المسرحيون العرب يلجأون إلى التراث لمواجهة غياب الحرية
"تجليات السير الشعبية في المسرح العربي".. كتاب يدرس طرق استلهام الموروث السردي.
الأحد 2023/05/07
انشرWhatsAppTwitterFacebook
استلهام التراث ما زال يغري المسرحيين العرب
أثر الواقع السياسي العربي في الفن المسرحي وبقية الفنون الأخرى بشكل كبير؛ إذ ساهمت حالة القمع والمحاصرة السياسية للأفكار المختلفة في التجاء المسرحيين، على غرار الكتاب والشعراء والرسامين وغيرهم من المبدعين، إلى الأقنعة. وقد وجد المسرح في السير الشعبية وسيلة هامة للتعبير، لكنها وسيلة لها اشتراطاتها.
شكل استلهام التراث الشعبي في المسرح العربي فضاء قويا للتعبير عما يجيش في الوجدان الجمعي، ففي ظل انخفاض سقف الحريات في التعبير عن الآراء إزاء القضايا السياسية والاجتماعية الراهنة عثر مؤلفو المسرح على ضالتهم المنشودة في الاتكاء على الحوادث التاريخية القديمة والسير والحكايات الشعبية المتداولة، وتطويعها للتعبير عما يجيش في صدورهم من أفكار لا يستطيعون المجاهرة بها تجنبا للاصطدام بالسلطة التي قد ترى في ذلك سببا مباشرا للتنكيل بهم.
واعتمد المؤلفون على ذكاء المتلقي في فهم المضمون والرسائل المشفرة التي يقصدونها، خاصة وأن التراث الشعبي يحوي جانبا كبيرا من النضال الشعبي في مواجهة الظلم، فكل أبطال هذه السير يدافعون عن قيم نبيلة مثل رفع الظلم عن المظلومين، والدفاع عن الأرض والعرض ضد الأعداء، والمقاومة وعدم الرضوخ لأي مغتصب لحقوقهم. فلا تخلو سيرة من معنى من هذه المعاني والقيم النبيلة، ولعل أشهر نموذج من ذلك أبو زيد الهلالي الذي جعلته الذائقة الشعبية نصيرا لكل المقهورين رافعا للظلم ومنتقما لهم.
اقتباس السير الشعبية
التكثيف أهم سمات الحوار المسرحي الجيد ويعني الإيجاز وترك فراغات تعتمد على قدرة المتلقي عبر آلية الاستلزام التخاطبي
يتناول كتاب “تجليات السير الشعبية في المسرح العربي” للباحث عبدالكريم الحجراوي، الصادر حديثا عن دار بتانة، علاقة المسرح العربي منذ نشأنه حتى الآن بالسير الشعبية في نحو 700 صفحة، راصدا في ببليوغرافيا الكتاب 250 مسرحية من 17 دولة عربية، هي مصر والسعودية وفلسطين وسوريا ولبنان والأردن واليمن والعراق والكويت والجزائر وتونس والمغرب وليبيا والإمارات وسلطنة عمان وقطر والبحرين.
يقول الحجراوي اعتمد مؤلفو المسرحيات التي درسها “على أبطال السير الشعبية وأحداثها للتعبير عن الواقع الراهن خاصة مع الأحداث الكبرى التي مر بها الوطن العربي، فقد دفعت نكسة يونيو 1967 عددا من الكتاب إلى استلهام السير الشعبية وأبطالها في المسرح، وإسقاطها على الواقع مثلما فعل ألفريد فرج في مسرحيته ‘الزير سالم’ عام 1967، وكذلك ‘عنترة في المرايا المكسرة’ للمغربي عبدالكريم برشيد في عام 1970 وغيرهما من المؤلفين، فالظروف السياسية دفعت الوجدان الشعبي العربي، ومن بينه المبدعون، إلى استلهام سير أبطالهم الشعبيين للاستنجاد، والاهتداء بهم في واقعهم المرير”.
وأضاف “كل هؤلاء الأبطال الشعبيين ولدت بطولتهم من رحم المعاناة وهذا ما يشير إليه عبدالكريم برشيد حول أسباب تأليفه لنصه قائلا: بعد النكسة كتبت مسرحية ‘عنترة في المرايا المكسرة’ واستحضرت شخصية عنترة بن شداد. عنترة قوي؛ ولكن في زمن الانكسارات، يطلب منه كما يطلب من الشعب أن يدافع عن وطنه، وهو المهزوم من طرف وطنه، فكيف للمهزوم أن يفعل؟ إذا كنت أنت في وطنك تشعر بأن الحاكم يظلمك ولا يعطيك حقك فكيف تبحث أن تقاتل عدوا أجنبيا خلف الأسوار؟ الأساس هو العدالة الاجتماعية، وأن تشعر بأن لديك كرامة، حقا في التعليم، في الصحة، وأن وطنك يقدرك؛ لذا ستحارب من أجله وستموت من أجله، أما أن تجد وطنك يدفعك للهروب منه، والموت في قوارب الموت، فنحن بحاجة إلى منظومة فكرية جديدة ومنظومة علاقات إنسانية أخرى”.
