السوري جوزيف مختار يتنقل من متاهة البياض إلى متاهة الغياب
فنان يواجه نفسه والحياة بعوالم حسية تنتمي إلى ثقافة مختلفة.
الثلاثاء 2023/05/16
انشرWhatsAppTwitterFacebook
شخوص تعبر عن الاختلاف البشري
رغم غربته الجسدية والنفسية وما أحدثته في روحه من تغيرات إلا أن الفنان جوزيف مختار لا يزال عاشقا لحلب التي يستمد منها ومن معالمها وتفاصيلها مواضيع أعماله التشكيلية التي تحاول الانفتاح على كل ما هو مختلف وجعله جامعا للأفراد وللمعاني المختلفة.
“العالم ليس لي وحدي، إنه لي ولكل من يسكن هذه الأرض”. مقولة قالها التشكيلي السوري جوزيف مختار (1930) وتلخصها كل أعماله، مقولة فيها من الإيحاء ما يجعلها ترسانة قبول للإحالات والأطياف، ترسانة قبول المختلف وكل تلك الأنساق المحولة منها والثابتة، والتي يمكن تحديدها بالرغبة المتعلقة بحالة سكونها في لحظة مخاضها من المعنى واللامعنى.
الفنان جوزيف مختار ينتشي تماما من الحقول التي مرّ بها، وحملها معه بكل أبعادها وألوانها ورائحتها، فمن حلب حيث ولد حمل إيقاع قدودها كحصيلة ممكنة من مفاهيمها وما يحدد الفعل المنتج كسيرورة مركبة تنتج دلالاتها بالطريقة نفسها وهي تنسج لحظاتها على نحو إبلاغي، إلى الحسكة التي صاغها ووجوهها بحواس مكتفية بذاتها مما جعله يتخذ من إيقاعاتها المختلفة مصدر إلهامه، بملامحها وعلاماتها المتباينة والمروية بتراب وماء، ولها طعم مختلف ومغاير، إلى كندا حيث يقيم والتي فيها رضع الغياب والغربة التي أدت إلى تحوله إلى شيء خارج المفاهيم.
الفنان يسعى بلوحته نحو الصدى لتلك السيرة الناقصة، لعتمة العتبة، لأشيائه التي تواجه متاهة الغياب والبياض
بين هذه الأمكنة الثلاثة راح مختار يتأمل الحالات المتنوعة ويربط الكيانات ببعضها وفق خلاصات معينة تفسر نصه البصري بوصفه وحدة منسجمة دلاليا، غير محدودة زمكانيا، ويرسم الوجوه التي علقت بذاكرته، بعلاماتها وأشكالها الهندسية القادرة على إنتاج دلالتها بتداول علاقاتها وفق تصور اشتقاقي ذهني، وهو ما يجعله يبني بينها سلسلة من العمليات الإدراكية التي ستقوده حتما نحو ثقب الذاكرة والالتقاط منها ومن مخزونها ما يمنحه موقعا داخل ثقافة ما.
جوزيف مختار يشتغل على رسم معالم لها امتداداتها ضمن وجود المادة التعبيرية ذاتها. فهو يحيل روابط الأشياء بأقواسه الكثيرة إلى أشكال لها إبلاغها تبعا لوقائعها وما تفعله في الأشكال من صياغات تحدث التحقق وفعله بوصفهما وحدتين معنويتين في حدود الواقعة ذاتها بغض النظر عن العناصر المشكلة لها في تنظيم سياقها الخاص، السياق الذي سيحقق لأشكاله تلك حالة معطاة في حدود نواياه وزمنها.
في ضوء ذلك يمكن للفنان السوري مختار أن يقود منحنياته بعملياتها المتتالية نحو تحققات أخرى ممكنة، مرتبطة على نحو ما بنظام قيمي عام مع افتراض وجود فضاء إنساني خارج حدود زمنه، وهذه معرفة جديدة منها قد يتسلل مختار نحو اشتقاقات أخرى ستثير اهتماماتنا في حدود زمنها الإنساني، وتجعله قادرا على السير بانحياز نحو جهة معينة لإنجاز أشكال خاصة قابلة على إنتاج مقولات ذات حمولة معرفية وجمالية، وهذا ما يمنحه خصوصية الارتباط بنسق الوجود وإدراكه، وإن في مساره التأويلي الذي يحمل مصالحة ذاتية بينه وبين نفسه، وبينه وبين الممكنات الأخرى.
