجربة في المنفى هي تجربة فردية بالتأكيد تختلف عن تجربة أي أديب آخر، لذا لا أعتقد بالتجارب الجماعية عن المنفى كونها موحدة لجموع المنفيين من الأدباء والفنانين. وإذا كان المهجر أو المنفى في السابق لأسباب اقتصادية أو طائفية أو الهرب بحثًا عن آفاق جديدة، فتجربة منافينا مع نهايات القرن العشرين وحتى اليوم لها علاقة بطابع سياسي أو معارضة مباشرة مع أوضاع الوطن. لكن ما كنا نعانيه من بُعد، أصبح بالضرورة دافعًا للتأكيد على النهوض بمشروع ثقافي خاص ضمن مشاريع أخرى لتشكل عموم خريطة المنفيين. وكأن التمسك بصنع مشروع كتابي فني يقيك من النسيان والتماهي مع ثقافة الآخر، وهنا أيضًا التذكير المتكرر بأنك جزء من ثقافة بلد تركته لتكون في بقعة أخرى أكثر حرية وتمتعًا بشروط الإنسانية.

    اليوم مع الكثرة الكبيرة للمنفيين المثقفين لم تعد المسألة نقطة مصغرة، بل النقاط المصغرة تتجمع لتشكل حيزًا أكبر بحيث تصبح أمرًا شاسعًا وحقيقة مؤكدة. مع النفي يصبح الوطن توق مؤجل والواقع الحالي مدعاة لحضوره الدائم عبر النصوص والكتابات المتتابعة. وهو على أية حال فكرة أكثر من كونه حقيقة، لأنه مبني ومستند على الخيال المحفوظ في الذاكرة والمتجدد بطبقات نسعى للتمسك بها وزيادتها مع مرور الزمن.

    ربما اليوم مع وسائل التواصل الاجتماعي والقرية العالمية المصغرة التي تجمعنا في الإنترنت وعوالمه، لم تعد فكرة البعد عن الوطن والتراب والشوق لها المعاني نفسها التي كانت لدى المهجري الأول مع بدايات القرن العشرين أو قبله. لم يعد الوطن بتلك الصورة المضببة والخيال المتأرجح، ولم نعد نحن المنفيين بتلك الصورة العتيقة، بل من الأفضل أن نجد لها تسمية أخرى مقنعة. الوطن في كتاباتنا وذاكرتنا، نستطيع أن نراه ونلمسه ونتنصّت له في كل لحظات منفانا الطويل.


    سرجون كرم (شاعر ومترجم من لبنان)- ألمانيا:

    لا يمكن الحديث عن أدب مهجريّ ذي سمات مختلفة عن الأدب في وطن المنشأ، ما خلا موضوعات الحنين إلى الوطن

    سأجيب عن السؤال من زاوية الشعر العربيّ في المهجر الأوروبيّ، بحكم إقامتي في أوروبا واطّلاعي على نشاط الشعراء العرب فيها. ولكن قبلًا أودّ أن أشير إلى أنّ عمليّة تعيين عصر أدبيّ أو حالة أدبيّة، وفي حالتنا هذه الشعراء العرب في المهجر الأوروبيّ، لا يمكن أن يتمّ بمجرّد مغادرتهم وطن المنشأ والسفر إلى أوروبا والإقامة فيها. فعمليّة نشوء الظاهرة أو العصر تحتاج إلى مجموعة من السمات التي تتراكم وتتطوّر مع الزمن وتأخذ طابعًا مختلفًا عمّا قبلها وبعدها. بمعنى أنّ سنة إعلان النبوّة ليست مقياسًا لبداية العصر الإسلاميّ في الشعر، لأنّ أساليب الشعر وموضوعاته لم تتغيّر بمجرّد إعلان الدعوة، بل احتاجت إلى سنين عديدة بعدها. وهذا الأمر ينطبق أيضًا على ظاهرة الشعر العربيّ في المهجر الأوروبي. وحتّى تجربة المهجر الأوروبيّ، فإنّها من جهة تختلف من دولة إلى أخرى، بحسب استعداد كلّ دولة لدعم نشاطات الشعراء العرب، وبالتالي فتح الباب لهم للتحمّس إلى الوطن الجديد. ومن جهة ثانية يتعلّق الأمر بجهد الشعراء الشخصيّ في خلق آليات اتصال مع الحياة الجديدة والمجتمع الجديد أو الوطن الجديد، وبالتالي تفعيل الحساسيّة للطبيعة والفكر والثقافة التي توطّنوا فيها. وغير ذلك لا يمكن الحديث عن أدب مهجريّ ذي سمات مختلفة عن الأدب في وطن المنشأ، ما خلا موضوعات الحنين إلى الوطن، لأنّ المواضيع والمنحى الفكريّ تبقى نفسها، خصوصًا ما يتعلّق بالغوص في الذاتيّة والتشكّي والسوداويّة وأحيانًا بحنين إلى نار ماضي بلادهم السحيق. لا أقول إنّ العامل المكاني يولّد شعرًا أوروبيًّا مكتوبًا باللغة العربيّة، بل يولّد أسلوبًا وموضوعًا فكريّا وثقافيّا مختلفًا تمامًا عمّا يكتبه الشعراء العرب في بلادهم، يولّد نظرة أخرى في التعامل مع المواضيع التي يتعامل معها شعراء بلادهم. وهذا أمر يمكن لمسه لدى بعض شعراء العالم العربيّ المقيمين في أوروبا والذين بدأت الدراسات الأكاديميّة تتطرّق إلى تجاربهم ولو بشكل خجول.