تحول السير الشعبية مسرحيا زاد بعد 2011 عام ثورات الربيع العربي، ووظفها الكتاب بما يخدم فكرهم
ويضيف الحجراوي “شهدت حقب السبعينات والثمانينات وكذا التسعينات في الوطن العربي نزوعا إلى خلق اتجاه في المسرح خاص بالعرب، ‘مسرح السامر’ في مصر، و’المسرح الاحتفالي’ في المغرب، ومسرح ‘الحلقة أو الفرجة’ في بلاد الشام.. إلخ. وقد كان هذا الاتجاه يذهب إلى الموروثات الشعبية والاستفادة منها في النص وعلى خشبة المسرح، ومن بين هذه الموروثات التي حظيت بنصيب ‘السير الشعبية’ في عدد من البلدان العربية، كشف هذا الكتاب عن زيادة تحول السير الشعبية مسرحيا بعد 2011 عام ثورات الربيع العربي، ووظفها الكتاب بما يخدم فكرهم تجاه ما يجري على أرض الواقع من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية”.
ويبين الحجراوي أن أول نص مسرحي جرى تحويله من السير الشعبية في المسرح العربي كان لنقولا النقاش عام 1849، أي أن السير كانت الأسبق حضورا من أي مصدر شعبي آخر مسرحيا، فإذا كان مارون النقاش رائد المسرح العربي في عام 1850 قدم أول مسرحية عربية مأخوذة عن “ألف ليلة وليلة” بعنوان “أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد” فإنه يلاحظ أنه في حواراتها يأتي على ذكر عنترة بن شداد، كما أن أول مسرحية عربية على الإطلاق له “البخيل” يسمي أبطالها بأسماء شخصيات من سيرة عنترة مثل اسمي “مالك وقراد” وكذلك يظهر فيها قضية الصراع حول مهر “هند بنت الثعلبي”.
وما لا يعرفه الكثيرون أن نقولا النقاش كان قد سبق أخاه في هذا النهج المعتمد على الاقتباس من التراث الشعبي بعام على الأقل حين ألف مسرحيته عام 1849 المعروفة باسم “ربيعة بن زيد المكدم” أو “ربيعة وعنترة” والتي يستحضر فيها بطل السيرة عنترة بن شداد. فالسير الشعبية كانت هي الأسبق إلى المسرح العربي من أي لون من ألوان الأدب الشعبي خاصة “ألف ليلة وليلة”، ومنذ عام 1849 حتى عام 2022 جرى نهر السيرة مسرحيا ولم تتوقف مياهه بل مازالت هادرة تزداد قوة قرنا بعد قرن بل يوما بعد يوم وتتسع دائرتها لتشمل مسارح عربية لم تدخلها من قبل مؤكدة على خصوصية المسرح العربي.
مسرحة السير
يقسم الحجراوي الباب الأول من كتابه إلى فصلين يضم الأول السير الشعبية الأكثر استلهاما في المسرح العربي وهي سيرة عنترة والزير سالم والسيرة الهلالية، فيما يضم الثاني السير الأقل استلهاما في المسرح العربي مثل سيرة الظاهر بيبرس وحمزة البهلوان وعلي الزيبق وسيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة وفيروز شاه.
ويوضح قائلا “هناك اختلاف أساليب الكتاب في مسرحة هذه السيرة ما بين النقل ومسرحة السرد أو التبديل والتعديل في الأحداث وإدخال أبطال هذه السير في واقعنا المعاصر، أو المماثلة وفيها لا يشير المؤلف إلى السيرة الشعبية التي يأخذ منها ولا يحضر شخوصها بصورة مباشرة، لكن يظهر التشابه والمماثلة في الأحداث مع حدث في حكايات السير الشعبية، فمثلا يقوم المؤلف باستحضار شخص أسود البشرة في مجتمع معاصر ويجعله يحب فتاة بيضاء من علية القوم فيحاول هذا البطل أن يثبت أنه جدير بحب هذه المرأة. فنحن هنا أمام استعادة لقصة عنترة وعبلة”.
ويناقش الحجراوي في الباب الثاني الذي يتكون من فصلين أيضا المضامين المضمرة المقصودة والرسائل التي يريدون إرسالها إلى الجمهور بشكل خفي، واستخدام السير الشعبية كخطاب مضمر وقناع يعبر به المسرحيون العرب عما يجيش في نفوسهم من أفكار سياسية واجتماعية تسعى السلطة إلى كبتها ومنعها، موظفين إياها بما يخدم رؤيتهم تجاه ما يجري على أرض الواقع من أحداث، ومعتمدين عليها وسيلة للتحريض والتثوير ضد الواقع الاجتماعي العربي المهزوم.
