سردية الرخام الحيّ للفنانة العراقية عفيفة لعيبي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سردية الرخام الحيّ للفنانة العراقية عفيفة لعيبي

    سردية الرخام الحيّ للفنانة العراقية عفيفة لعيبي


    نساء يرسلن "أصداء خالدة" مليئة بالإيحاءات والثنائيات المتناقضة.


    نساء في حالات مختلفة

    اختارت الفنانة العراقية عفيفة لعيبي الاشتغال على النساء عنصرا أساسيا في لوحاتها، تلبسهن هذه المرة سحنة رخامية، وتتابعهن في انشغالاتهن اليومية لتعبر من خلالهن عن مشاعر وخواطر لا تنضب وتنزع بشدة نحو الواقعية الكلاسيكية.

    افتتحت صالة زاوية الفلسطينية معرضا للفنانة التشكيلية العراقية عفيفة لعيبي، ويستمر حتى الثامن من شهر مايو القادم. تقدم الفنانة في هذه الصالة المرموقة في فرعها الكائن في دبيّ ما لا يفوق تسعة أعمال فنية بأحجام مختلفة استغرق إنجازها عدة سنوات.

    أول ما نشعر به حين نسمع بمعرض جديد للفنانة التشكيلية العراقية عفيفة لعيبي هو الشوق إلى رؤية فصول بصرية جديدة من كتاب عن حياة امرأة رخامية وشاهقة صقلها الدفء الغامر ووهبها ملامح عاجية نابضة بالحياة.

    عنوان المعرض الذي تقيمه الفنانة التشكيلية العراقية في صالة زاوية الفلسطينية هو “أصداء خالدة”، ومما يذكره البيان الصحفي المرافق للمعرض أن الفنانة تقدم أعمالا هي “أصداء لحياتها وتتناول عبرها مواضيع اجتماعية وإنسانية بشكل عام. يسيطر على نصها الفني حضور النساء اللواتي يتميزن بالقوة والرقة، أو بالحزن والفرح”.

    ويضيف البيان أن معرض الفنانة يتضمن من ناحية أولى التعبير عن السعادة والسلام كما في اللوحة التي غلب فيها النعاس المرأة فنامت وهي تحتضن طفلها الذي لا يزال مستيقظا، وفي اللوحة التي تقف فيها امرأة تنتظر حبيبها وهي تحمل زهرة بمحاذاة النافذة. ومن ناحية أخرى تحضر في الصالة لوحات تعبر عن القلق والحزن والخوف كما في اللوحة التي تظهر فيها المرأة كنصب رخامي أبيض تعرض إلى تصدع عميق فهوى أرضا، ولوحة أخرى ظهرت فيها امرأة ترتدي ثوبا أسود وتحجرت ملامحها وهي تعزف الناي ووراءها مشهد داكن يمثل الحرب والموت.


    واحدة من أهم الفنانات العراقيات


    ربما في رصيد الفنانة عفيفة لعيبي المئات من اللوحات التي تجسد نسوة في انشغالاتهن اليومية التي لا تنضب، ولكن تسهل رؤية هذه النسوة على أنهن يمثلن امرأة واحدة حتى وإن بدلت تصفيفة شعرها أو فستانها. وبذلك تبدو المرأة في لوحاتها حمّالة لكل المشاعر التي تجسدها وكل الأعمال التي تقوم بها وكل المواقف التي تختبرها.

    تتكاثر المرأة العاجية الدافئة في لوحات الفنانة وكأنها في نسخ متبدلة ومختلفة لا نهاية لها. وعلى الرغم من المركزية الهائلة التي تهبها الفنانة للمرأة، إلا أنها تبدو كأنها حاضرة لهدف واحد وهو أن تفيض دون توقف بكل المواقف والصور والحالات الشعورية والفكرية التي واكبتها في اللوحات.

    المرأة في لوحات الفنانة هي أشبه بكتاب ضخم، ورخامي عتيق حافظ على ملمسه الناعم وبريق سطحه في كل لوحة من لوحات الفنانة فيفصح عن صفحة من صفحاته.

    وإن كنا وجدنا المرأة في لوحات الفنانة عفيفة لعيبي في معرضها هذا كما في معارضها السابقة مصنوعة من رخام حليبيّ ومصقول، فإن للرخام خصائص غير القوة “تتمتع” بها، إن صح التعبير، المرأة في لوحاتها. ومن أهم هذه الخصائص باختصار شديد أنه يأتي في الطبيعة مع مجموعة واسعة من الألوان والظلال المراوغة التي من الممكن أن تحضر في اللوح الواحد. ومن مميزاته أنه يشفّ في أماكن محددة مما يؤدي إلى ظهور أفضل تلاعب بالضوء والظل على سطحه.


    المرأة في لوحات الفنانة أشبه بكتاب ّضخم، ورخامي عتيق حافظ على ملمسه الناعم وبريق سطحه في كل لوحة


    ومثل الرخام تظهر كل النساء في لوحات الفنانة من خلال شكلها الخارجي وبنيانها الداخلي الشعوري والفكري والروحيّ. من قوته تتمتع المرأة بهيبة الأنصاب الضخمة ومن تعدد ألوانه، لاسيما الوردي والأصفر والأزرق والعاجي، تنضح بشرتها بالحياة والدفء تارة وبالحزن وشدة الصبر حينا آخر.

    حول تلك الصفات والمميزات وأكثر تدور سردية “الأصداء الخالدة”.

    تتحدث المرأة في لوحات الفنانة العراقية عن مشاعر وخواطر لا تنضب. منها ما يعتمل ويتفاعل خلف سحنتها العاجية الهادئة ومنها ما يخرج إلى العلن في مواقف حياتية ويومية. وفي كلتا الحالتين تبدع الفنانة في جعل المرأة الرخامية كائنا رقيقا، رغم ضخامته تنضح حركات يديه بخفّة تذكر في العديد منها بحركة الطير في السماء لاسيما حين يوقف طيرانه للحظات.

    ونذكر هنا اللوحة التي تحتضن فيها أم ابنها بينما ترخي يدها على غطاء السرير الأخضر دون أن تلتصق به لتبقى مسافة فراغ بينها وبينه.

    ليست أعمال الفنانة خيالية وليست انطباعية ولا هي أعمال رمزية وسريالية، ولكنها أعمال تنزع بشدة إلى الواقعية/الكلاسيكية وتتغذى بكل تلك التيارات الفنية المذكورة آنفا وربما لأجل ذلك تبدو كل لوحة من لوحاتها، حتى تلك التي يحدث فيها ظاهريا أي شيء، مليئة بالإيحاءات وغنية بالأفكار والمشاعر المتناقضة أو تلك التي يؤدي بعضها إلى بعضها الآخر.


    ويبقى السكون سيد لوحاتها بلا منازع. وهو سكون رديف للحياة وليس صمت الخذلان المطبق. سكون مناف للموت ومُستحضر للسلام والطمأنينة، وزارع في النفس الثقة بالنقاء من خلال ملامح المرأة المصقولة بإنسانيتها والمُترفعة عن الأهوال التي تعرضت لها ولا تزال تتعرض لها. لذلك من الصعب تصنيف أعمالها بأنها تنتمي إلى ما جرت تسميته بـ”الفن النسوي” لأنها أكثر رحابة وتطال الإنسانية وطبيعة البشر وتشمل في أكثر من لوحة أفكارا فلسفية مرتبطة ارتباطا وثيقا بمعنى الوجود في ظل الفناء وفي لحظة تخطيه له.

    لأجل ذلك يلتوي الزمن ويتوقف في الكثير من لوحات الفنانة عفيفة لعيبي تحت وطأة السكون المُسيطر والذي ذكرناه آنفا لتحضر فكرة مُبلسمة في الكثير من نواحيها: إن الحياة الحقيقية هي في بُعد آخر.

    يُذكر أن الفنانة عفيفة لعيبي هي واحدة من أهم الفنانات العراقيات، ولدت في مدينة البصرة، بجنوب شرق بغداد، وتخرجت في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعملت في الصحافة العراقية، ثم غادرت البلاد عام 1974 إلى ما كان يسمى الاتحاد السوفييتي آنذاك، ودرست في أكاديمية سوريكوف للفنون الجميلة بموسكو، ثم سافرت إلى إيطاليا ومنها إلى اليمن لتعمل رسامة في الصحافة لسنوات، ثم شاركت في عدة معارض فنية في كل من سوريا ولبنان وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة.

    استقرت في هولندا حيث أقامت مجموعة من المعارض الفردية وشاركت في معارض جماعية. ويُذكر أيضا أنها تقيم بشكل دوري وثابت معارضها الشخصية في قاعة “دي تفيي باون” في لاهاي، ولها مساهمات دورية في قاعات أخرى، مثل غاليري كودا في أمستردام وغاليري بريما فيسته في ماستريخت.




    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    ميموزا العراوي
    ناقدة لبنانية
يعمل...
X