عصبيه قبليه
Tribalism - Tribalisme
العصبية القبلية
مفهوم العصبيَّة القبليَّة
إذا ذكر هذا التركيب (العصبيَّة القبليَّة) تخيَّل الناس اليوم له ظلالاً غير مرغوب فيها، لما صار يلازمه من إعانة الظالم على ظلمه لأنَّ رابطاً من النسب يربط المُعين له به؛ ولكن عند الرجوع إلى كتب اللُّغة لمعرفة أصل العصبية يظهر أنها في الأصل بريئة من هذه الظلال، فهي مأخوذة من العصب وهو الشَّدُّ والجمع، ومنه العصابة وهي العمامة، لأنَّ الرجل يشد بها رأسه، وكذلك كل ما يُعصَب به الكسر ونحوه، ومنه عصبة الرجل، وهم بنوه وأقرباؤه لأبيه، لأنه بهم يشدُّ أزره ويتقوَّى، والعصبية أن يدعو الرجل عصبته إلى التجمُّع لنصرته، فالأصل أن العصبيَّة تحمل معنى الاجتماع وشدِّ الأزر والتوحد والغيرة على ذي الرحم والجماعة، وهي أمور من الفطرة السليمة في حب القريب لقريبه، وهو أمر حسن في المجتمع القائم على العدل، غير أنه إذا فقد العدل، وصارت الغلبة فيه للقوي على الضعيف، كما هي الحال في المجتمع الجاهلي وما أشبهه، تحولت العصبية إلى أن يميل الرجل إلى نصرة قبيلته أو جماعته على من سواهم، سواء أكانوا ظالمين أم مظلومين.
العصبية القبلية في الجاهلية وبعض مظاهرها
كان المجتمع العربي في الجاهلية مجتمعاً قبليّاً في البوادي والحواضر تحكمه القوانين والأعراف التي تضمن للقبيلة بقاءها، ولذلك شاعت بينهم العصبية بالمعنى الذي يحمله المثل الجاهلي «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، وكانت هذه العصبيَّة على طبقات تناسب الجماعة التي ينتسب إليها أحدهم، فهو في قبيلته يتعصب لأسرته على سائر الأسر، والبطن الذي هو منه على سائر البطون، ويتعصب للقبائل التي يجمعها مع قبيلته أب واحد قريب على القبائل التي يجمعها مع قبيلته أب بعيد، وإلى جانب رابطة الدَّم هذه كانت روابط أخرى كالولاء والجوار والتحالف والمصاهرة، وكلُّها داعيةٌ إلى ضروب من التَّعصب متفاوتة القوة، وتقتضي هذه العصبيَّة أموراً تدلُّ عليها أمثالهم وأشعارهم، ومنها أن يكون همُّ القبيلة والدفاع عنها مقدَّماً على ما سواه من الهموم الخاصَّة، ولاسيَّما إذا كان الرَّجل سيِّداً في قبيلته، وفي ذلك يقول عامر بن الطُّفيل العامريُّ:
وإني وإن كنت ابن سيِّد عامرٍ
وفارسها المشهور في كل موكبِ
فما سوَّدتني عامر عن وراثـةٍ
أبى الله أن أســمو بأم ولا أبِ
ولكنني أحمي حماهــا وأتقي
أذاها، وأرمي من رماها بمنكبِ
وتقتضي أن تنصر القبيلةُ أيَّ فردٍ منها على من سواه، ظالماً كان أو مظلوماً، من دون أن يسـألوا عن الحق إلى أيِّ جانبٍ هو، ولذلك أثنى قريط بن أنيف العنبري على بني مازن لاجتماعهم عند الحفيظة، فقال:
لا يسألون أخاهم حين يندبُهم
في النَّائبات على ما قال برهانا
ويظهر تعصب الجاهليِّ لأقاربه الأدنين على أقاربه الأبعدين في مثل قول قيس بن زهير العبسي حين قتـل حَمَل بن بدر الفَزَاري الذُّبياني في حربٍ كانت بين الحيِّين، وكلاهما من غَطَفان:
شفيتُ النَّفس من حَمَلِ بنِ بدرٍ
وسيفي من حذيفةَ قد شفاني
فإن أك قد بَرَدْتُ بهم غليــلي
فلم أقطع بهـم إلا بنــاني
وكان على القبيلة أن تحمل مجتمعـةً عواقب أي جناية يجنيها أحد أفرادها أو تُجنى عليها، ولذلك قالوا في أمثالهم: «في الجريرة تشترك العشيرة». ومن مظاهر العصبيَّة القبليَّة أن الجاهليَّ كان عليه أن يسير في ركاب الجماعة، ولو كان يراهم على غير هدى، حفاظاً على وحدة كلمتهم، ويصوِّر ذلك دريد بن الصِّمَّة في قوله:
وهل أنا إلا من غَزِيَّةَ إن غوت
غويتُ، وإن ترشدْ غزيةُ أرْشُدِ
ولكنَّ أبرز تلك المظاهر هي الدَّعوة إلى الأخذ بالثأر، والتَّشدد في ذلك، والرَّغبة عن قبول الديات التي تحقن الدِّماء، وشدة النَّكير على من يرضى بها، وازدراء من يتهاون في طلب الثأر، لأنَّ الدَّم لا يغسله إلا الدَّمُ، ولذلك قالت كبشة بنت معدي كرب:
فإن أنتم لم تثـأروا واتَّديتُمُ
فمشُّوا بآذان النَّعام المُصَلَّمِ
وكان الأخذ بالثأر منبعاً للفخر بالحفاظ على الدِّماء، كقول قيس بن الخطيم:
ثأرت عَديّاً والخطيم ، فلم أُضِعْ
ولايةَ أشياخٍ جُعِلْتُ إزاءها
على أن ذلك كلَّه لا يعدم من يخرقه ويخرج عليـه، بل إن من تكثر جناياته من أبناء القبيلة ويجرُّ عليها عداوة القبائل كانت تخلعه وتتبرأ منه في المواسم المشهودة.
الإسلام وموقفه من العصبية القبلية
إذا كان الأصل في العصبية ما سبق من تجميع القوم، وشدِّ بعضِهم بعضاً، فإن الإسلام لم يكن ليقف موقفاً معادياً لها لو بقيت على هذا الأصل، لأنه دين يدعو إلى تجمُّعِ الأمَّة كلِّها على أسـاس أُخُوَّة الدِّين، وإلى تجميع أفراد الأسر والقبائل، وجاء في الحديث: «تعلَّموا من أنسـابكم ما تَصِلُون به أرحامَكم»، ولما كانت حال العصبية القبلية قد آلت في الجاهلية إلى أن ينصر الرجل قومه ولو كانوا ظالمين وقف منها موقفاً معادياً، ودعا إلى تركها، وذم الحميَّة القائمة على أساس قبلي، فقال تعالى:)إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميَّةَ حميَّةَ الجاهليَّة( وذمَّ الرَّجل العصبيَّ فقد جاء في الحديث: «العصبيُّ من يعين قومه على الظُّلم». وجاء فيه أيضاً: «ليس منَّـا من دعا إلى عصبيَّةٍ أو قاتل عصبيَّةً» ودعا النبيُّ إلى تصحيح الاتجاه في العصبية حين تمثَّل بقول العرب: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» فلما سـئل كيف يعين المرء أخاه إن كان ظالماً قال: «أن يردَّه عن ظُلمه»، وعلى نهج النبيِّr سـار الخلفاء الراشدون فقدَّموا من قدَّمه الإسلام، وأخَّروا من أخَّره، وإن كان من أشراف قومه في الجاهلية، وأعطوا النَّاس أُعطياتهم بناء على سابقتهم في الإسلام، لا على أنسابهم، وكان من المظاهر الحسنة للعصبية القبلية ما كان من تنافسٍ بين الأوس والخزرج في نصرة الإسلام، فلا يصنع الأوس شيئاً إلا صنع الخزرج صنيعهم، ومنه ما كان من تنافسٍ القبائل في البلاء الحسن أيام الفتوح.