ويرى أنه “حينما ترجم ابن المقفع كتابه ‘كليلة ودمنة’ اتخذ من حكاية الحيوانات قناعا ينتقد من خلاله الأوضاع السائدة في عصره، وحين فهم هذا الخطاب المضمر من قبل السلطة الحاكمة وقتها المتمثلة في أبي جعفر المنصور تم التنكيل به وقتله شر قِتْلة بزعم زندقته وكفره.
المسرحيون العرب استخدموا السير الشعبية كخطاب مضمر وقناع يعبرون به عن أفكارهم السياسية والاجتماعية التي تكبتها وتمنعها السلطة
وقد تعامل كتاب المسرحيات المتحولة من السيرة الشعبية كذلك مع السير كقناع يعبرون به عن أفكارهم السياسية والاجتماعية خلال فترة ما بين 1967 و2017. فهذه الحقبة كانت مملوءة بالأحداث السياسية والفكرية مثل قضايا التحرر الوطني من الاحتلال الأجنبي، والاشتراكية، والدعوة إلى الوحدة العربية، ومن ثم نكسة 1967 والصراع العربي الإسرائيلي، ومن بعده حرب 1973 واتفاقية السلام المصرية التي كان لها بالغ الأثر على الأمة العربية، ورفض الكثير من الكتاب والمثقفين المصريين والعرب لها، والانتفاضات العربية المنددة بغياب العدالة الاجتماعية مثل انتفاضة الخبز في مصر في السبعينات وصولا إلى فترة التسعينات وغزو صدام حسين للكويت، والعشرية السوداء في الجزائر وازدياد موجة الإرهاب، وانتهاء بثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس ثم مصر كرفض لغياب العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية.
كل تلك القضايا ناقشتها المسرحيات المختارة متخذة من السير الشعبية قناعا يعبر به الكتاب عن رفضهم لكل هذه القيود القامعة وكبت الحريات متحايلين بها على سلطة الرقيب، عن طريق الإسقاطات السياسية والاجتماعية والفكرية التي ضمنوها في نصوصهم المسرحية. وكشف هذا الباب الخطاب المضمر المقصود داخل النصوص بعيدا عن الخطاب الظاهر غير المقصود لذاته.
الهوية القومية
الحجراوي يركز على تحليل السرد
يحلل الحجراوي في بابه الثالث عبر نظرية الاستلزام التخاطبي الحوار والوصف والسرد المسرحي داخل المسرحيات المستلهمة عن السير الشعبية، وتهتم نظرية الاستلزام التخاطبي بـ”كيف يمكن للمتكلم أن يعني أكثر مما يقول في عملية التخاطب؟ أي كيف تبلغ قولات المخاطب أكثر من معانيها الحرفية؟ وكيف يتمكن المخاطب من التأويل؟”.
ويعد الاستلزام التخاطبي سمة جوهرية في الخطابات التحاورية، وهو “ما يهدف إليه المتكلم بشكل غير مباشر جاعلا من المتلقي يتجاوز المعنى الظاهري لكلامه إلى معنى آخر”، معتمدا على أن المسرح أقدم الفنون التي استخدمت الحوار كأداة أساسية من خلالها يتم تقديم العرض بكل ما فيه من عناصر القصة والحبكة والصراع.. إلخ، ومن أهم سمات الحوار المسرحي الجيد التكثيف. والتكثيف يعني الإيجاز وترك فراغات تعتمد على قدرة المتلقي عبر آلية الاستلزام التخاطبي على ملء تلك الفراغات بما يتناسب مع السياق الذي تدور فيه الأحداث. وتعتمد الحبكة المسرحية بشكل أساسي على الحوار المسرحي “فمن أهم وظائف الحوار تطوير الحبكة” ومن العوامل التي تدل على قوة حبكة الخطاب المسرحي كثرة توليده للاستلزامات التخاطبية، فالعلاقة بينهما طردية.
ويركز الحجراوي على تحليل السرد فهو من العناصر التي تولد الاستلزامات التخاطبية بإشراك الحوار في المسرحيات لكونه يلعب دورا بارزا في الكشف عن المقصود بالاستلزامات التخاطبية، وقد كثر السرد في المسرحيات المتحولة من السير الشعبية لعدة أسباب، أولها طبيعة المادة التي استلهموها في أعمالهم وهي السير التي يعتمد راويها على السرد وخلاله يورد بعض الحوارات وهي تشبه الملحمة، والسبب الثاني أن الكثير من كتاب المسرح العربي قد تأثروا بالمسرح الملحمي البريختي الذي يولي أهمية كبيرة للسرد، وذلك يتضح من الاسم الذي اختاره لمسرحه “المسرح الملحمي”، فبريخت جعل من السرد أداة من أدوات التغريب.
ومن بين كتاب المسرح الذين تأثروا بهذا الاتجاه ألفريد فرج ويسري الجندي ومحمد أبوالعلا السلاموني وعبدالعزيز حمودة وغنام غنام وشوقي عبدالحكيم.. إلخ. كما يغلب على هذا السرد أن يأتي مقرونا بالوصف في هذا اللون من المسرح، مضيفا أن السرد في المسرح السيري عمل على تسريع حبكة الأحداث واختصار الزمن، وجاء لأسباب فنية بهدف ذكر الأحداث التي يصعب تجسديها على خشبة المسرح والكشف عن ماضي الشخصيات.