فنان يراوح بتجربته بين وطنه والغربة
ويمكن القول إن جوزيف مختار، وفي كل حركاته الهلالية، في كل منحنياته، القصيرة منها والطويلة، الصغيرة منها والكبيرة يدون سجلا من الأشكال التي فيها من التواصل الدلالي ما يكفيه ليعبر عن ضفافه كحصيلة لوجود ذات مبصرة قادرة على البرهنة مشهديا بأن طبائع حالاته لا تقتصر على الرؤية الأفقية بل تبتسم للرؤية الرأسية/العمودية، فيها تسكن مجمل عوالمه الحسية التي تنتمي بدورها إلى ثقافة مختلفة وخاصة، ثقافة مزاميرها تتدفق فيضاناً من الحب والهروب إلى الإنسان النابض بروح الرب، وغالبا ما تكون حاملة لأحلام هي القيم الجمالية التي يودع فيها مختار انحناءات الروحية والباحثة عن وطن متنقل لينام فيه.
الفنان جوزيف مختار دائما يطرح على قارئه تساؤلات هي بكثرة الندى على أوراق الربيع، تساؤلات فيها من الإسقاطات البصرية والحسية ما يجعل حركة تكويناته في أشدها وكأنها زخم من معطيات فنية ترغب في الولادة دفعة/دفقة واحدة.
هذا الأمر جعل الفنان يسعى بلوحته نحو الصدى لتلك السيرة الناقصة، لعتمة العتبة، لأشيائه التي تواجه متاهة الغياب ومتاهة البياض، فهو لا يكتفي بإعطاء اللوحة زخماً من القلق والاضطراب ولو للحظات بل يتنقل بها بين أمكنة الذاكرة بألوان متفجرة قد تشكل عوالمه الجمالية بتطلعاتها الهاجسية بلا أي ارتباط إلا بمناخ فيه الكثير من هويته غير القابلة للتجريد، فهو يضفي الكثير من البنى الهندسية (منحنيات، مثلثات، مربعات وغيره) كأشكال تراكمية لتجلياته اللحظية والإيحائية تعوم في فضاء حر ومتداخل في الآن ذاته ليواجه نفسه والحياة بتأملات مرمية كصراخ يحمل من التغيير الكثير، وتزداد درجة هذا التغيير كلما دق الناقوس ممجدا الحب والإنسان.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
غريب ملا زلال
كاتب سوري
فنان يواجه نفسه والحياة بعوالم حسية تنتمي إلى ثقافة مختلفة.
الثلاثاء 2023/05/16
انشرWhatsAppTwitterFacebook
شخوص تعبر عن الاختلاف البشري
رغم غربته الجسدية والنفسية وما أحدثته في روحه من تغيرات إلا أن الفنان جوزيف مختار لا يزال عاشقا لحلب التي يستمد منها ومن معالمها وتفاصيلها مواضيع أعماله التشكيلية التي تحاول الانفتاح على كل ما هو مختلف وجعله جامعا للأفراد وللمعاني المختلفة.
“العالم ليس لي وحدي، إنه لي ولكل من يسكن هذه الأرض”. مقولة قالها التشكيلي السوري جوزيف مختار (1930) وتلخصها كل أعماله، مقولة فيها من الإيحاء ما يجعلها ترسانة قبول للإحالات والأطياف، ترسانة قبول المختلف وكل تلك الأنساق المحولة منها والثابتة، والتي يمكن تحديدها بالرغبة المتعلقة بحالة سكونها في لحظة مخاضها من المعنى واللامعنى.
الفنان جوزيف مختار ينتشي تماما من الحقول التي مرّ بها، وحملها معه بكل أبعادها وألوانها ورائحتها، فمن حلب حيث ولد حمل إيقاع قدودها كحصيلة ممكنة من مفاهيمها وما يحدد الفعل المنتج كسيرورة مركبة تنتج دلالاتها بالطريقة نفسها وهي تنسج لحظاتها على نحو إبلاغي، إلى الحسكة التي صاغها ووجوهها بحواس مكتفية بذاتها مما جعله يتخذ من إيقاعاتها المختلفة مصدر إلهامه، بملامحها وعلاماتها المتباينة والمروية بتراب وماء، ولها طعم مختلف ومغاير، إلى كندا حيث يقيم والتي فيها رضع الغياب والغربة التي أدت إلى تحوله إلى شيء خارج المفاهيم.