    جمال المعتصم بالله (شاعر من المغرب)- كندا:

    هل نحن مهاجرون؟

    الهجرةُ إلى بلادٍ أخرى، إلى بلاد الآخر، إلى الشمال البارد؛ في السنوات الأولى لا بدّ أن تستقرّ. الاستقرار في السكن وفي العمل وفي الملبس الدافئ. الاستقرار يساعد على مقاومة الشتاء الطويل هنا. الاستقرار يساعد على تثبيت الأقدام في الواقع الجديد وعلى الحياة هنا.

    بعد سنوات ترى كيف أنّك استطعت التأقلم، أو تقريبًا، مع الناس ومع الأمكنة، ترى كيف أنّك استطعت التعرّف على البلاد وعلى بعض أسرارها وثقافاتها. تنظرُ إلى الاختلافات وتبتسم، وتشكرُ نفسك وتاريخك الشخصيّ، والثقافي أيضًا إذا شئنا، على كونِكَ تتوفرُ على صدرٍ رحبٍ وعلى استعداداتٍ لا بأس بها لِاحترام المختلف والاختلافات.

    بعد الاستقرار يداهمكَ السؤال: أين اهتماماتي الثقافية ومحاولاتي الكتابية؟

    فتبدأُ في القراءة باللغة الفرنسية، تحيطُ بكَ اللغة الفرنسية من كلّ جانب، وفي قراءةِ الشعْر الكنديّ وشعراء الكيبيك خصوصًا. وتحضرُ أنشطة ثقافية وشعرية وتقرأ بشغفٍ، كلّ سبتٍ، الملحق الثقافي لجريدتك اليومية وأنتَ تفكِّرُ في الملاحق الثقافية هناك في البلاد.

    وفي مغموريتكَ هاته تنتبهُ إلى أنّكَ، أنتَ أيضًا، كانت لديك محاولات شعرية هناك في البلاد، وقراءاتٌ ومنشوراتٌ وصداقاتٌ شعرية جميلةٌ. تنتبهُ إلى كونكَ تملكُ ما يشبهُ تجربة شعرية صغيرة. فأراك تعود إلى الكتابةِ. تعودُ إلى الورقة البيضاء ثمّ إلى الشاشة الزرقاء وترى.

    ترى إلى الثلج الكنديّ يدخلُ إلى الصُّور وبين الكلمات، ترى إلى الحنين وهو في حالاتِه الأقوى، ترى إلى المسافاتِ وإلى تظاهراتها القصوى، ترى كيف أنّ بعض إيقاعاتك قد تبدّلَت.

    ـ يا صاحبي، الشجاعة الشعريةُ في المهجرِ تقتضي، ربّما، أن نسعدَ بتبدُّلاتِنا وأن نفرح بالأمكنة الجديدة وأن نُقاوم على جبهاتٍ: جبهةُ الصوتِ ومحاولاتِه، وجبهة المكان الجديد على الذات، وجبهة التقدّم في العمر، أظُنُّ.

    حاشيةٌ صغيرةٌ:

    مع رياح الإنترنت، مع مواقع التواصل الاجتماعي والرسائل التي تصل إلى البلاد قبل أن يرتدّ إليكَ طرْفك، هل نحنُ فعلًا مهاجرون؟ ألسْنا في تواصلٍ يوميٍّ مع الأبناء والعائلة والأصدقاء؟ أليست الجرائد الوطنية والقصائد العربية في متناولنا يوميًّا؟
يعمل...
X