ويشير إلى أن زيادة تخلق الاستلزامات التخاطبية من الحوار والوصف والسرد في النصوص المسرحية تعد دليلا على قوة الحبكة بترك فراغات تعتمد على تأويل المتلقي للوصول إلى المقصود، فلا تقال المعلومات بشكل صريح ما دام المشاهد قادرا على استحضارها تجنبا للتكرار وسرعة الأحداث، فالإطناب يقلل من خلق استلزامات تخاطبية من العناصر الثلاثة مثلما هو حادث في مسرحية “أسفار سيف بن ذي يزن” لخالد محيي الدين البرادعي.
السير قناع لما يجري على أرض الواقع
كما أن الوصف لعب دورا محوريا في توليد الاستلزامات التخاطبية في المسرحيات المتحولة عن السير الشعبية وانقسم إلى نوعين؛ الوصف المشهدي ويأتي عادة في بداية كل نص وعند تبدل المشاهد لوصف خشبة المسرح وتحركات الأشخاص وهيئتهم، ويعمل هذا النوع على وضع المتلقي على مسرح الأحداث وخلق خلفية مشتركة له مع النص. والنوع الثاني وصف الانفعالات، ويصف الطاقة الشعورية للمتكلم من حزن وفرح وخبث وطيبة.. إلخ، ويعمل كعنصر غير لغوي يسهم في استلزام المعنى المقصود بعيدا عن العبارات اللغوية المختلفة وإن تناقض معها. كما أن الوصف يزداد في أغلب المسرحيات بسبب طبيعة المادة المتحولة عنها وانتقال الأحداث من مكان إلى آخر مما يؤدي إلى تعدد المشاهد، ويأتي الوصف في الكثير من الأحيان مقترنا بالسرد أو الحوار.
ويهتم الحجراوي في الباب الرابع بدراسة الصراع بين الأيديولوجيات واليوتوبيات داخل المسرحيات المستلهمة من السير الشعبية عبر نظريات الحجاج التداولي كاشفا عبر التحليل المنهجي عن “غياب تعددية الأصوات داخل المسرحيات المتحولة من السير الشعبية، بسبب طبيعة الفن المسرحي الذي لا يقبل بالتعددية ويسمح لصوت كامل واحد فقط أن يعبر عن رؤيته ويعمل في المقابل من خلال إطار حجاجي على التقليل من الرؤى المضادة. لكن غياب التعددية في النصوص المسرحية يتفاوت ففي نصوص يكون الغياب تاما، وفي نصوص أخرى سمح مؤلفون للرؤى المضادة بأن تعبر عن نفسها لكن هذا التعدد كان تحت سيطرة كاملة من المؤلف واختارها بعناية كي تسهم في الإقناع بالرسالة التي يريد أن يوصلها إلى الجمهور”.
ويرى أن فلسفة المسرحيات المتحولة عن السير تقوم في خطابها الحجاجي على مبدأ المماثلة من أجل إقناع المخاطب بأن ما يدور من أحداث ما هو إلا معادل موضوعي لما يجري في الواقع لحثه على التغيير ورفض الظلم. فحجاج النص المسرحي مع الواقع هو الرسالة التي يريد إرسالها المؤلف إلى جمهوره، وقد اتخذ لهذه الرسالة قناعا متمثلا في حكاية من التراث، وكان هذا القناع ضرورة للمؤلف كي يعبر عن أيديولوجيته الفكرية دون ضرر يطاله، كما أن هناك سببا آخر يتعلق بطبيعة الفن الذي يرفض المباشرة والتلقين ويسعى لإيصال مضمونه عبر آليات فنية متنوعة تحترم قدرة المتلقي على التأويل.
ويلفت الحجراوي إلى انقسام الصراع في المسرحيات إلى نوعين أحدهما أيديولوجي يقضي بانتصار رؤية على حساب أخرى ويجري عادة بين الأيديولوجيا الحاكمة والأيديولوجيا الخاضعة، والثاني الصراع الحجاجي وهو لا يتطلب بالضرورة أن تقصي رؤية نظيرتها الأخرى ومن الممكن أن يتم التوافق والاقتناع.
ويخلص إلى أن الهوية القومية العربية شغلت أغلب النصوص المتحولة من السير الشعبية وعملت على الدفاع عنها في مواجهة الهويات العرقية المعادية، مثل الفرس والروم والأحباش واليهود، كما ناقشت المسرحيات المتحولة عن السير الشعبية بكثرة مسألة الانعزال بين الهوية الحاكمة في الدول العربية والهوية الاجتماعية الشعبية، وأدانت النصوص المسرحية الانقسام العربي، واشتغلت على تثوير الجماهير من أجل رفض الانقسام وقد كان لحركة يوليو في مصر 1952 دور كبير في انتشار هذه الظاهرة في النصوص المسرحية، حيث اشتد مفهوم الوحدة العربية إبانها.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
"تجليات السير الشعبية في المسرح العربي".. كتاب يدرس طرق استلهام الموروث السردي.