على أن ذلك كلَّه لم يمنع بعض المظاهر السيئة للعصبية أن تظهر من خلال فعل أو قول يؤكد تمكُّن العصبية من نفوسهم، ولا يعدم المتتبع لأخبـار العرب بعد الإسـلام الوقوف على شيء من ذلك، ففي بعض الحوادث قال رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ يحرض الأنصار على المهاجرين: «قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمِّن كلبك يأكلْك». ولما توفي النبيr ظهرت النزعة القبلية في عدد من المواقف بدءاً بسقيفة بني ساعدة، كاعتراض نفر من قريش والأنصار على خلافة أبي بكرr، وحركة الردَّة التي ظهرت في أنحاء الجزيرة العربية، فوقف أبو بكر ومن حوله من كبار الصحابة موقفاً حازماً من تلك النزعات، حتى أخمدت نارها، ثم إنها عادت للظهور بعد مقتـل عثمانt، وبرزت العصبية للتجمعات القبلية الكبيرة حين انقسم المسلمون إلى جيشين كبيرين يقتتلان، أحدهما إلى جانب عليّt والآخر إلى جانب معاوية، وكان في الجيشـين قبـائل من نزار المُضريَّة وقحطان اليمانيَّة، فكانت تلك القبائل تُظهر من القتال والمواقف ما يدلُّ على تلك العصبية، ومن آثار ذلك في الشِّعر ما جاء على لسان أبي الطُّفيل الكناني، وكان قومه في صفِّ عليٍّ، إذ يذكر ما كان من قتالهم لقبائل من أهل اليمن كانوا إلى صف معاوية:
لقينا قبائل أنســابُهم
إلى حضرموت وأهل الجَنَدْ
فلما تنادوا بآبائهــم
دعونا مَعَــدّاً ونعم المَعَدّ
واشتدَّ أوار هذه النزعة في العصر الأموي، إذ كانت خطورتها في أنها صارت تضم الكتل القبلية الضخمة، فكانت فيه وقائع كثيرة بين قبائل قيس عيلان وقبائل اليمن في الشـام بعد وقعـة مرج راهط التي مال فيها القيسيون إلى عبد الله بن الزبير، ومال اليمنيون إلى بني أمية، وكذلك الوقائع التي كانت في الجزيرة الشَّامية بين قيس وتغلب، حتى إن بعض القبائل ترك انتماءه الذي كان يُعرف به قبل الإسلام، إلى انتماء لم يُشتهر به، فقبائل قضاعة كانت تعد في قبائل مَعَدّ، ولكنها لما كانت في الشام ومالت إلى بني أمية وحالفت قبائل اليمن انتسبت إلى حمير، وقال بعضهم:
يا أيها الداعي ادعنا وبشِّرِ
وكن قضـــاعيّاً ولا تنزَّرِ
نحن بنو الشَّيخ الهجان الأزهر
قضاعــةَ بنِ مالكِ بنِ حِمير
وتركت هذه الوقائع أثرها الواضح في أشـعار العصر الأموي، كقول القطامي يخاطب كلبا، وهي أكبر قبائل قضاعة:
أكلبُ هلمَّ نحن بنو أبيكم
ودعوى الزُّور منقصة وعارُ
لقد علمت كهولهم القدامى
إذا قعدوا كأنّهم النِّســـار
بأن قضاعة الأولى معـد
لِقرم لا تغطُّ له البِكـــار
فإن تَعْزِل قضاعة عن مَعَدٍّ
تَصِرْ تبعاً وللتَّبع الصَّغـار
ثم إن العصبية القبلية في بعض البلدان المفتوحة كالأندلس كانت سبباً في وقوع الفتن بين الكتل القبلية الكبيرة، ولاسيما في القرن الثاني الهجري، إذ تخلى المتعصبون عن وحدة المعتقد والمبادئ ورجحوا عليها وحدة النسب والمصالح، على أن العصبية القبلية تختلف من بيئة إلى أخرى، حتى إنها تكاد تختفي بمحاسنها ومساوئها في المجتمعات التي تحضَّرت ومرَّ عليها زمن بعد الإسلام، ولكنها بقيت في كثير من القرى والبوادي على ما كانت عليه في العصور السَّالفة.
