حول غناء قصائد خالدة: هل المغنون هم الرابحون؟
مناهل السهوي 12 مارس 2023
موسيقى
كارول سماحة
شارك هذا المقال
حجم الخط
أصدرت المغنية اللبنانية كارول سماحة حديثًا ألبومًا غنائيًا باسم "الألبوم الذهبي" يحتوي قصائد للشاعر الفلسطيني محمود درويش، لاحقًا أصدرت مؤسسة "محمود درويش" بيانًا تؤكد فيه أن كلمات أغنية "ستنتهي الحرب" ليست لمحمود درويش، إنما من إنتاج مواقع التواصل الإجتماعي وهي دون المستوى المعروف به درويش، كما قال البيان أن هناك مقطعًا وحيدًا مجتزأ لمحمود من قصيدة "وعاد في كفن". تثير هذه الحادثة أسئلة حول استخدام قصائد لشعراء كبار في الغناء المعاصر من جهة، وكفاءة المغني في تقديم هذه القصائد من جهة أخرى. اليوم وفي العصر الحديث هل تحتاج القصيدة إلى الغناء، أم أن الموسيقى هي من تنتظر القصائد العظيمة؟
مدارٌ واحد لكوكبي الغناء والقصائد
غناء القصائد هو جزء من هوية الموسيقى العربية، بدأت مع عمالقة الطرب وما زالت مستمرة إلى اليوم، ابتداءً من أم كلثوم، فيروز وفريد الأطرش وصولًا إلى كاظم الساهر، أصالة، ماجدة الرومي وكارول سماحة. وخلّد صباح فخري قصيدة "قلْ للمليحة في الخمار الأسود" لربيعة بن عامر، وهو شاعر من العصر الأموي، وغنت أم كلثوم "أراكَ عصي الدمع" لأبو فراس الحمداني وغنت فيروز "يا عاقد الحاجبين" للأخطل الصغير، كلها قصائد خٌلدت لأنها غنيت بالدرجة الأولى ولأنها قصائد قوية بالدرجة الثانية، لكن العكس أيضًا صحيحٌ، أي أن القصائد خُلدت لأنها قوية ولم يكن دور الموسيقى سوى هامشي والدليل أن هناك قصائد أخرى غنيت لكنها لم تستمر، تختلف الآراء في هذه الناحية، لكن لا يمكن تجاهل أن هناك قصائد شكّلت مع الموسيقى محطات فارقة في الغناء العربي، واحدٌ من أكثر المغنين الذين استخدموا القصائد في العصر الحديث هو كاظم الساهر، إذ غنى معظم قصائد الشاعر السوري نزار قباني، بعد تعرفه عليه ونشوء صداقة بين الثنائي لاحقًا، والتي أنتجت الكثير من روائع الغزل والحب، فأغنية مثل "زيديني عشقًا"، و"هل عندك شك" وغيرها، ما زالت تسمع على نطاق واسع وتشكل إحدى العلامات الفارقة في الغناء العربي، واليوم لا يمكن إلا تذكّر نزار حين التحدث عن كاظم، والعكس صحيحٌ أيضًا، كأن القصائد والموسيقى صارتا أختين وكوكبين يدوران في مدار واحد، اللحن الداخلي والآخر الخارجي. يجد البعض أن شهرة كاظم هي بسبب قصائد نزار الرومانسية، لكن لا يمكن تجاهل الخلطة الخاصة بهذا الثنائي، إذ أضاف اللحن خصوصية لهذه القصائد اكتملت مع صوت كاظم وشخصيته، وهذا ما ينطبق على مغنين آخرين، هناك خلطة ساحرة بين الموسيقى والقصائد، هذه الخلطة تكون مثالية في بعض الأحيان كما في حالة نزار وكاظم.
