السوري سعيد عيسى فنان يقترب من نغمة المسطحات اللونية وحكاياتها
رؤية قوية تهتم بالجماليات الخاصة وفق رموز مثيرة للمتلقي.
وجوه تستفز المتلقي
كبر الفنان السوري سعيد عيسى في عالم مشحون باللون والتشكيل، لذلك لم يستطع إلا أن يكون فنانا تشكيليا يسلك العديد من المسالك والمدارس الفنية، محاولا صناعة عالم خاص به ينطلق من انتمائه المحلي ومما تأثر به في صغره، ويكون امتدادا لتجربة والده الفنان لكنه امتداد مختلف ومغاير يجعل أعماله شبيهة بحركة وجود متجددة.
”وأنا صغير كنت أراقب أبي عندما كان يلوّن المساحات البيضاء، وخلسة كنت آخذ ألوانه وأرسم بها على الجدار أو على بقايا لوحة مهترئة، هكذا بدأت خطواتي الأولى في الرسم وفي جو فني كان قد أصبح جزءا من حياتنا اليومية، كنّا نشم الألوان أكثر من العطر”.
بذلك يلخص سعيد عيسى (1982- عامودا) ممارساته الأولى مع اللون، فوالده محمود عيسى فنان تشكيلي معروف وهو من أوائل الذين اشتغلوا في الرسم في مدينة عامودا، فكان من الطبيعي أن يكبر سعيد عيسى بين أقواسه الملونة متأثرا بها على نحو ضمني راسما حبكته بعناصره التكوينية بوصفها أساسا للمخاطرة الجميلة التي تبقي على الجذر الإنساني المشترك القائم على ما يؤكد وحدة الدافع مع الإلحاح على تحطيم القيود التي كانت تربط الموضوع بدرجات محلية معينة.
والفنان الشاب يؤكد بذلك انتسابه إلى الإنسانية في درجاتها المحلية القصوى وبذلك لا بد له أن يوسّع من دوائر الوعي متعددة الوجوه، وبعاطفة فائقة القدرة على الجمع بين سبل حكاياته وسرودها التي تحقق قيما جمالية وتشكيلية، وبين الوقائع الحياتية والتقاطها بعيدا عن رصدها في مجرياتها الحقيقية لكن تحمل رؤية مازالت تحتفظ بقوة بنائها، وما تحاكيه من مهارات تعبيرية عالية تتباين مع تشكيلاته المشبعة بمنظومات قيمية قد يشكل الرصد المفاجئ والمتلاحق لمواقعها ومجرياتها.
هو يهتم بالجماليات الخاصة التي منها سيجني هو والمتلقي متعتها الخاصة كمحصلة لمحدداته الفنية وما تحتويه من ألوان وخطوط وتكوينات لا يصعب لمس منحاها الصارم إلى حد ما، القريبة من عملياتها غير الإدراكية المسؤولة عن الوصول إلى مسطحاته الخاصة بأحكامها الجمالية التي قد نتفق معها أو قد لا نتفق إن كان عبر العديد من الاختبارات التي نجريها على تشكيلاته وتفضيلاتها، أو عبر الاتكاء على الاتفاق بين المتلقين حول مهاراته الإبداعية.
ويمتلك الفنان مهارة الاقتراب من نغمة تلك المسطحات اللونية وتوثيق ارتباط حركاتها المنسجمة بطبيعة لحنها الذي على أساسه تحدد مسافاتها من بعده الواحد، في ارتفاعها أو انخفاضها تبعا لطغيان الحالة الخاصة إن كانت مكتفية أم لا في نموّها وبنائها، في تشكيلها وانفعالها، وتبعا لظهور التوافقات التي تعقب ظهور التنافر عادة، كذلك تبعا للتآلف النغمي الذي سيكون مفتاحه لأشكال تعيش الانسجام فيما بينها.
ويمكن الكشف عن تلك الأشكال وعن مكوناتها لاحقا من خلال تفكيك خطوطها الأساسية واتجاهاتها الأفقية منها والعمودية، وبما توحيه من أحاسيس مملوءة بالطموح والانكسار معا.
في ضوء ذلك فالمناحي المعرفية وما تحمله من معلومات ورموز وتمثيلات ستشكل بحيرات إبداعية بآفاق خصيبة متاحة له كمواقع ملائمة فيها يفخّم عيسى في تلاوته كشكل من أشكال انتشال النص المنتج من كل ما يهدّده من مخاطر كالتماثل والتكرار والوهم والرتابة والتردي، فيحشد كل وسائله التي يعوّل عليها، ويزيد من إيقاع التفخيم حتى تبدو تلاوته أكثر تأثيرا في عملية استرداد جمالية نصه.
وسعيد عيسى هنا يستنهض كل الحركات الموالية له كمستلزمات تدله على البذور القادرة على الإنتاج، القادرة على أن تكون سنابل تعبث بها الريح كملفوظات تكشف له في كل مرة عن بعد جديد، وتفصح له عن كل ما تخفّى في داخل مكوّنه البنائي وينهض بها في مهمة ليست سهلة بل في غاية الخطورة والمغامرة وفق طرائق تزخر بالارتقاء والدلالات، متخذا منها وسيلة لتقريب الوجود كسيرورة تعتصر في رحابها كل شهيقه وزفيره، ملغيا المسافات الفاصلة التي تتطلب الامتثال لشروط الالتزام ومتطلباته، راسما بدقة حركة الاستدراج والحث الذي يحقق التحفيز والإثارة ومقاصدهما، والتي بدورها تستنهض المتلقي وكل ما ينشد هذا الاستنهاض وفق تثبيت حاجاته أو الشروع بها، أو وفق دفعه إلى التخيّل الأمر الذي يريحه ويريح نفسه بعيدا عن متطلبات رؤيوية أو فكرية قد تفرض عليه من قبل الفنان حتى تغدو تلك اللحظات المتخيّلة مسرحا يخص المتلقي ذاته أكثر مما يخص الفنان وعليه يمارس كل متوالياته واستعاراته واستنتاجاته، فيعصر في أحشائه كل ما يكفّ عن الكلام.
ههنا بالضبط يتجدّد الوجود وكل الأزمنة المشرعة للريح كحاجات قد تستدعي بعض الخبرة لتبرعم وتعلن عن نفسها صريحة لا مبطّنة، تتلقف الرغبات والقناعات والأفكار لترتقي إلى ذرى عشق تجري فيه ألسنة اللهيب، وتهتدي بمنجز فني آن له أن يحوّل ذلك كله إلى فعل يغور في النفس والروح والمشاعر كما غار في العيون وأضوائها.
إن المسالك التي يسلكها الفنان السوري سعيد عيسى كثيرة، بل تكاد تشكل متاهة قد يتوه فيها المتلقي إذا لم يمعن فيها إمعان العاشق في مفاتن حبيبته، فهو يخطوها جميعا في الوقت ذاته، عليه أن يرصد الطريق الذي سيسلكه جيدا، فالاختيار ضرورة والذي يكون مدمرا إن لم يكن صائبا، فصواب اختيار الطريق لا بد منه، وحده سيحمله ورؤاه وتصوراته إلى بر الجمال والتميّز.
فالنظر إلى حدث التغيير لا بد منه إن كان في حركة خفية يشرع في طرحها، أو في الاهتمام بما يخص التجديد وإشكاليات أبعاده، والمراوغة في الاستكشاف قد تكون محببة لدى معظم الفنانين لكن بشرط أن ترافقها حزمة من إشارات استفهام يوزعها على ذات الطريق ليجيب عليها واحدة إثر الأخرى وهو يخوض فيها.
وقد تكون المسألة نسبية لدى الفنان فالجميع يبني مواقفه ومجمل خياراته بما يلبّي قناعاته، المضمر منها والمكشوف، والتي قد تتمثل في خفقان ذلك في منتجهم، والرغبة في الكشف يجب أن تعلن عن نفسها. وما يجيش في أعماق عيسى من حياة وأمل وحب وألم ما هو إلا رغبات يحييها في جميع أعماله، وفي مجمل خياراته، ويتجلى ذلك أيضا في الصدى الراغب بالخروج عن المألوف، وتجاوز التقليد للنفاذ إلى مقولة التجديد وتلوينه.