محمد شفيق البيطار
Tribalism - Tribalisme
العصبية القبلية
مفهوم العصبيَّة القبليَّة
إذا ذكر هذا التركيب (العصبيَّة القبليَّة) تخيَّل الناس اليوم له ظلالاً غير مرغوب فيها، لما صار يلازمه من إعانة الظالم على ظلمه لأنَّ رابطاً من النسب يربط المُعين له به؛ ولكن عند الرجوع إلى كتب اللُّغة لمعرفة أصل العصبية يظهر أنها في الأصل بريئة من هذه الظلال، فهي مأخوذة من العصب وهو الشَّدُّ والجمع، ومنه العصابة وهي العمامة، لأنَّ الرجل يشد بها رأسه، وكذلك كل ما يُعصَب به الكسر ونحوه، ومنه عصبة الرجل، وهم بنوه وأقرباؤه لأبيه، لأنه بهم يشدُّ أزره ويتقوَّى، والعصبية أن يدعو الرجل عصبته إلى التجمُّع لنصرته، فالأصل أن العصبيَّة تحمل معنى الاجتماع وشدِّ الأزر والتوحد والغيرة على ذي الرحم والجماعة، وهي أمور من الفطرة السليمة في حب القريب لقريبه، وهو أمر حسن في المجتمع القائم على العدل، غير أنه إذا فقد العدل، وصارت الغلبة فيه للقوي على الضعيف، كما هي الحال في المجتمع الجاهلي وما أشبهه، تحولت العصبية إلى أن يميل الرجل إلى نصرة قبيلته أو جماعته على من سواهم، سواء أكانوا ظالمين أم مظلومين.
العصبية القبلية في الجاهلية وبعض مظاهرها
كان المجتمع العربي في الجاهلية مجتمعاً قبليّاً في البوادي والحواضر تحكمه القوانين والأعراف التي تضمن للقبيلة بقاءها، ولذلك شاعت بينهم العصبية بالمعنى الذي يحمله المثل الجاهلي «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، وكانت هذه العصبيَّة على طبقات تناسب الجماعة التي ينتسب إليها أحدهم، فهو في قبيلته يتعصب لأسرته على سائر الأسر، والبطن الذي هو منه على سائر البطون، ويتعصب للقبائل التي يجمعها مع قبيلته أب واحد قريب على القبائل التي يجمعها مع قبيلته أب بعيد، وإلى جانب رابطة الدَّم هذه كانت روابط أخرى كالولاء والجوار والتحالف والمصاهرة، وكلُّها داعيةٌ إلى ضروب من التَّعصب متفاوتة القوة، وتقتضي هذه العصبيَّة أموراً تدلُّ عليها أمثالهم وأشعارهم، ومنها أن يكون همُّ القبيلة والدفاع عنها مقدَّماً على ما سواه من الهموم الخاصَّة، ولاسيَّما إذا كان الرَّجل سيِّداً في قبيلته، وفي ذلك يقول عامر بن الطُّفيل العامريُّ:
وإني وإن كنت ابن سيِّد عامرٍ
وفارسها المشهور في كل موكبِ
فما سوَّدتني عامر عن وراثـةٍ
أبى الله أن أســمو بأم ولا أبِ
ولكنني أحمي حماهــا وأتقي
أذاها، وأرمي من رماها بمنكبِ
وتقتضي أن تنصر القبيلةُ أيَّ فردٍ منها على من سواه، ظالماً كان أو مظلوماً، من دون أن يسـألوا عن الحق إلى أيِّ جانبٍ هو، ولذلك أثنى قريط بن أنيف العنبري على بني مازن لاجتماعهم عند الحفيظة، فقال:
لا يسألون أخاهم حين يندبُهم
في النَّائبات على ما قال برهانا
ويظهر تعصب الجاهليِّ لأقاربه الأدنين على أقاربه الأبعدين في مثل قول قيس بن زهير العبسي حين قتـل حَمَل بن بدر الفَزَاري الذُّبياني في حربٍ كانت بين الحيِّين، وكلاهما من غَطَفان:
شفيتُ النَّفس من حَمَلِ بنِ بدرٍ
وسيفي من حذيفةَ قد شفاني
فإن أك قد بَرَدْتُ بهم غليــلي
فلم أقطع بهـم إلا بنــاني
وكان على القبيلة أن تحمل مجتمعـةً عواقب أي جناية يجنيها أحد أفرادها أو تُجنى عليها، ولذلك قالوا في أمثالهم: «في الجريرة تشترك العشيرة». ومن مظاهر العصبيَّة القبليَّة أن الجاهليَّ كان عليه أن يسير في ركاب الجماعة، ولو كان يراهم على غير هدى، حفاظاً على وحدة كلمتهم، ويصوِّر ذلك دريد بن الصِّمَّة في قوله:
وهل أنا إلا من غَزِيَّةَ إن غوت
غويتُ، وإن ترشدْ غزيةُ أرْشُدِ
ولكنَّ أبرز تلك المظاهر هي الدَّعوة إلى الأخذ بالثأر، والتَّشدد في ذلك، والرَّغبة عن قبول الديات التي تحقن الدِّماء، وشدة النَّكير على من يرضى بها، وازدراء من يتهاون في طلب الثأر، لأنَّ الدَّم لا يغسله إلا الدَّمُ، ولذلك قالت كبشة بنت معدي كرب:
فإن أنتم لم تثـأروا واتَّديتُمُ
فمشُّوا بآذان النَّعام المُصَلَّمِ
وكان الأخذ بالثأر منبعاً للفخر بالحفاظ على الدِّماء، كقول قيس بن الخطيم:
ثأرت عَديّاً والخطيم ، فلم أُضِعْ
ولايةَ أشياخٍ جُعِلْتُ إزاءها
على أن ذلك كلَّه لا يعدم من يخرقه ويخرج عليـه، بل إن من تكثر جناياته من أبناء القبيلة ويجرُّ عليها عداوة القبائل كانت تخلعه وتتبرأ منه في المواسم المشهودة.
الإسلام وموقفه من العصبية القبلية
إذا كان الأصل في العصبية ما سبق من تجميع القوم، وشدِّ بعضِهم بعضاً، فإن الإسلام لم يكن ليقف موقفاً معادياً لها لو بقيت على هذا الأصل، لأنه دين يدعو إلى تجمُّعِ الأمَّة كلِّها على أسـاس أُخُوَّة الدِّين، وإلى تجميع أفراد الأسر والقبائل، وجاء في الحديث: «تعلَّموا من أنسـابكم ما تَصِلُون به أرحامَكم»، ولما كانت حال العصبية القبلية قد آلت في الجاهلية إلى أن ينصر الرجل قومه ولو كانوا ظالمين وقف منها موقفاً معادياً، ودعا إلى تركها، وذم الحميَّة القائمة على أساس قبلي، فقال تعالى:)إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميَّةَ حميَّةَ الجاهليَّة( وذمَّ الرَّجل العصبيَّ فقد جاء في الحديث: «العصبيُّ من يعين قومه على الظُّلم». وجاء فيه أيضاً: «ليس منَّـا من دعا إلى عصبيَّةٍ أو قاتل عصبيَّةً» ودعا النبيُّ إلى تصحيح الاتجاه في العصبية حين تمثَّل بقول العرب: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» فلما سـئل كيف يعين المرء أخاه إن كان ظالماً قال: «أن يردَّه عن ظُلمه»، وعلى نهج النبيِّr سـار الخلفاء الراشدون فقدَّموا من قدَّمه الإسلام، وأخَّروا من أخَّره، وإن كان من أشراف قومه في الجاهلية، وأعطوا النَّاس أُعطياتهم بناء على سابقتهم في الإسلام، لا على أنسابهم، وكان من المظاهر الحسنة للعصبية القبلية ما كان من تنافسٍ بين الأوس والخزرج في نصرة الإسلام، فلا يصنع الأوس شيئاً إلا صنع الخزرج صنيعهم، ومنه ما كان من تنافسٍ القبائل في البلاء الحسن أيام الفتوح.
على أن ذلك كلَّه لم يمنع بعض المظاهر السيئة للعصبية أن تظهر من خلال فعل أو قول يؤكد تمكُّن العصبية من نفوسهم، ولا يعدم المتتبع لأخبـار العرب بعد الإسـلام الوقوف على شيء من ذلك، ففي بعض الحوادث قال رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ يحرض الأنصار على المهاجرين: «قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمِّن كلبك يأكلْك». ولما توفي النبيr ظهرت النزعة القبلية في عدد من المواقف بدءاً بسقيفة بني ساعدة، كاعتراض نفر من قريش والأنصار على خلافة أبي بكرr، وحركة الردَّة التي ظهرت في أنحاء الجزيرة العربية، فوقف أبو بكر ومن حوله من كبار الصحابة موقفاً حازماً من تلك النزعات، حتى أخمدت نارها، ثم إنها عادت للظهور بعد مقتـل عثمانt، وبرزت العصبية للتجمعات القبلية الكبيرة حين انقسم المسلمون إلى جيشين كبيرين يقتتلان، أحدهما إلى جانب عليّt والآخر إلى جانب معاوية، وكان في الجيشـين قبـائل من نزار المُضريَّة وقحطان اليمانيَّة، فكانت تلك القبائل تُظهر من القتال والمواقف ما يدلُّ على تلك العصبية، ومن آثار ذلك في الشِّعر ما جاء على لسان أبي الطُّفيل الكناني، وكان قومه في صفِّ عليٍّ، إذ يذكر ما كان من قتالهم لقبائل من أهل اليمن كانوا إلى صف معاوية:
لقينا قبائل أنســابُهم
إلى حضرموت وأهل الجَنَدْ
فلما تنادوا بآبائهــم
دعونا مَعَــدّاً ونعم المَعَدّ
واشتدَّ أوار هذه النزعة في العصر الأموي، إذ كانت خطورتها في أنها صارت تضم الكتل القبلية الضخمة، فكانت فيه وقائع كثيرة بين قبائل قيس عيلان وقبائل اليمن في الشـام بعد وقعـة مرج راهط التي مال فيها القيسيون إلى عبد الله بن الزبير، ومال اليمنيون إلى بني أمية، وكذلك الوقائع التي كانت في الجزيرة الشَّامية بين قيس وتغلب، حتى إن بعض القبائل ترك انتماءه الذي كان يُعرف به قبل الإسلام، إلى انتماء لم يُشتهر به، فقبائل قضاعة كانت تعد في قبائل مَعَدّ، ولكنها لما كانت في الشام ومالت إلى بني أمية وحالفت قبائل اليمن انتسبت إلى حمير، وقال بعضهم:
يا أيها الداعي ادعنا وبشِّرِ
وكن قضـــاعيّاً ولا تنزَّرِ
نحن بنو الشَّيخ الهجان الأزهر
قضاعــةَ بنِ مالكِ بنِ حِمير
وتركت هذه الوقائع أثرها الواضح في أشـعار العصر الأموي، كقول القطامي يخاطب كلبا، وهي أكبر قبائل قضاعة:
أكلبُ هلمَّ نحن بنو أبيكم
ودعوى الزُّور منقصة وعارُ
لقد علمت كهولهم القدامى
إذا قعدوا كأنّهم النِّســـار
بأن قضاعة الأولى معـد
لِقرم لا تغطُّ له البِكـــار
فإن تَعْزِل قضاعة عن مَعَدٍّ
تَصِرْ تبعاً وللتَّبع الصَّغـار
ثم إن العصبية القبلية في بعض البلدان المفتوحة كالأندلس كانت سبباً في وقوع الفتن بين الكتل القبلية الكبيرة، ولاسيما في القرن الثاني الهجري، إذ تخلى المتعصبون عن وحدة المعتقد والمبادئ ورجحوا عليها وحدة النسب والمصالح، على أن العصبية القبلية تختلف من بيئة إلى أخرى، حتى إنها تكاد تختفي بمحاسنها ومساوئها في المجتمعات التي تحضَّرت ومرَّ عليها زمن بعد الإسلام، ولكنها بقيت في كثير من القرى والبوادي على ما كانت عليه في العصور السَّالفة.
محمد شفيق البيطار