غسّان زقطان ذاهب ليصغي إلى عجائب أبيه!
يوسف الشايب 7 مايو 2023
هنا/الآن
غسان زقطان
شارك هذا المقال
حجم الخط
من يستعرض المجموعة الشعرية الأحدث للشاعر الفلسطيني غسّان زقطان، الموسومة بـ"ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، والصادرة عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، وخاصة من يعرف شيئًا عن صاحبها، يُدرك أنّ فيها شيئًا من سيرة ذاتية صيغت شعريًّا بطريقة مبتكرة كانت على تماس مع السرد.
زقطان لم ينف ذلك، وأشار في حديث خاص لـ "ضفة ثالثة" إلى أن "جميعنا، على ما أظن، يكتب حينما يكتب شيئًا من سيرة شخصية، فهي موجودة في مختلف الأعمال الإبداعية"، لكن مجموعة "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، وكما لفت صاحبها، "ليست سيرة شخصية بالمعنى الشامل بقدر ما هي اختيارات من مناطق زمانية وأحداث بعينها، وهي جزء من سيرة بدأت مع بداية كتابتي".
وربّما كان هذا مشروعًا مؤجلًا لدى زقطان، قبل أن يقرّر التوجه إلى حيث عجائب أبيه التي هي عجائب وطن وعجائب قضيّة في الوقت ذاته، في ولادة قد تكون متأخرّة، أو تعسرت لأسباب ما، أو قرّر صاحبها تأجيلها أكثر من مرّة.
وكرّر زقطان مُجددًا: هي بلا شك جزء من سيرة ذاتية، بطريقة أو بأخرى، وفي نهاية المطاف، أرى أن المشروع الكامل للشاعر خاصة، والمبدع عامة، بتصوري ليس إلا قطعًا فسيفسائية من سيرته الذاتية، فلا يمكن لأي مبدع أن ينحي، أو يتخلص، بوعي أو دونه، من تجربته الشخصية، وإلا فإنه سيكتب بلا مكان وبلا ذاكرة، ما من شأنه أن يجرّد العمل الإبداعي من أهم مرتكزاته وروابطه... كان ثمّة محاولات في هذا الإطار سبقت هذه المجموعة التي جاءت، إن جاز لي التعبير، في سياق تطوّر الشكل لديّ، بحيث بدا الأمر مُمكنًا بطريقة مختلفة.
"هناك تركيز واضح ومقصود في المجموعة على السرد، وهي تجربة لا أعرف إلى أي مدى قد تنجح فنيًّا، لكني وجدت أن هذا الشكل المؤجّل الذي انتظر فترة طويلة كي ينضج، حسب تصوّري، أو أن يصل إلى منطقة يبدو فيها مناسبًا ليُطرح".
ولعلّ هذا ما يبرّر للقارئ، وأنا من بينهم، تقسيم المجموعة الشعرية إلى فصول، وكأني بغسّان زقطان يكتب رواية ما أو قصصًا قصيرة ذات نكهة شعرية، وموسيقى داخلية بعيدة عن الصورة النمطية للشعر الكلاسيكي.
وكما أشار زقطان، فإنه عمد إلى إيجاد روابط ما، وخلق شخوص داخل نصوص مجموعة "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، ففي الجزء المعنون بـ"حدث في تلك الحرب" يمكن ملاحظة أن الشخصيات حاضرة، وتنمو وتتحول وتتكيف مع الأحداث... "ثمة تنويعات، وانقطاعات، وثمة مناطق فارغة في العمل، وتم إفراغها بشكل متعمد، فأنا أعتمد على الجسور أكثر ممّا أعتمد على الممرات، أو الطرق الآمنة".
وبذلك لم يغتل زقطان في مجموعته هذه مساحة القارئ في إملاء هذه الفراغات من جهة، علاوة على منحه إياه مساحات شاسعة في التأويل، فكان جزءًا، ليس فقط من تعبئة الفراغات بما يتناسب وتجربته، فيأتي التلقي مختلطًا ما بين تجارب الكاتب والقارئ، بالإضافة إلى أن الشاعر هنا، وهو بارع بما يؤهله ليكون الرقم الأبرز شعرّيًا في فلسطين الآن، في رأيي، ومن بين الأهم موهبة وحضورًا على المستويين العالمي والعربي من بين شعراء العربية، منحه لتشكيل مساحته ومعماره الخاص داخل نصوص هي ليست له، فيزخرفها بنقوشه مُؤولًا.