الأحد 2023/05/07
انشرWhatsAppTwitterFacebook
استلهام التراث ما زال يغري المسرحيين العرب
أثر الواقع السياسي العربي في الفن المسرحي وبقية الفنون الأخرى بشكل كبير؛ إذ ساهمت حالة القمع والمحاصرة السياسية للأفكار المختلفة في التجاء المسرحيين، على غرار الكتاب والشعراء والرسامين وغيرهم من المبدعين، إلى الأقنعة. وقد وجد المسرح في السير الشعبية وسيلة هامة للتعبير، لكنها وسيلة لها اشتراطاتها.
شكل استلهام التراث الشعبي في المسرح العربي فضاء قويا للتعبير عما يجيش في الوجدان الجمعي، ففي ظل انخفاض سقف الحريات في التعبير عن الآراء إزاء القضايا السياسية والاجتماعية الراهنة عثر مؤلفو المسرح على ضالتهم المنشودة في الاتكاء على الحوادث التاريخية القديمة والسير والحكايات الشعبية المتداولة، وتطويعها للتعبير عما يجيش في صدورهم من أفكار لا يستطيعون المجاهرة بها تجنبا للاصطدام بالسلطة التي قد ترى في ذلك سببا مباشرا للتنكيل بهم.
واعتمد المؤلفون على ذكاء المتلقي في فهم المضمون والرسائل المشفرة التي يقصدونها، خاصة وأن التراث الشعبي يحوي جانبا كبيرا من النضال الشعبي في مواجهة الظلم، فكل أبطال هذه السير يدافعون عن قيم نبيلة مثل رفع الظلم عن المظلومين، والدفاع عن الأرض والعرض ضد الأعداء، والمقاومة وعدم الرضوخ لأي مغتصب لحقوقهم. فلا تخلو سيرة من معنى من هذه المعاني والقيم النبيلة، ولعل أشهر نموذج من ذلك أبو زيد الهلالي الذي جعلته الذائقة الشعبية نصيرا لكل المقهورين رافعا للظلم ومنتقما لهم.
اقتباس السير الشعبية
التكثيف أهم سمات الحوار المسرحي الجيد ويعني الإيجاز وترك فراغات تعتمد على قدرة المتلقي عبر آلية الاستلزام التخاطبي
يتناول كتاب “تجليات السير الشعبية في المسرح العربي” للباحث عبدالكريم الحجراوي، الصادر حديثا عن دار بتانة، علاقة المسرح العربي منذ نشأنه حتى الآن بالسير الشعبية في نحو 700 صفحة، راصدا في ببليوغرافيا الكتاب 250 مسرحية من 17 دولة عربية، هي مصر والسعودية وفلسطين وسوريا ولبنان والأردن واليمن والعراق والكويت والجزائر وتونس والمغرب وليبيا والإمارات وسلطنة عمان وقطر والبحرين.
يقول الحجراوي اعتمد مؤلفو المسرحيات التي درسها “على أبطال السير الشعبية وأحداثها للتعبير عن الواقع الراهن خاصة مع الأحداث الكبرى التي مر بها الوطن العربي، فقد دفعت نكسة يونيو 1967 عددا من الكتاب إلى استلهام السير الشعبية وأبطالها في المسرح، وإسقاطها على الواقع مثلما فعل ألفريد فرج في مسرحيته ‘الزير سالم’ عام 1967، وكذلك ‘عنترة في المرايا المكسرة’ للمغربي عبدالكريم برشيد في عام 1970 وغيرهما من المؤلفين، فالظروف السياسية دفعت الوجدان الشعبي العربي، ومن بينه المبدعون، إلى استلهام سير أبطالهم الشعبيين للاستنجاد، والاهتداء بهم في واقعهم المرير”.
وأضاف “كل هؤلاء الأبطال الشعبيين ولدت بطولتهم من رحم المعاناة وهذا ما يشير إليه عبدالكريم برشيد حول أسباب تأليفه لنصه قائلا: بعد النكسة كتبت مسرحية ‘عنترة في المرايا المكسرة’ واستحضرت شخصية عنترة بن شداد. عنترة قوي؛ ولكن في زمن الانكسارات، يطلب منه كما يطلب من الشعب أن يدافع عن وطنه، وهو المهزوم من طرف وطنه، فكيف للمهزوم أن يفعل؟ إذا كنت أنت في وطنك تشعر بأن الحاكم يظلمك ولا يعطيك حقك فكيف تبحث أن تقاتل عدوا أجنبيا خلف الأسوار؟ الأساس هو العدالة الاجتماعية، وأن تشعر بأن لديك كرامة، حقا في التعليم، في الصحة، وأن وطنك يقدرك؛ لذا ستحارب من أجله وستموت من أجله، أما أن تجد وطنك يدفعك للهروب منه، والموت في قوارب الموت، فنحن بحاجة إلى منظومة فكرية جديدة ومنظومة علاقات إنسانية أخرى”.