العصر الاستهلاكي ينفي القصائد
في عالم تحصل فيه على أي معلومة بضغطة زرّ على محرك البحث غوغل، باتت رغبة الفرد تتناقص في القراءة والوصول إلى معلومة أو قراءة قصيدة جديدة، وفي حين نقضي ساعات ونحن نشاهد "ريلز" و"الانستغرام" و"الفيسبوك"، ربما لن يخطر لنا العودة لقراءة قصيدة لشاعر مات منذ سنوات طويلة، هذا بالضبط ما تفعله الموسيقى بالقصائد، إنها تجعلها قابلة للظهور وللسماع، تمنحها فرصًا جديدة للعودة ولو بأشكال أخرى. تكثر الأسئلة اليوم حول قراءة الشعر ورغبة الناس في ابتياع كتابٍ لإمضاء ساعة في قراءته، يتناقص الاهتمام بالشعر، هذه حقيقة لا مفرّ منها، حتى في عالم التسويق باتت دور النشر تدير ظهرها للشعر مقابل نشرها للرواية والكتب المترجمة وكتب التنمية البشرية، وأمام سؤال كيف سننقذ الشعر من آلة العصر الحديث؟ تبدو الأغاني حلًا إسعافيًا لتذكير الناس بجمال الشعر من جهة ولمنح قصائد كُتِبت منذ عشرات السنين حياةً جديدة، لكن بثوب مختلف أو بهيئة تناسب من يسارعون للحصول على السهل والجاهز والجذّاب. ربما علينا الاعتراف اليوم، حتى بالنسبة إلى الشعر ومهما كانت القصيدة جيدة، إن لم يكن المنُتج مبهرًا وجذابًا لأجيال تعلمت أنماط الاستهلاك السريع، لن يفكر أحد بالحصول عليه إن لم يسوّق له جيدًا، ونعم هذا أمرٌ محزن، حيث تموت مئات القصائد في الزوايا على مهل.
حصل جدل منذ حوالى السنتين حول قصيدة "إذا هجرت" للحلاج، وهي من القصائد التي غناها كثيرون مثل المغنية اللبنانية جاهدة وهبي، لكن وقبل 5 سنوات قررت مغنية شابة تدعى نينا عبد الملك غناءها، وبموسيقى عصرية وإيقاع غربي عكس الطريقة الكلاسيكية لمثل هذه القصائد، وقدمتها عبر فيديو كليب، كل هذا قد يبدو بعيدًا عن النمط الزاهد للحلاج، إذ احتوى الفيديو على حركات راقصة واستعراضٍ للثياب وغيرها من اللقطات التي لا تشبه الروح التي كتب بها الحلاج، لكن رغم ذلك حققت الأغنية نجاحًا كبيرًا، إذ استُمع إليها على صفحة المغنية الرسمية 5.1 مليون مرة، بينما لم تحقق الأغنية على صفحة جاهدة وهبي سوى 47 ألف مشاهدةٍ، بالطبع المقارنة هنا ليست بين الفنانتين إنما في طريقة التقديم والتسويق التي تحدثنا عنها سابقًا، تمكنت نينا عبد الملك من خلال مزيج الموسيقى والاستعراض من الوصول إلى شريحة أكبر بغض النظر عن جودة العمل.
من جهة أخرى، فإن هفوة المغنية كارول سماحة والملحن تيسير حداد في تلحين كلمات ليست لمحمود درويش، تعكس بشكل أساسي الاستسهال، وسط فوضى وسائل التواصل الاجتماعي، التي سمحت لكثير من الشعراء الجدد والقدامى وحتى لأولئك الذين لا يملكون الموهبة في نشر قصائدهم، وهو استسهال يصل حدّ عدم تمييز قصيدة ليست لمحمود درويش فقط لأن اسمه كتب تحتها.
لا شك في أن هناك تفسيرات عديدة لعملية نسب قصائد وكتابات إلى غير كتّابها، ولكن المصيبة تظل كامنة في استسهال النقل الذي يصل إلى تلحين قصيدة ليست للشاعر. ووسط هذه الفوضى لا طريقة في الحقيقة للتأكد من نسب القصائد سوى الجهد الشخصي والبحث المطول في الكتب والمراجع والذي قد لا يكون أمرًا شيقًا للكثيرين.