ويرى زقطان أن "الشراكة مع القارئ هي جزء من استكمال النص، بالنسبة لي على الأقل، فأنا أبحث منذ مجموعات سابقة، وفي كتب سردية، عن شراكة ما بيني وبين المتلقي، ونجاح هذا مرهون برأي المتلقي نفسه"، لافتًا إلى أنه في مجموعته "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، وقبلها "تحدث أيها الغريب تحدث"، وصدرت عن منشورات المتوسط في إيطاليا، كان ثمة راوٍ حمل طاقة السرد، والنثر المحمول شعريًا، بعيدًا عن أن يكون "يقينيًّا"، فلا إجابات بل أسئلة كثيرة، وهناك غياب واضح ومقصود، وبرأيي هذا طبيعي في الشعر خاصة، والإبداع عامة، لليقين، فلا إجابات حاسمة، أو حقائق ملهمة، وهنا تتأتى مناطق الشراكة بين ما أكتب وبين القارئ، أي مساحات الأسئلة، والنهايات المفتوحة، والمواربة، بحيث يجد القارئ نفسه، ويستطيع أن يملأ الفراغات بأسئلته الخاصة هو، فليست مهمة الشعر برأيي تقديم الإجابات، لكونه عملية إعادة إنتاج.
وحول القصيدة القصيرة، أو قصيدة "الومضة" كما يطلق عليها بعضهم، والتي لربما شكلت مفاصل داخل عناوين الجزء السادس والأخير من مجموعة "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، قال زقطان بوضوح: القصيدة القصيرة، أو التي أطلق عليها البعض اسم "الومضة"، هي قصيدة في النهاية، خاصة عندما تحمل معرفتها وجماليّاتها ولغتها الخاصة، ولكن "الهايكو" حكاية أخرى فهي ابنة ثقافة أخرى تشكلت عبرها وبها وداخلها على مدار فترة زمنية طويلة، وأرى أن ما يُكتب عربيًا لا يمكن إدراجه في إطار "الهايكو" كقصيدة ذات هوية يابانية، ومع ذلك، فإنني لا يهمني الشكل بقدر ما يهمني تماهيه مع المعنى في النصوص، وتوظيفه بالطريقة التي تتوافق وخدمة المعنى.
صدرت لزقطان، أخيرًا أيضًا، ترجمة ما يمكن وصفه بالجزء الثالث من مختاراته الشعرية إلى الإنكليزية، ما يغطي نخبة من أشعاره منذ بداياته وحتى العام 2020... يقول: كنتُ محظوظًا بأن مترجمي فادي جودة، شاعر في الأساس، ومترجم مقتدر، وسبق أن ترجم محمود درويش وغيره، ويحظى بمكانة مرموقة عالميًّا، وقد ساهم بشكل كبير في نشر مختاراتي الأولى "كطير من القش وقصائد أخرى" عن دار نشر "ييل" العالمية العريقة في الولايات المتحدة الأميركية، ليفتح باب الترجمة لغيره من نصوص زقطان إلى الإنكليزية، كان آخرها "غرباء بمعاطف خفيفة"، عن دار "سيغل" العالمية الشهيرة، من ترجمة روبن مورغ، ومن المقرر تعميمها في المكتبات صيف هذا العام.
ولم ينكر زقطان أنه كان لحصوله على جائزة "غريفين" العالمية، في عام 2013، دور في انفتاح العالم، وخاصة ذلك الناطق بالإنكليزية، على نصوصه شعرًا وسردًا... قال: المميّز في هذه الجائزة أن لا ترشيح فيها، فاللجنة التي تختارها الجائزة هي من تحدد القائمة القصيرة، ومن ثم الفائز، بحيث تضم القائمة ستة شعراء، ثلاثة منهم كنديّون، وثلاثة من جنسيّات أخرى حول العالم، وفي مرحلة لاحقة، يتنافس على الجائزة اثنان من الشعراء، أحدهما كندي، والآخر لا يحمل الجنسية الكندية... أتذكر أنني ومترجمي حينذاك، فادي جودة، تفاجأنا باختيار ترجمة كـ"طير من القش وقصائد أخرى" للقائمة القصيرة، لكنها كانت قد حظيت باحتفاء نقدي وإعلامي في أميركا والعالم، وربّما هو ما أهلها للفوز بجائزة "غريفين"، وكانت نافست على جوائز عالمية عدّة.