تحول السير الشعبية مسرحيا زاد بعد 2011 عام ثورات الربيع العربي، ووظفها الكتاب بما يخدم فكرهم
ويضيف الحجراوي “شهدت حقب السبعينات والثمانينات وكذا التسعينات في الوطن العربي نزوعا إلى خلق اتجاه في المسرح خاص بالعرب، ‘مسرح السامر’ في مصر، و’المسرح الاحتفالي’ في المغرب، ومسرح ‘الحلقة أو الفرجة’ في بلاد الشام.. إلخ. وقد كان هذا الاتجاه يذهب إلى الموروثات الشعبية والاستفادة منها في النص وعلى خشبة المسرح، ومن بين هذه الموروثات التي حظيت بنصيب ‘السير الشعبية’ في عدد من البلدان العربية، كشف هذا الكتاب عن زيادة تحول السير الشعبية مسرحيا بعد 2011 عام ثورات الربيع العربي، ووظفها الكتاب بما يخدم فكرهم تجاه ما يجري على أرض الواقع من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية”.
ويبين الحجراوي أن أول نص مسرحي جرى تحويله من السير الشعبية في المسرح العربي كان لنقولا النقاش عام 1849، أي أن السير كانت الأسبق حضورا من أي مصدر شعبي آخر مسرحيا، فإذا كان مارون النقاش رائد المسرح العربي في عام 1850 قدم أول مسرحية عربية مأخوذة عن “ألف ليلة وليلة” بعنوان “أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد” فإنه يلاحظ أنه في حواراتها يأتي على ذكر عنترة بن شداد، كما أن أول مسرحية عربية على الإطلاق له “البخيل” يسمي أبطالها بأسماء شخصيات من سيرة عنترة مثل اسمي “مالك وقراد” وكذلك يظهر فيها قضية الصراع حول مهر “هند بنت الثعلبي”.
وما لا يعرفه الكثيرون أن نقولا النقاش كان قد سبق أخاه في هذا النهج المعتمد على الاقتباس من التراث الشعبي بعام على الأقل حين ألف مسرحيته عام 1849 المعروفة باسم “ربيعة بن زيد المكدم” أو “ربيعة وعنترة” والتي يستحضر فيها بطل السيرة عنترة بن شداد. فالسير الشعبية كانت هي الأسبق إلى المسرح العربي من أي لون من ألوان الأدب الشعبي خاصة “ألف ليلة وليلة”، ومنذ عام 1849 حتى عام 2022 جرى نهر السيرة مسرحيا ولم تتوقف مياهه بل مازالت هادرة تزداد قوة قرنا بعد قرن بل يوما بعد يوم وتتسع دائرتها لتشمل مسارح عربية لم تدخلها من قبل مؤكدة على خصوصية المسرح العربي.
مسرحة السير
يقسم الحجراوي الباب الأول من كتابه إلى فصلين يضم الأول السير الشعبية الأكثر استلهاما في المسرح العربي وهي سيرة عنترة والزير سالم والسيرة الهلالية، فيما يضم الثاني السير الأقل استلهاما في المسرح العربي مثل سيرة الظاهر بيبرس وحمزة البهلوان وعلي الزيبق وسيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة وفيروز شاه.
ويوضح قائلا “هناك اختلاف أساليب الكتاب في مسرحة هذه السيرة ما بين النقل ومسرحة السرد أو التبديل والتعديل في الأحداث وإدخال أبطال هذه السير في واقعنا المعاصر، أو المماثلة وفيها لا يشير المؤلف إلى السيرة الشعبية التي يأخذ منها ولا يحضر شخوصها بصورة مباشرة، لكن يظهر التشابه والمماثلة في الأحداث مع حدث في حكايات السير الشعبية، فمثلا يقوم المؤلف باستحضار شخص أسود البشرة في مجتمع معاصر ويجعله يحب فتاة بيضاء من علية القوم فيحاول هذا البطل أن يثبت أنه جدير بحب هذه المرأة. فنحن هنا أمام استعادة لقصة عنترة وعبلة”.
ويناقش الحجراوي في الباب الثاني الذي يتكون من فصلين أيضا المضامين المضمرة المقصودة والرسائل التي يريدون إرسالها إلى الجمهور بشكل خفي، واستخدام السير الشعبية كخطاب مضمر وقناع يعبر به المسرحيون العرب عما يجيش في نفوسهم من أفكار سياسية واجتماعية تسعى السلطة إلى كبتها ومنعها، موظفين إياها بما يخدم رؤيتهم تجاه ما يجري على أرض الواقع من أحداث، ومعتمدين عليها وسيلة للتحريض والتثوير ضد الواقع الاجتماعي العربي المهزوم.
ويرى أنه “حينما ترجم ابن المقفع كتابه ‘كليلة ودمنة’ اتخذ من حكاية الحيوانات قناعا ينتقد من خلاله الأوضاع السائدة في عصره، وحين فهم هذا الخطاب المضمر من قبل السلطة الحاكمة وقتها المتمثلة في أبي جعفر المنصور تم التنكيل به وقتله شر قِتْلة بزعم زندقته وكفره.