الفنان يسعى بلوحته نحو الصدى لتلك السيرة الناقصة، لعتمة العتبة، لأشيائه التي تواجه متاهة الغياب والبياض
بين هذه الأمكنة الثلاثة راح مختار يتأمل الحالات المتنوعة ويربط الكيانات ببعضها وفق خلاصات معينة تفسر نصه البصري بوصفه وحدة منسجمة دلاليا، غير محدودة زمكانيا، ويرسم الوجوه التي علقت بذاكرته، بعلاماتها وأشكالها الهندسية القادرة على إنتاج دلالتها بتداول علاقاتها وفق تصور اشتقاقي ذهني، وهو ما يجعله يبني بينها سلسلة من العمليات الإدراكية التي ستقوده حتما نحو ثقب الذاكرة والالتقاط منها ومن مخزونها ما يمنحه موقعا داخل ثقافة ما.
جوزيف مختار يشتغل على رسم معالم لها امتداداتها ضمن وجود المادة التعبيرية ذاتها. فهو يحيل روابط الأشياء بأقواسه الكثيرة إلى أشكال لها إبلاغها تبعا لوقائعها وما تفعله في الأشكال من صياغات تحدث التحقق وفعله بوصفهما وحدتين معنويتين في حدود الواقعة ذاتها بغض النظر عن العناصر المشكلة لها في تنظيم سياقها الخاص، السياق الذي سيحقق لأشكاله تلك حالة معطاة في حدود نواياه وزمنها.
في ضوء ذلك يمكن للفنان السوري مختار أن يقود منحنياته بعملياتها المتتالية نحو تحققات أخرى ممكنة، مرتبطة على نحو ما بنظام قيمي عام مع افتراض وجود فضاء إنساني خارج حدود زمنه، وهذه معرفة جديدة منها قد يتسلل مختار نحو اشتقاقات أخرى ستثير اهتماماتنا في حدود زمنها الإنساني، وتجعله قادرا على السير بانحياز نحو جهة معينة لإنجاز أشكال خاصة قابلة على إنتاج مقولات ذات حمولة معرفية وجمالية، وهذا ما يمنحه خصوصية الارتباط بنسق الوجود وإدراكه، وإن في مساره التأويلي الذي يحمل مصالحة ذاتية بينه وبين نفسه، وبينه وبين الممكنات الأخرى.
فنان يراوح بتجربته بين وطنه والغربة
ويمكن القول إن جوزيف مختار، وفي كل حركاته الهلالية، في كل منحنياته، القصيرة منها والطويلة، الصغيرة منها والكبيرة يدون سجلا من الأشكال التي فيها من التواصل الدلالي ما يكفيه ليعبر عن ضفافه كحصيلة لوجود ذات مبصرة قادرة على البرهنة مشهديا بأن طبائع حالاته لا تقتصر على الرؤية الأفقية بل تبتسم للرؤية الرأسية/العمودية، فيها تسكن مجمل عوالمه الحسية التي تنتمي بدورها إلى ثقافة مختلفة وخاصة، ثقافة مزاميرها تتدفق فيضاناً من الحب والهروب إلى الإنسان النابض بروح الرب، وغالبا ما تكون حاملة لأحلام هي القيم الجمالية التي يودع فيها مختار انحناءات الروحية والباحثة عن وطن متنقل لينام فيه.
الفنان جوزيف مختار دائما يطرح على قارئه تساؤلات هي بكثرة الندى على أوراق الربيع، تساؤلات فيها من الإسقاطات البصرية والحسية ما يجعل حركة تكويناته في أشدها وكأنها زخم من معطيات فنية ترغب في الولادة دفعة/دفقة واحدة.
هذا الأمر جعل الفنان يسعى بلوحته نحو الصدى لتلك السيرة الناقصة، لعتمة العتبة، لأشيائه التي تواجه متاهة الغياب ومتاهة البياض، فهو لا يكتفي بإعطاء اللوحة زخماً من القلق والاضطراب ولو للحظات بل يتنقل بها بين أمكنة الذاكرة بألوان متفجرة قد تشكل عوالمه الجمالية بتطلعاتها الهاجسية بلا أي ارتباط إلا بمناخ فيه الكثير من هويته غير القابلة للتجريد، فهو يضفي الكثير من البنى الهندسية (منحنيات، مثلثات، مربعات وغيره) كأشكال تراكمية لتجلياته اللحظية والإيحائية تعوم في فضاء حر ومتداخل في الآن ذاته ليواجه نفسه والحياة بتأملات مرمية كصراخ يحمل من التغيير الكثير، وتزداد درجة هذا التغيير كلما دق الناقوس ممجدا الحب والإنسان.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
غريب ملا زلال
كاتب سوري