وشارك زقطان، أخيرًا، بفعاليات ثقافية عدّة هذا العام، بدأت من البندقية بإيطاليا، واشتملت على ثلاثة محاور، من بينها مشاركته في مهرجان ضم أربعة شعراء عالميين، وحققت حضورًا لافتًا على مستوى الجمهور والنقاد والإعلاميّين، ووقع خلالها مختاراته بالإيطالية، كما ناقشها في عديد الجامعات والمؤسسات، علاوة على تنظيم قراءة خاصة له بتقديم ورعاية المناضلة الأممية لويزا مورغنتيني، النائبة السابقة لرئيس البرلمان الأوروبي.
وكانت بعدها مشاركته في مهرجان بابل للثقافة والفنون في بابل بالعراق، وتأتي بعد ثلاثة عقود على مشاركته في أمسية شعرية هناك. وعنها كتب في صفحته في "فيسبوك": في بغداد بعد ثلاثين سنة... في نفس الفندق. فكرت وأنا اصعد إلى الغرفة أن الفتى العشريني الذي أصرّ على مساعدتي في حمل حقيبتي الخفيفة... أنني كنتُ في سنّه عندما نزلت هنا في المرة الأولى، وأنه لم يكن قد ولد بعد، وبعدها كتب وهو لا يزال حتى تاريخ نشر المقال هناك: اليوم في بابل التقيت الشاعر طلال حيدر للمرّة الأولى، وأصغيت لصوته وهو يصعد ويخلخل الهواء، وينقش اسمه على ذهبها، ثم يصبح الإصغاء غنيمة.
وكان قبل أن يغادر إلى بابل أكد لـ"ضفة ثالثة": كانت زيارتي الأخيرة إلى العراق في عام 2003، وكانت عبارة عن زيارة تضامنية لشعراء وكتاب فلسطينيين، رفقة الشاعر أحمد دحبور، والروائي رشاد أبو شاور، وكنّا أول من وصل إلى بغداد ما بعد حرب الخليج الثانية "عاصفة الصحراء".
وحول ندرة أمسياته الشعرية في فلسطين، أجاب زقطان: علاوة على أنه ليس من السهل مواجهة الجمهور، خاصة في أمسية شعرية، لا بد من سياق تأتي هكذا قراءات في إطاره، بحيث لا يكون الظهور غير مبرّر... أتحفظ على الظهور الدائم، وتكرار القراءات للجمهور ذاته... أي ظهور يجب أن يكون له سياقه، وأعترف أنني أخشى مواجهة الجمهور، وأعتقد أن الاعتراف برهبة الجمهور فيه تقدير له، واحتفاء به، واحترام لذائقته.
وأخيرًا، كان السؤال بخصوص حصوله على جائزة محمود درويش للإبداع عن مؤسسة محمود درويش في مدينة رام الله عام 2016، فاعترف: كنت مهجوسًا بها. كانت تعنيني إلى أبعد أحد، وكانت سعادتي بها كبيرة جدًا، لكونها تتويجًا لصداقة تواصلت بيني وبين درويش على مدار عشرين سنة. في هذه الحالة ثمة ما يتجاوز الجائزة.
وبالإضافة إلى انتظار قرّاء غسان زقطان بالعربية بدء توزيع مجموعته "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي" على نطاق واسع، والمختارات الشعرية "غرباء بمعاطف خفيفة" لقرائه بالإنكليزية، سيكون قرّاء الإنكليزية، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الجاري، على موعد مع ترجمة نصه السردي السيري "عربة قديمة بستائر"، التي صنّفها البعض روايةً، عن دار "سيغل" أيضًا كسابقتها، ومن ترجمة سام وايدلر. أما قرّاء زقطان بالإيطالية فسيكونون على موعد بنهاية العام مع المختارات الشعرية "مشاة ينادون أخوتهم"، بترجمة سيمون سيبيليو.