المسرحيون العرب استخدموا السير الشعبية كخطاب مضمر وقناع يعبرون به عن أفكارهم السياسية والاجتماعية التي تكبتها وتمنعها السلطة
وقد تعامل كتاب المسرحيات المتحولة من السيرة الشعبية كذلك مع السير كقناع يعبرون به عن أفكارهم السياسية والاجتماعية خلال فترة ما بين 1967 و2017. فهذه الحقبة كانت مملوءة بالأحداث السياسية والفكرية مثل قضايا التحرر الوطني من الاحتلال الأجنبي، والاشتراكية، والدعوة إلى الوحدة العربية، ومن ثم نكسة 1967 والصراع العربي الإسرائيلي، ومن بعده حرب 1973 واتفاقية السلام المصرية التي كان لها بالغ الأثر على الأمة العربية، ورفض الكثير من الكتاب والمثقفين المصريين والعرب لها، والانتفاضات العربية المنددة بغياب العدالة الاجتماعية مثل انتفاضة الخبز في مصر في السبعينات وصولا إلى فترة التسعينات وغزو صدام حسين للكويت، والعشرية السوداء في الجزائر وازدياد موجة الإرهاب، وانتهاء بثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس ثم مصر كرفض لغياب العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية.
كل تلك القضايا ناقشتها المسرحيات المختارة متخذة من السير الشعبية قناعا يعبر به الكتاب عن رفضهم لكل هذه القيود القامعة وكبت الحريات متحايلين بها على سلطة الرقيب، عن طريق الإسقاطات السياسية والاجتماعية والفكرية التي ضمنوها في نصوصهم المسرحية. وكشف هذا الباب الخطاب المضمر المقصود داخل النصوص بعيدا عن الخطاب الظاهر غير المقصود لذاته.
الهوية القومية
الحجراوي يركز على تحليل السرد
يحلل الحجراوي في بابه الثالث عبر نظرية الاستلزام التخاطبي الحوار والوصف والسرد المسرحي داخل المسرحيات المستلهمة عن السير الشعبية، وتهتم نظرية الاستلزام التخاطبي بـ”كيف يمكن للمتكلم أن يعني أكثر مما يقول في عملية التخاطب؟ أي كيف تبلغ قولات المخاطب أكثر من معانيها الحرفية؟ وكيف يتمكن المخاطب من التأويل؟”.
ويعد الاستلزام التخاطبي سمة جوهرية في الخطابات التحاورية، وهو “ما يهدف إليه المتكلم بشكل غير مباشر جاعلا من المتلقي يتجاوز المعنى الظاهري لكلامه إلى معنى آخر”، معتمدا على أن المسرح أقدم الفنون التي استخدمت الحوار كأداة أساسية من خلالها يتم تقديم العرض بكل ما فيه من عناصر القصة والحبكة والصراع.. إلخ، ومن أهم سمات الحوار المسرحي الجيد التكثيف. والتكثيف يعني الإيجاز وترك فراغات تعتمد على قدرة المتلقي عبر آلية الاستلزام التخاطبي على ملء تلك الفراغات بما يتناسب مع السياق الذي تدور فيه الأحداث. وتعتمد الحبكة المسرحية بشكل أساسي على الحوار المسرحي “فمن أهم وظائف الحوار تطوير الحبكة” ومن العوامل التي تدل على قوة حبكة الخطاب المسرحي كثرة توليده للاستلزامات التخاطبية، فالعلاقة بينهما طردية.
ويركز الحجراوي على تحليل السرد فهو من العناصر التي تولد الاستلزامات التخاطبية بإشراك الحوار في المسرحيات لكونه يلعب دورا بارزا في الكشف عن المقصود بالاستلزامات التخاطبية، وقد كثر السرد في المسرحيات المتحولة من السير الشعبية لعدة أسباب، أولها طبيعة المادة التي استلهموها في أعمالهم وهي السير التي يعتمد راويها على السرد وخلاله يورد بعض الحوارات وهي تشبه الملحمة، والسبب الثاني أن الكثير من كتاب المسرح العربي قد تأثروا بالمسرح الملحمي البريختي الذي يولي أهمية كبيرة للسرد، وذلك يتضح من الاسم الذي اختاره لمسرحه “المسرح الملحمي”، فبريخت جعل من السرد أداة من أدوات التغريب.
ومن بين كتاب المسرح الذين تأثروا بهذا الاتجاه ألفريد فرج ويسري الجندي ومحمد أبوالعلا السلاموني وعبدالعزيز حمودة وغنام غنام وشوقي عبدالحكيم.. إلخ. كما يغلب على هذا السرد أن يأتي مقرونا بالوصف في هذا اللون من المسرح، مضيفا أن السرد في المسرح السيري عمل على تسريع حبكة الأحداث واختصار الزمن، وجاء لأسباب فنية بهدف ذكر الأحداث التي يصعب تجسديها على خشبة المسرح والكشف عن ماضي الشخصيات.