مناهل السهوي 12 مارس 2023
موسيقى
كارول سماحة
شارك هذا المقال
حجم الخط
أصدرت المغنية اللبنانية كارول سماحة حديثًا ألبومًا غنائيًا باسم "الألبوم الذهبي" يحتوي قصائد للشاعر الفلسطيني محمود درويش، لاحقًا أصدرت مؤسسة "محمود درويش" بيانًا تؤكد فيه أن كلمات أغنية "ستنتهي الحرب" ليست لمحمود درويش، إنما من إنتاج مواقع التواصل الإجتماعي وهي دون المستوى المعروف به درويش، كما قال البيان أن هناك مقطعًا وحيدًا مجتزأ لمحمود من قصيدة "وعاد في كفن". تثير هذه الحادثة أسئلة حول استخدام قصائد لشعراء كبار في الغناء المعاصر من جهة، وكفاءة المغني في تقديم هذه القصائد من جهة أخرى. اليوم وفي العصر الحديث هل تحتاج القصيدة إلى الغناء، أم أن الموسيقى هي من تنتظر القصائد العظيمة؟
مدارٌ واحد لكوكبي الغناء والقصائد
غناء القصائد هو جزء من هوية الموسيقى العربية، بدأت مع عمالقة الطرب وما زالت مستمرة إلى اليوم، ابتداءً من أم كلثوم، فيروز وفريد الأطرش وصولًا إلى كاظم الساهر، أصالة، ماجدة الرومي وكارول سماحة. وخلّد صباح فخري قصيدة "قلْ للمليحة في الخمار الأسود" لربيعة بن عامر، وهو شاعر من العصر الأموي، وغنت أم كلثوم "أراكَ عصي الدمع" لأبو فراس الحمداني وغنت فيروز "يا عاقد الحاجبين" للأخطل الصغير، كلها قصائد خٌلدت لأنها غنيت بالدرجة الأولى ولأنها قصائد قوية بالدرجة الثانية، لكن العكس أيضًا صحيحٌ، أي أن القصائد خُلدت لأنها قوية ولم يكن دور الموسيقى سوى هامشي والدليل أن هناك قصائد أخرى غنيت لكنها لم تستمر، تختلف الآراء في هذه الناحية، لكن لا يمكن تجاهل أن هناك قصائد شكّلت مع الموسيقى محطات فارقة في الغناء العربي، واحدٌ من أكثر المغنين الذين استخدموا القصائد في العصر الحديث هو كاظم الساهر، إذ غنى معظم قصائد الشاعر السوري نزار قباني، بعد تعرفه عليه ونشوء صداقة بين الثنائي لاحقًا، والتي أنتجت الكثير من روائع الغزل والحب، فأغنية مثل "زيديني عشقًا"، و"هل عندك شك" وغيرها، ما زالت تسمع على نطاق واسع وتشكل إحدى العلامات الفارقة في الغناء العربي، واليوم لا يمكن إلا تذكّر نزار حين التحدث عن كاظم، والعكس صحيحٌ أيضًا، كأن القصائد والموسيقى صارتا أختين وكوكبين يدوران في مدار واحد، اللحن الداخلي والآخر الخارجي. يجد البعض أن شهرة كاظم هي بسبب قصائد نزار الرومانسية، لكن لا يمكن تجاهل الخلطة الخاصة بهذا الثنائي، إذ أضاف اللحن خصوصية لهذه القصائد اكتملت مع صوت كاظم وشخصيته، وهذا ما ينطبق على مغنين آخرين، هناك خلطة ساحرة بين الموسيقى والقصائد، هذه الخلطة تكون مثالية في بعض الأحيان كما في حالة نزار وكاظم.
علينا الاعتراف اليوم حتى بالنسبة إلى الشعر ومهما كانت القصيدة جيدة، إن لم يكن المنُتج مبهرًا وجذابًا لأجيال تعلمت أنماط الاستهلاك السريع، لن يفكر أحد بالحصول عليه إن لم يسوّق له جيدًا |
في عالم تحصل فيه على أي معلومة بضغطة زرّ على محرك البحث غوغل، باتت رغبة الفرد تتناقص في القراءة والوصول إلى معلومة أو قراءة قصيدة جديدة، وفي حين نقضي ساعات ونحن نشاهد "ريلز" و"الانستغرام" و"الفيسبوك"، ربما لن يخطر لنا العودة لقراءة قصيدة لشاعر مات منذ سنوات طويلة، هذا بالضبط ما تفعله الموسيقى بالقصائد، إنها تجعلها قابلة للظهور وللسماع، تمنحها فرصًا جديدة للعودة ولو بأشكال أخرى. تكثر الأسئلة اليوم حول قراءة الشعر ورغبة الناس في ابتياع كتابٍ لإمضاء ساعة في قراءته، يتناقص الاهتمام بالشعر، هذه حقيقة لا مفرّ منها، حتى في عالم التسويق باتت دور النشر تدير ظهرها للشعر مقابل نشرها للرواية والكتب المترجمة وكتب التنمية البشرية، وأمام سؤال كيف سننقذ الشعر من آلة العصر الحديث؟ تبدو الأغاني حلًا إسعافيًا لتذكير الناس بجمال الشعر من جهة ولمنح قصائد كُتِبت منذ عشرات السنين حياةً جديدة، لكن بثوب مختلف أو بهيئة تناسب من يسارعون للحصول على السهل والجاهز والجذّاب. ربما علينا الاعتراف اليوم، حتى بالنسبة إلى الشعر ومهما كانت القصيدة جيدة، إن لم يكن المنُتج مبهرًا وجذابًا لأجيال تعلمت أنماط الاستهلاك السريع، لن يفكر أحد بالحصول عليه إن لم يسوّق له جيدًا، ونعم هذا أمرٌ محزن، حيث تموت مئات القصائد في الزوايا على مهل.
حصل جدل منذ حوالى السنتين حول قصيدة "إذا هجرت" للحلاج، وهي من القصائد التي غناها كثيرون مثل المغنية اللبنانية جاهدة وهبي، لكن وقبل 5 سنوات قررت مغنية شابة تدعى نينا عبد الملك غناءها، وبموسيقى عصرية وإيقاع غربي عكس الطريقة الكلاسيكية لمثل هذه القصائد، وقدمتها عبر فيديو كليب، كل هذا قد يبدو بعيدًا عن النمط الزاهد للحلاج، إذ احتوى الفيديو على حركات راقصة واستعراضٍ للثياب وغيرها من اللقطات التي لا تشبه الروح التي كتب بها الحلاج، لكن رغم ذلك حققت الأغنية نجاحًا كبيرًا، إذ استُمع إليها على صفحة المغنية الرسمية 5.1 مليون مرة، بينما لم تحقق الأغنية على صفحة جاهدة وهبي سوى 47 ألف مشاهدةٍ، بالطبع المقارنة هنا ليست بين الفنانتين إنما في طريقة التقديم والتسويق التي تحدثنا عنها سابقًا، تمكنت نينا عبد الملك من خلال مزيج الموسيقى والاستعراض من الوصول إلى شريحة أكبر بغض النظر عن جودة العمل.
من جهة أخرى، فإن هفوة المغنية كارول سماحة والملحن تيسير حداد في تلحين كلمات ليست لمحمود درويش، تعكس بشكل أساسي الاستسهال، وسط فوضى وسائل التواصل الاجتماعي، التي سمحت لكثير من الشعراء الجدد والقدامى وحتى لأولئك الذين لا يملكون الموهبة في نشر قصائدهم، وهو استسهال يصل حدّ عدم تمييز قصيدة ليست لمحمود درويش فقط لأن اسمه كتب تحتها.
لا شك في أن هناك تفسيرات عديدة لعملية نسب قصائد وكتابات إلى غير كتّابها، ولكن المصيبة تظل كامنة في استسهال النقل الذي يصل إلى تلحين قصيدة ليست للشاعر. ووسط هذه الفوضى لا طريقة في الحقيقة للتأكد من نسب القصائد سوى الجهد الشخصي والبحث المطول في الكتب والمراجع والذي قد لا يكون أمرًا شيقًا للكثيرين.