يوسف الشايب 7 مايو 2023
هنا/الآن
غسان زقطان
شارك هذا المقال
حجم الخط
من يستعرض المجموعة الشعرية الأحدث للشاعر الفلسطيني غسّان زقطان، الموسومة بـ"ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، والصادرة عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، وخاصة من يعرف شيئًا عن صاحبها، يُدرك أنّ فيها شيئًا من سيرة ذاتية صيغت شعريًّا بطريقة مبتكرة كانت على تماس مع السرد.
زقطان لم ينف ذلك، وأشار في حديث خاص لـ "ضفة ثالثة" إلى أن "جميعنا، على ما أظن، يكتب حينما يكتب شيئًا من سيرة شخصية، فهي موجودة في مختلف الأعمال الإبداعية"، لكن مجموعة "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، وكما لفت صاحبها، "ليست سيرة شخصية بالمعنى الشامل بقدر ما هي اختيارات من مناطق زمانية وأحداث بعينها، وهي جزء من سيرة بدأت مع بداية كتابتي".
وربّما كان هذا مشروعًا مؤجلًا لدى زقطان، قبل أن يقرّر التوجه إلى حيث عجائب أبيه التي هي عجائب وطن وعجائب قضيّة في الوقت ذاته، في ولادة قد تكون متأخرّة، أو تعسرت لأسباب ما، أو قرّر صاحبها تأجيلها أكثر من مرّة.
وكرّر زقطان مُجددًا: هي بلا شك جزء من سيرة ذاتية، بطريقة أو بأخرى، وفي نهاية المطاف، أرى أن المشروع الكامل للشاعر خاصة، والمبدع عامة، بتصوري ليس إلا قطعًا فسيفسائية من سيرته الذاتية، فلا يمكن لأي مبدع أن ينحي، أو يتخلص، بوعي أو دونه، من تجربته الشخصية، وإلا فإنه سيكتب بلا مكان وبلا ذاكرة، ما من شأنه أن يجرّد العمل الإبداعي من أهم مرتكزاته وروابطه... كان ثمّة محاولات في هذا الإطار سبقت هذه المجموعة التي جاءت، إن جاز لي التعبير، في سياق تطوّر الشكل لديّ، بحيث بدا الأمر مُمكنًا بطريقة مختلفة.
"هناك تركيز واضح ومقصود في المجموعة على السرد، وهي تجربة لا أعرف إلى أي مدى قد تنجح فنيًّا، لكني وجدت أن هذا الشكل المؤجّل الذي انتظر فترة طويلة كي ينضج، حسب تصوّري، أو أن يصل إلى منطقة يبدو فيها مناسبًا ليُطرح".
ولعلّ هذا ما يبرّر للقارئ، وأنا من بينهم، تقسيم المجموعة الشعرية إلى فصول، وكأني بغسّان زقطان يكتب رواية ما أو قصصًا قصيرة ذات نكهة شعرية، وموسيقى داخلية بعيدة عن الصورة النمطية للشعر الكلاسيكي.
"زقطان: المشروع الكامل للشاعر خاصة، والمبدع عامة، بتصوري ليس إلا قطعًا فسيفسائية من سيرته الذاتية" |
وكما أشار زقطان، فإنه عمد إلى إيجاد روابط ما، وخلق شخوص داخل نصوص مجموعة "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، ففي الجزء المعنون بـ"حدث في تلك الحرب" يمكن ملاحظة أن الشخصيات حاضرة، وتنمو وتتحول وتتكيف مع الأحداث... "ثمة تنويعات، وانقطاعات، وثمة مناطق فارغة في العمل، وتم إفراغها بشكل متعمد، فأنا أعتمد على الجسور أكثر ممّا أعتمد على الممرات، أو الطرق الآمنة".
وبذلك لم يغتل زقطان في مجموعته هذه مساحة القارئ في إملاء هذه الفراغات من جهة، علاوة على منحه إياه مساحات شاسعة في التأويل، فكان جزءًا، ليس فقط من تعبئة الفراغات بما يتناسب وتجربته، فيأتي التلقي مختلطًا ما بين تجارب الكاتب والقارئ، بالإضافة إلى أن الشاعر هنا، وهو بارع بما يؤهله ليكون الرقم الأبرز شعرّيًا في فلسطين الآن، في رأيي، ومن بين الأهم موهبة وحضورًا على المستويين العالمي والعربي من بين شعراء العربية، منحه لتشكيل مساحته ومعماره الخاص داخل نصوص هي ليست له، فيزخرفها بنقوشه مُؤولًا.
ويرى زقطان أن "الشراكة مع القارئ هي جزء من استكمال النص، بالنسبة لي على الأقل، فأنا أبحث منذ مجموعات سابقة، وفي كتب سردية، عن شراكة ما بيني وبين المتلقي، ونجاح هذا مرهون برأي المتلقي نفسه"، لافتًا إلى أنه في مجموعته "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، وقبلها "تحدث أيها الغريب تحدث"، وصدرت عن منشورات المتوسط في إيطاليا، كان ثمة راوٍ حمل طاقة السرد، والنثر المحمول شعريًا، بعيدًا عن أن يكون "يقينيًّا"، فلا إجابات بل أسئلة كثيرة، وهناك غياب واضح ومقصود، وبرأيي هذا طبيعي في الشعر خاصة، والإبداع عامة، لليقين، فلا إجابات حاسمة، أو حقائق ملهمة، وهنا تتأتى مناطق الشراكة بين ما أكتب وبين القارئ، أي مساحات الأسئلة، والنهايات المفتوحة، والمواربة، بحيث يجد القارئ نفسه، ويستطيع أن يملأ الفراغات بأسئلته الخاصة هو، فليست مهمة الشعر برأيي تقديم الإجابات، لكونه عملية إعادة إنتاج.
وحول القصيدة القصيرة، أو قصيدة "الومضة" كما يطلق عليها بعضهم، والتي لربما شكلت مفاصل داخل عناوين الجزء السادس والأخير من مجموعة "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي"، قال زقطان بوضوح: القصيدة القصيرة، أو التي أطلق عليها البعض اسم "الومضة"، هي قصيدة في النهاية، خاصة عندما تحمل معرفتها وجماليّاتها ولغتها الخاصة، ولكن "الهايكو" حكاية أخرى فهي ابنة ثقافة أخرى تشكلت عبرها وبها وداخلها على مدار فترة زمنية طويلة، وأرى أن ما يُكتب عربيًا لا يمكن إدراجه في إطار "الهايكو" كقصيدة ذات هوية يابانية، ومع ذلك، فإنني لا يهمني الشكل بقدر ما يهمني تماهيه مع المعنى في النصوص، وتوظيفه بالطريقة التي تتوافق وخدمة المعنى.
"لم ينكر زقطان أنه كان لحصوله على جائزة "غريفين" العالمية في عام 2013 دورٌ في انفتاح العالم على نصوصه شعرًا وسردًا" |
صدرت لزقطان، أخيرًا أيضًا، ترجمة ما يمكن وصفه بالجزء الثالث من مختاراته الشعرية إلى الإنكليزية، ما يغطي نخبة من أشعاره منذ بداياته وحتى العام 2020... يقول: كنتُ محظوظًا بأن مترجمي فادي جودة، شاعر في الأساس، ومترجم مقتدر، وسبق أن ترجم محمود درويش وغيره، ويحظى بمكانة مرموقة عالميًّا، وقد ساهم بشكل كبير في نشر مختاراتي الأولى "كطير من القش وقصائد أخرى" عن دار نشر "ييل" العالمية العريقة في الولايات المتحدة الأميركية، ليفتح باب الترجمة لغيره من نصوص زقطان إلى الإنكليزية، كان آخرها "غرباء بمعاطف خفيفة"، عن دار "سيغل" العالمية الشهيرة، من ترجمة روبن مورغ، ومن المقرر تعميمها في المكتبات صيف هذا العام.
ولم ينكر زقطان أنه كان لحصوله على جائزة "غريفين" العالمية، في عام 2013، دور في انفتاح العالم، وخاصة ذلك الناطق بالإنكليزية، على نصوصه شعرًا وسردًا... قال: المميّز في هذه الجائزة أن لا ترشيح فيها، فاللجنة التي تختارها الجائزة هي من تحدد القائمة القصيرة، ومن ثم الفائز، بحيث تضم القائمة ستة شعراء، ثلاثة منهم كنديّون، وثلاثة من جنسيّات أخرى حول العالم، وفي مرحلة لاحقة، يتنافس على الجائزة اثنان من الشعراء، أحدهما كندي، والآخر لا يحمل الجنسية الكندية... أتذكر أنني ومترجمي حينذاك، فادي جودة، تفاجأنا باختيار ترجمة كـ"طير من القش وقصائد أخرى" للقائمة القصيرة، لكنها كانت قد حظيت باحتفاء نقدي وإعلامي في أميركا والعالم، وربّما هو ما أهلها للفوز بجائزة "غريفين"، وكانت نافست على جوائز عالمية عدّة.
وشارك زقطان، أخيرًا، بفعاليات ثقافية عدّة هذا العام، بدأت من البندقية بإيطاليا، واشتملت على ثلاثة محاور، من بينها مشاركته في مهرجان ضم أربعة شعراء عالميين، وحققت حضورًا لافتًا على مستوى الجمهور والنقاد والإعلاميّين، ووقع خلالها مختاراته بالإيطالية، كما ناقشها في عديد الجامعات والمؤسسات، علاوة على تنظيم قراءة خاصة له بتقديم ورعاية المناضلة الأممية لويزا مورغنتيني، النائبة السابقة لرئيس البرلمان الأوروبي.
وكانت بعدها مشاركته في مهرجان بابل للثقافة والفنون في بابل بالعراق، وتأتي بعد ثلاثة عقود على مشاركته في أمسية شعرية هناك. وعنها كتب في صفحته في "فيسبوك": في بغداد بعد ثلاثين سنة... في نفس الفندق. فكرت وأنا اصعد إلى الغرفة أن الفتى العشريني الذي أصرّ على مساعدتي في حمل حقيبتي الخفيفة... أنني كنتُ في سنّه عندما نزلت هنا في المرة الأولى، وأنه لم يكن قد ولد بعد، وبعدها كتب وهو لا يزال حتى تاريخ نشر المقال هناك: اليوم في بابل التقيت الشاعر طلال حيدر للمرّة الأولى، وأصغيت لصوته وهو يصعد ويخلخل الهواء، وينقش اسمه على ذهبها، ثم يصبح الإصغاء غنيمة.
وكان قبل أن يغادر إلى بابل أكد لـ"ضفة ثالثة": كانت زيارتي الأخيرة إلى العراق في عام 2003، وكانت عبارة عن زيارة تضامنية لشعراء وكتاب فلسطينيين، رفقة الشاعر أحمد دحبور، والروائي رشاد أبو شاور، وكنّا أول من وصل إلى بغداد ما بعد حرب الخليج الثانية "عاصفة الصحراء".
وحول ندرة أمسياته الشعرية في فلسطين، أجاب زقطان: علاوة على أنه ليس من السهل مواجهة الجمهور، خاصة في أمسية شعرية، لا بد من سياق تأتي هكذا قراءات في إطاره، بحيث لا يكون الظهور غير مبرّر... أتحفظ على الظهور الدائم، وتكرار القراءات للجمهور ذاته... أي ظهور يجب أن يكون له سياقه، وأعترف أنني أخشى مواجهة الجمهور، وأعتقد أن الاعتراف برهبة الجمهور فيه تقدير له، واحتفاء به، واحترام لذائقته.
وأخيرًا، كان السؤال بخصوص حصوله على جائزة محمود درويش للإبداع عن مؤسسة محمود درويش في مدينة رام الله عام 2016، فاعترف: كنت مهجوسًا بها. كانت تعنيني إلى أبعد أحد، وكانت سعادتي بها كبيرة جدًا، لكونها تتويجًا لصداقة تواصلت بيني وبين درويش على مدار عشرين سنة. في هذه الحالة ثمة ما يتجاوز الجائزة.
وبالإضافة إلى انتظار قرّاء غسان زقطان بالعربية بدء توزيع مجموعته "ذاهب لأصغي إلى عجائب أبي" على نطاق واسع، والمختارات الشعرية "غرباء بمعاطف خفيفة" لقرائه بالإنكليزية، سيكون قرّاء الإنكليزية، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الجاري، على موعد مع ترجمة نصه السردي السيري "عربة قديمة بستائر"، التي صنّفها البعض روايةً، عن دار "سيغل" أيضًا كسابقتها، ومن ترجمة سام وايدلر. أما قرّاء زقطان بالإيطالية فسيكونون على موعد بنهاية العام مع المختارات الشعرية "مشاة ينادون أخوتهم"، بترجمة سيمون سيبيليو.