ويشير إلى أن زيادة تخلق الاستلزامات التخاطبية من الحوار والوصف والسرد في النصوص المسرحية تعد دليلا على قوة الحبكة بترك فراغات تعتمد على تأويل المتلقي للوصول إلى المقصود، فلا تقال المعلومات بشكل صريح ما دام المشاهد قادرا على استحضارها تجنبا للتكرار وسرعة الأحداث، فالإطناب يقلل من خلق استلزامات تخاطبية من العناصر الثلاثة مثلما هو حادث في مسرحية “أسفار سيف بن ذي يزن” لخالد محيي الدين البرادعي.
السير قناع لما يجري على أرض الواقع
كما أن الوصف لعب دورا محوريا في توليد الاستلزامات التخاطبية في المسرحيات المتحولة عن السير الشعبية وانقسم إلى نوعين؛ الوصف المشهدي ويأتي عادة في بداية كل نص وعند تبدل المشاهد لوصف خشبة المسرح وتحركات الأشخاص وهيئتهم، ويعمل هذا النوع على وضع المتلقي على مسرح الأحداث وخلق خلفية مشتركة له مع النص. والنوع الثاني وصف الانفعالات، ويصف الطاقة الشعورية للمتكلم من حزن وفرح وخبث وطيبة.. إلخ، ويعمل كعنصر غير لغوي يسهم في استلزام المعنى المقصود بعيدا عن العبارات اللغوية المختلفة وإن تناقض معها. كما أن الوصف يزداد في أغلب المسرحيات بسبب طبيعة المادة المتحولة عنها وانتقال الأحداث من مكان إلى آخر مما يؤدي إلى تعدد المشاهد، ويأتي الوصف في الكثير من الأحيان مقترنا بالسرد أو الحوار.
ويهتم الحجراوي في الباب الرابع بدراسة الصراع بين الأيديولوجيات واليوتوبيات داخل المسرحيات المستلهمة من السير الشعبية عبر نظريات الحجاج التداولي كاشفا عبر التحليل المنهجي عن “غياب تعددية الأصوات داخل المسرحيات المتحولة من السير الشعبية، بسبب طبيعة الفن المسرحي الذي لا يقبل بالتعددية ويسمح لصوت كامل واحد فقط أن يعبر عن رؤيته ويعمل في المقابل من خلال إطار حجاجي على التقليل من الرؤى المضادة. لكن غياب التعددية في النصوص المسرحية يتفاوت ففي نصوص يكون الغياب تاما، وفي نصوص أخرى سمح مؤلفون للرؤى المضادة بأن تعبر عن نفسها لكن هذا التعدد كان تحت سيطرة كاملة من المؤلف واختارها بعناية كي تسهم في الإقناع بالرسالة التي يريد أن يوصلها إلى الجمهور”.
ويرى أن فلسفة المسرحيات المتحولة عن السير تقوم في خطابها الحجاجي على مبدأ المماثلة من أجل إقناع المخاطب بأن ما يدور من أحداث ما هو إلا معادل موضوعي لما يجري في الواقع لحثه على التغيير ورفض الظلم. فحجاج النص المسرحي مع الواقع هو الرسالة التي يريد إرسالها المؤلف إلى جمهوره، وقد اتخذ لهذه الرسالة قناعا متمثلا في حكاية من التراث، وكان هذا القناع ضرورة للمؤلف كي يعبر عن أيديولوجيته الفكرية دون ضرر يطاله، كما أن هناك سببا آخر يتعلق بطبيعة الفن الذي يرفض المباشرة والتلقين ويسعى لإيصال مضمونه عبر آليات فنية متنوعة تحترم قدرة المتلقي على التأويل.
ويلفت الحجراوي إلى انقسام الصراع في المسرحيات إلى نوعين أحدهما أيديولوجي يقضي بانتصار رؤية على حساب أخرى ويجري عادة بين الأيديولوجيا الحاكمة والأيديولوجيا الخاضعة، والثاني الصراع الحجاجي وهو لا يتطلب بالضرورة أن تقصي رؤية نظيرتها الأخرى ومن الممكن أن يتم التوافق والاقتناع.
ويخلص إلى أن الهوية القومية العربية شغلت أغلب النصوص المتحولة من السير الشعبية وعملت على الدفاع عنها في مواجهة الهويات العرقية المعادية، مثل الفرس والروم والأحباش واليهود، كما ناقشت المسرحيات المتحولة عن السير الشعبية بكثرة مسألة الانعزال بين الهوية الحاكمة في الدول العربية والهوية الاجتماعية الشعبية، وأدانت النصوص المسرحية الانقسام العربي، واشتغلت على تثوير الجماهير من أجل رفض الانقسام وقد كان لحركة يوليو في مصر 1952 دور كبير في انتشار هذه الظاهرة في النصوص المسرحية، حيث اشتد مفهوم الوحدة العربية إبانها.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري