رهبنه
-
الرهبنة
الرهبنة monasticism نظام ديني، المقصود منه الابتعاد عن ملذات الحياة الدنيوية واعتزال الناس والتقيد بنذور vows معينة، والتفرد في الأديرة طلباً للعبادة والتقرب من الله. وقد تعني الرهبنة أيضاً رتبة دينية. ولها أسس عدة أهمها التبتل (عدم الزواج) والتقشف والفقر الحرمان وترويض الأبدان بالجوع والعطش وخشن اللباس، والزهد والطاعة واحتمال الآلام.
مرت الرهبنة بمراحل عدة، فكانت في بدايتها هروباً من الناس وبعداً عن المدن والقرى، وانطلاقاً في الصحارى والبراري ولجوءاً إلى الكهوف، بقصد محاربة شهوات الجسد والإكثار من العبادة والتأمل، مع المحافظة على الوحدة والتفرد.
وبمرور الزمن ازداد عدد الراغبين في الترهب، فبنوا لأنفسهم صوامع متجاورة وانتهى بهم الأمر إلى بناء أسوار عالية تضم بداخلها عدداً من الصوامع فنشأت بذلك الأديرة وانتشرت هنا وهناك.
وقد عرفت الديانات الأرضية القديمة فكرة الرهبنة، فكانت اليانية [ر] Jainism، وهي ديانة نشأت في القرن السادس قبل الميلاد، أول ديانة عرفت الرهبنة المنظمة، وأوجدت لها قواعد محددة، بهدف تحرير الروح بالمعرفة والإيمان وحسن السلوك. وتبعتها البوذية في ذلك، فدعت أتباعها إلى الابتعاد عن الشهوات والملذات، لأنها سبب الشقاء، والقضاء عليها هو قضاء على الألم.
وعلى الرغم من قدم نشأة الهندوسية، فإنها لم تعرف الرهبنة نظاماً محدداً إلا في القرن التاسع الميلادي على يد الراهب سنكرا Sankra الذي أسس ديراً، وكان للهندوسية قبل ذلك نسّاك يعيشون ويمارسون شعائرهم منفردين.
ولم تعرف اليهودية الرهبنة قط، وكذلك نهى عنها الإسلام، بعد أن رأى الرسول الكريمr ميل بعض الصحابة إلى المبالغة في الزهد والعبادة.
أما عند النصارى فقد نشأت الرهبنة رغبة في التضحية والفداء، واستجابة لتعاليم السيد المسيح في احتقار المال والعتاد والتمسك بالأسرة، ويروى عنه قوله: «إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني» (متى19: 21ـ24).
الرهبنة المسيحية في الشرق
بدأت الحياة الرهبانية في الشرق في القرن الثالث الميلادي، وبلغت أوج نموها في القرن الرابع الميلادي. ويعد الناسك أنطونيوس الكبير Anthony of Egypt المولود في مصر سنة 251م، مؤسس الرهبنة الشرقية، فقد دعا إلى حياة الانفراد والعزلة، وإنكار الذات والصلاة والتفكير بالله، بعيداً عن المدن والاضطرابات الدينية.وعاش في انفراد تام مدة عشرين عاماً، مجاهداً بالصوم والصلاة ومعرضا ذاته لجميع أنواع الحرمان، فذاع صيته في كل أنحاء مصر، وتوافد المسيحيون لزيارته، ورغبوا في العيش بقربه وتحت قيادته، فتألفت حوله جمعية من التلاميذ النساك، وكانت أول جمعية رهبانية (عام 305م). ولم يكن لها قوانين مفصلة بشأن الحياة النسكية، بل جملة من الطرق لبلوغ الكمال الروحي والأدبي السامي، اقتداءاً بسلوك مؤسسها ومثله وأخلاقياته. وقد دعيت هذه الجماعات النسكية «لافرا».
وظهر في زمن أنطونيوس نمط آخر لحياة الرهبنة، هو الرهبنة الجماعية، أسسه باخوميوس الكبير Pachomius (المولود سنة 290م)، وقد أسس باخوميوس عدة أديرة متقاربة على شواطئ النيل، وبنى أيضا ديراً للنساء على شاطئ النيل المقابل، كانت شقيقته أولى من سكنه. ثم وضع قوانين محددة للحياة الجماعية، كانت بمثابة أول نظام رهباني. قسم فيه جماعة الرهبان إلى أربع وعشرين درجة، حسب تقدمهم في الحياة الروحية، ووضع هذه الجماعة تحت إدارة رئيس عام واحد (أرشمندريت)، وكان هذا الرئيس هو باخوميوس نفسه.
وكان نظام الرهبنة صارماً بغرض «الفقر الاختياري» الذي يقضي بتوزيع جميع المقتنيات على الفقراء، وارتداء ثياب بسيطة ومتشابهة، والعمل من أجل الإنفاق على الأخوية، ومنع تنقل الرهبان من مكان إلى آخر، وفرض اختباراً مدته سنة كاملة على الرهبان الجدد ليظهروا استعدادهم للعيش وفق هذه القوانين.
وقد اتسع نطاق الرهبنة المنفردة والجماعية كثيراً، فانتشرت في كل أنحاء مصر، وانتقلت إلى سورية وآسيا الصغرى وسواحل البحر الأسود الجنوبية. ومع بداية القرن الخامس انتشرت الأديرة في الشرق كله، وبرز رهبان كثيرون أمثال أمون Amon ومكاريوس المصري Macarius وهيلاريون Hilarion وباسيليوس Basilios وبيلوسيوط Bilosiot وأفتيميوس Aphtimios وسمعان العمودي St.Simeon Stylites وسابا المتقدس Saba ويوحنا فم الذهب John Chrysostomus وغيرهم.
وقد التزمت الرهبنة في جميع الكنائس الشرقية إلى اليوم الحاضر القانون المنسوب إلى باسيليوس وأنطونيوس، وأديرتها كثيرة ولها نفوذها السياسي والديني الكبير.
الرهبنة المسيحية في الغرب
انتقلت الرهبنة إلى الغرب بفضل القديس أثناسيوس Athanasius، في أثناء نفيه الثاني إلى روما، ووصفه لحياة القديس انطونيوس، وبنائه ديراً في جبل أثوس في اليونان. واستطاع أساقفة الغرب (أمثال أوسبيوس Uspios أسقف فرتشل وأيرونيم Irenem ومارتين أسقف تور Martin of Tours) الذين أبعدوا إلى الشرق، بسبب الاضطرابات الأريوسية في منتصف القرن الرابع الميلادي تعرّف الحياة الرهبانية الشرقية ونقلها إلى بلادهم وبناء الكثير من الأديرة. ويقال إن مارتين، أسقف تور، مؤسس الأديرة الأولى غربي جبال الألب، هو أبو الرهبنات في الغرب. واستطاع معاصره كاسيانوس Cassiann إنشاء أديرة في مرسيليا ثم كتابة رسالة عن الأديرة والرهبنات التي كان لها أثر كبير في تنصير الكثيرين، أمثال القديس أوغسطين[ر] Augustine الذي أسس في شمالي إفريقيا رهبنة ووضع لها قانوناً خاصاً صار فيما بعد قانوناً لألوف من الأديرة الأوربية، ثم نظم بنيدكت نورسيسك Benedict of Nursia في القرن السادس الميلادي نظام الرهبنة في الغرب بأشكال مختلفة نوعا ما بالمقابلة مع الرهبنة الشرقية، فأسس في فلورنسا اثني عشر ديراً، كما أسس الدير الشهير باسم مونتيكسيني Montiqesin، ووضع شروطاً و قواعد للرهبنة في كتابه الذي ألفه عام 529م، وأوصى فيه بالنظام والاعتدال ومحبة العمل. وبموجب قوانينه، ينبغي على من يدخل الدير أن يخضع للتجربة سنة كاملة، ثم يقسم اليمين بالتزام قوانين الرهبانية، وعدم ترك سلك الرهبنة إطلاقاً، كما ينبغي عليه العمل في الحقول ودراسة الكتب المقدسة والتعاليم المسيحية، ونسخ الكتب وتهذيب الأطفال، ثم أضيف فيما بعد إلى أعمال البنيدكتيين الأعمال التبشيرية والاشتغال بالعلوم العلمانية. وقد عم الغرب نظام الرهبنة البنيدكتي، وسادت قوانينه وكان لها التأثير العظيم على سير الأعمال الكنسية.
وعندما عمّ الفساد الأدبي والتجزئة أجواء الحياة الكنسية الغربية، في العصور الوسطى، أهملت قوانين بنيدكت، فدخل أساقفة الأديرة في علاقات إقطاعية مع الملوك والأمراء، كان نتيجتها الغنى والثراء، فعاش الرهبان حياة ترف وتسيب، ولم يبق أي ذكر للاجتهاد العقلي والطبيعي. وظهرت، كردة فعل، بعض المحاولات التي اتجهت إلى تجديد الرهبنة بموجب قوانين بنيدكت، كالمحاولة الفرنسية التي قام بها فينيدكت أنيان Aniane، ومحاولة الأب برنون Bernon الذي أسس في عام 910م ديراً في كلوني في بورغونيا وأدخل إليه قانون بنيدكت.
ومع بدء القرن الحادي عشر برزت محاولات لإعادة الحياة النسكية الشرقية الانفرادية القديمة، منها محاولة روموالد Romuald الذي أسس في سنة 1018م في سهل مالدول جمعية رهبانية، عرفت في الغرب باسم رهبنة كامالدول Camaldol، وكانت هذه الرهبنة هي الثانية في الكنيسة الغربية بعد البنيدكتية. واتصف رهبان هذه الرهبنة بصرامتهم في القوانين الحياتية والنذور.
وتكاثرت الرهبنات حتى أمر المجمع اللاتراني سنة 1215م بمنع إنشاء رهبنات جديدة، ومع ذلك ظهر في الكنيسة الغربية في القرون الوسطى (من الحادي عشر إلى الخامس عشر) جملة من الرهبنات، كان أكثرها شهرة:
ـ رهبنة البرناردين التي أسسها روبرت سنة 1098م في ديره في ديجون. وفي الدير نفسه تأسست أيضاً رهبنة سيسترسيس Cistercian، وكان نظامها مقتبساً من نظام البنيدكت القديم. وأعضاؤها قليلي العدد، لكن انضمام برنار دو كليرفو Bernard de Clairvaux الشهير لهذه الرهبنة أكسبها ثقة الشعب واحترامه وثقة الباباوات والأمراء، وعرفت باسمه، فانتشرت في جميع أنحاء أوربا، وأحرزت غنى عظيماً، ونتج من ذلك ضعف النظام الديري.
ـ رهبنة الكرمليين التي أسسها أحد الصليبيين، بيرتولد Biertoled، الذي سكن جبل الكرمل في فلسطين مع أصدقائه، منتصف القرن الثاني عشر، وعاش على مثال النساك الشرقيين القدماء. وقد أعطى البطريرك اللاتيني لنساك الكرمل في بداية القرن الثالث عشر قانوناً، لكن الكرمليين انتقلوا إلى الغرب بعد سقوط الصليبيين، وتخلوا عن قانونهم الفلسطيني ليسلموا بقانون أحدى الرهبنات الفرنسيسكانية. واشتهرت رهبنة الكرمليين فيما بعد بنصفها النسائي في عهد الكرملية تيريزا Therese.
ـ رهبنة الفرنسيسكان Franciscan التي أسسها فرانسيسك Franciscos سنة 1208م، واجتمع حوله بضعة تلاميذ وألف منهم رهبنة الأخوة الصغار أو مينوريت Minoriet (الاسم الأول لرهبنة الفرنسيسكان). وكانت أهم نذور هذه الرهبنة الفقر التام (الرسولي)، والعفاف والتواضع والطاعة؛ وأهم أعمالهم الوعظ عن التوبة والتبشير وحب المسيح. وقد أخذت هذه الرهبنة على عاتقها واجب مساعدة الكنيسة في خلاص النفوس البشرية. وصار أكثر رهبانها أساتذة مدارس لاهوتية وجامعات، ومن أشهرهم بونافنتورا[ر] Bonaventure واسكندر الهاليسي Alexander of Hales وجون دنس سكوت[ر] Duns Scotus.
ـ رهبنة الدومينيكان Dominican وهي رهبنة كاثوليكية رومانية معاصرة أسسها الكاهن دومينيك، وأضاف إلى الأصول الأوغسطينية عدة قوانين من شأنها التضييق على الرهبان في نذر الفقر وكيفية العيش. وكان هدفها الأول القضاء على الهرطقات التي ظهرت آنذاك، وتثبيت الإيمان الكاثوليكي، عن طريق الوعظ وإتمام الاعتراف، ولهذا عرفت أيضاً باسم رهبنة الأخوة الواعظين، واشتهر منهم القديس ألبرت الكبير Albert the Great والقديس توما الأكويني [ر] Aquinas. وكانت تعاليم هذه الرهبنة قريبة من تعاليم الرهبنة الفرنسيسكانية، امتازت باتجاهها العلمي والثقافي، ولهذا أحرزت أهمية كبيرة في الكنيسة الرومانية، ومنح الباباوات أعضاءها صلاحيات واسعة في الأعمال الرعوية، كما شغلوا مراكز بارزة في محيط الرئاسة الروحية الكنسية، وبفضل ذلك أسهم الرهبان في جميع أنواع الأعمال الروحية، فبرز منهم مبشرون ووعاظ وأساتذة جامعات ومستشارون وحكام مراسلون للباباوات.
ـ رهبنات الفرسان الروحية التي ظهرت في الكنيسة الغربية في العصور الوسطى بسبب الحملات الصليبية، وهي رهبنات نصف رهبانية ونصف علمانية، وأهمها رهبنة اليوحنيين والطامبليري (الهيكليوين) اللتين ظهرتا في القدس، ثم انتقلت تعاليمهما بعد تحرير القدس (1187) إلى قبرص ثم بطلومائيس (عكا اليوم) (1291) ثم إلى رودوس وأوربا الغربية، وكان من أهم نذورهما الدفاع عن الحجاج.
ـ الرهبنة الأوغسطينية، وهي كاثوليكية رومانية أسسها أسقف هيبو القديس أوغسطين[ر] وتتألف من عدة جمعيات منفصلة، جمعها البابا اسكندر الرابع في عام 1256م، ووضع لها قوانين أوغسطين الموجودة في كتاباته، وصارت الرهبنة الأوغسطينية من رهبنات المتسولين، وكانوا يسمون في انكلترا الأخوة السود بسبب لون ثيابهم. ولهذه الرهبنة فروع كثيرة قوانينها أشد صرامة من الرهبنة الأصلية، ومركزها الأول في روما.
كان للإصلاح الرهباني في القرن السادس عشر دور بارز في تاريخ الرهبنات، وحدد المجمع التريدنتيني منافع الرهبنات ونظم أملاكها وإدارتها الداخلية وانتخاب رؤسائها، ووضع أصولاً لمجامعها السنوية، وجعل للأساقفة حق تفتيش الأديرة ومراقبتها. ونشأت رهبنات حديثة تهتم بالوعظ والتعليم ومساندة الفقراء وإعالة المرضى، أشهرها الكبوشية والتيطسية والبرنابية واليسوعية ورهبنة مار فيليب الأوراتورية التي تفرع عنها الفرنسوية والعازرية والمخلصية وغيرها. وتحتل هذه الرهبنات المكانة الأولى بين جمعيات العالم العلمية، لانهماكها بالتعليم والمناهج المدرسية.
وفي القرن الثامن عشر تناقص عدد الرهبنات بأمر من الملك جوزيف الثاني، وأبطل العديد منها، أمثال اليسوعية التي اتهمت بتعزيز التعصب الديني، ولحقت بها أخريات بسقوط الدولة النابولية. لكن البابا بيوس السابع Pie VII أعاد الرهبنة اليسوعية في عام 1814م وتعاظم نفوذها في جميع أنحاء أوربا وأمريكا. لكن ألمانيا ألغت هذه الرهبنة كما أبطلت الرهبنة المخلصية وأخوات المحبة، وكذلك فعلت روسيا مع أكثر الرهبنات الكاثوليكية. أما أراضي الدولة العثمانية فقد نمت فيها الرهبنات واتسعت أعمالها الدينية والتعليمية، نتيجة للحرية الدينية التي كانت تسود فيها.
ومع مطلع القرن التاسع عشر، تأسست رهبنات يفوق عددها ما سبق، وتميزت أديرتها الحديثة بأعمال وأهداف علمية تنطبق مع روح العصر. وقد أولى البابا بيوس التاسع جلّ جهده لإصلاح الرهبنات والعناية بها، ولاسيما الدومينيكانية.
أما البروتستنت فقد رفضوا الرهبنة الكاثوليكية الرومانية ورهبنة الكنيسة الشرقية، وأقيمت في بعض الكنائس البروتستنتية كإلانكليزية والأسقفية الأمريكية، جمعيات مؤلفة من إناث وذكور تسمى «أخويات» ونمت مؤخراً كثيراً بمساعدة الكنيسة العالية. وقد أسست مدارس الكنيسة الإنجيلية واللوثرية العالية في القرن التاسع عشر بيوتاً كالأديرة للشماسة، بغية تعليم الناس والعناية بجميع أحوالهم. وأسست جمعية الدنكرز الأمريكية رهبنة خاصة، ولم تفرض على أعضائها نذر البتولية.
وأما الرهبنة اللبنانية المارونية المعروفة بالحلبية، فهي أنطونية بقوانينها، وينسب تأسيسها في لبنان إلى ثلاثة موارنة قدموا في عام 1692م من حلب، وهم جبرائيل ابن حوا، وعبد الله قرائلي، ويوسف ابن التنين، وكانوا شباناً من ذوي الثروة والحسب. وقد حازت القوانين والفرائض التي جمعوها من رسومات القديس أنطونيوس الكبير وتلامذته، وكذلك النذور الأربعة (الطاعة والعفة والفقر والتواضع)، رضى بطاركة الملة المارونية، فثبتها البابا كليمنت الثاني عشر عام 1732م. وفيما بعد 1768م، انقسمت هذه الرهبنة إلى حلبية لبنانية وبلدية لبنانية بأمر من البابا كليمنت الرابع عشر سنة 1770م، فكان لكل رهبنة أديرتها الخاصة، وتخضع قوانينها وفرائضها للبطريرك الأنطاكي الماروني والكنيسة الأنطاكية.
سوسن البيطار
-
الرهبنة
الرهبنة monasticism نظام ديني، المقصود منه الابتعاد عن ملذات الحياة الدنيوية واعتزال الناس والتقيد بنذور vows معينة، والتفرد في الأديرة طلباً للعبادة والتقرب من الله. وقد تعني الرهبنة أيضاً رتبة دينية. ولها أسس عدة أهمها التبتل (عدم الزواج) والتقشف والفقر الحرمان وترويض الأبدان بالجوع والعطش وخشن اللباس، والزهد والطاعة واحتمال الآلام.
مرت الرهبنة بمراحل عدة، فكانت في بدايتها هروباً من الناس وبعداً عن المدن والقرى، وانطلاقاً في الصحارى والبراري ولجوءاً إلى الكهوف، بقصد محاربة شهوات الجسد والإكثار من العبادة والتأمل، مع المحافظة على الوحدة والتفرد.
وبمرور الزمن ازداد عدد الراغبين في الترهب، فبنوا لأنفسهم صوامع متجاورة وانتهى بهم الأمر إلى بناء أسوار عالية تضم بداخلها عدداً من الصوامع فنشأت بذلك الأديرة وانتشرت هنا وهناك.
وقد عرفت الديانات الأرضية القديمة فكرة الرهبنة، فكانت اليانية [ر] Jainism، وهي ديانة نشأت في القرن السادس قبل الميلاد، أول ديانة عرفت الرهبنة المنظمة، وأوجدت لها قواعد محددة، بهدف تحرير الروح بالمعرفة والإيمان وحسن السلوك. وتبعتها البوذية في ذلك، فدعت أتباعها إلى الابتعاد عن الشهوات والملذات، لأنها سبب الشقاء، والقضاء عليها هو قضاء على الألم.
وعلى الرغم من قدم نشأة الهندوسية، فإنها لم تعرف الرهبنة نظاماً محدداً إلا في القرن التاسع الميلادي على يد الراهب سنكرا Sankra الذي أسس ديراً، وكان للهندوسية قبل ذلك نسّاك يعيشون ويمارسون شعائرهم منفردين.
ولم تعرف اليهودية الرهبنة قط، وكذلك نهى عنها الإسلام، بعد أن رأى الرسول الكريمr ميل بعض الصحابة إلى المبالغة في الزهد والعبادة.
أما عند النصارى فقد نشأت الرهبنة رغبة في التضحية والفداء، واستجابة لتعاليم السيد المسيح في احتقار المال والعتاد والتمسك بالأسرة، ويروى عنه قوله: «إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني» (متى19: 21ـ24).
الرهبنة المسيحية في الشرق
بدأت الحياة الرهبانية في الشرق في القرن الثالث الميلادي، وبلغت أوج نموها في القرن الرابع الميلادي. ويعد الناسك أنطونيوس الكبير Anthony of Egypt المولود في مصر سنة 251م، مؤسس الرهبنة الشرقية، فقد دعا إلى حياة الانفراد والعزلة، وإنكار الذات والصلاة والتفكير بالله، بعيداً عن المدن والاضطرابات الدينية.وعاش في انفراد تام مدة عشرين عاماً، مجاهداً بالصوم والصلاة ومعرضا ذاته لجميع أنواع الحرمان، فذاع صيته في كل أنحاء مصر، وتوافد المسيحيون لزيارته، ورغبوا في العيش بقربه وتحت قيادته، فتألفت حوله جمعية من التلاميذ النساك، وكانت أول جمعية رهبانية (عام 305م). ولم يكن لها قوانين مفصلة بشأن الحياة النسكية، بل جملة من الطرق لبلوغ الكمال الروحي والأدبي السامي، اقتداءاً بسلوك مؤسسها ومثله وأخلاقياته. وقد دعيت هذه الجماعات النسكية «لافرا».
وظهر في زمن أنطونيوس نمط آخر لحياة الرهبنة، هو الرهبنة الجماعية، أسسه باخوميوس الكبير Pachomius (المولود سنة 290م)، وقد أسس باخوميوس عدة أديرة متقاربة على شواطئ النيل، وبنى أيضا ديراً للنساء على شاطئ النيل المقابل، كانت شقيقته أولى من سكنه. ثم وضع قوانين محددة للحياة الجماعية، كانت بمثابة أول نظام رهباني. قسم فيه جماعة الرهبان إلى أربع وعشرين درجة، حسب تقدمهم في الحياة الروحية، ووضع هذه الجماعة تحت إدارة رئيس عام واحد (أرشمندريت)، وكان هذا الرئيس هو باخوميوس نفسه.
وكان نظام الرهبنة صارماً بغرض «الفقر الاختياري» الذي يقضي بتوزيع جميع المقتنيات على الفقراء، وارتداء ثياب بسيطة ومتشابهة، والعمل من أجل الإنفاق على الأخوية، ومنع تنقل الرهبان من مكان إلى آخر، وفرض اختباراً مدته سنة كاملة على الرهبان الجدد ليظهروا استعدادهم للعيش وفق هذه القوانين.
وقد اتسع نطاق الرهبنة المنفردة والجماعية كثيراً، فانتشرت في كل أنحاء مصر، وانتقلت إلى سورية وآسيا الصغرى وسواحل البحر الأسود الجنوبية. ومع بداية القرن الخامس انتشرت الأديرة في الشرق كله، وبرز رهبان كثيرون أمثال أمون Amon ومكاريوس المصري Macarius وهيلاريون Hilarion وباسيليوس Basilios وبيلوسيوط Bilosiot وأفتيميوس Aphtimios وسمعان العمودي St.Simeon Stylites وسابا المتقدس Saba ويوحنا فم الذهب John Chrysostomus وغيرهم.
وقد التزمت الرهبنة في جميع الكنائس الشرقية إلى اليوم الحاضر القانون المنسوب إلى باسيليوس وأنطونيوس، وأديرتها كثيرة ولها نفوذها السياسي والديني الكبير.
الرهبنة المسيحية في الغرب
انتقلت الرهبنة إلى الغرب بفضل القديس أثناسيوس Athanasius، في أثناء نفيه الثاني إلى روما، ووصفه لحياة القديس انطونيوس، وبنائه ديراً في جبل أثوس في اليونان. واستطاع أساقفة الغرب (أمثال أوسبيوس Uspios أسقف فرتشل وأيرونيم Irenem ومارتين أسقف تور Martin of Tours) الذين أبعدوا إلى الشرق، بسبب الاضطرابات الأريوسية في منتصف القرن الرابع الميلادي تعرّف الحياة الرهبانية الشرقية ونقلها إلى بلادهم وبناء الكثير من الأديرة. ويقال إن مارتين، أسقف تور، مؤسس الأديرة الأولى غربي جبال الألب، هو أبو الرهبنات في الغرب. واستطاع معاصره كاسيانوس Cassiann إنشاء أديرة في مرسيليا ثم كتابة رسالة عن الأديرة والرهبنات التي كان لها أثر كبير في تنصير الكثيرين، أمثال القديس أوغسطين[ر] Augustine الذي أسس في شمالي إفريقيا رهبنة ووضع لها قانوناً خاصاً صار فيما بعد قانوناً لألوف من الأديرة الأوربية، ثم نظم بنيدكت نورسيسك Benedict of Nursia في القرن السادس الميلادي نظام الرهبنة في الغرب بأشكال مختلفة نوعا ما بالمقابلة مع الرهبنة الشرقية، فأسس في فلورنسا اثني عشر ديراً، كما أسس الدير الشهير باسم مونتيكسيني Montiqesin، ووضع شروطاً و قواعد للرهبنة في كتابه الذي ألفه عام 529م، وأوصى فيه بالنظام والاعتدال ومحبة العمل. وبموجب قوانينه، ينبغي على من يدخل الدير أن يخضع للتجربة سنة كاملة، ثم يقسم اليمين بالتزام قوانين الرهبانية، وعدم ترك سلك الرهبنة إطلاقاً، كما ينبغي عليه العمل في الحقول ودراسة الكتب المقدسة والتعاليم المسيحية، ونسخ الكتب وتهذيب الأطفال، ثم أضيف فيما بعد إلى أعمال البنيدكتيين الأعمال التبشيرية والاشتغال بالعلوم العلمانية. وقد عم الغرب نظام الرهبنة البنيدكتي، وسادت قوانينه وكان لها التأثير العظيم على سير الأعمال الكنسية.
وعندما عمّ الفساد الأدبي والتجزئة أجواء الحياة الكنسية الغربية، في العصور الوسطى، أهملت قوانين بنيدكت، فدخل أساقفة الأديرة في علاقات إقطاعية مع الملوك والأمراء، كان نتيجتها الغنى والثراء، فعاش الرهبان حياة ترف وتسيب، ولم يبق أي ذكر للاجتهاد العقلي والطبيعي. وظهرت، كردة فعل، بعض المحاولات التي اتجهت إلى تجديد الرهبنة بموجب قوانين بنيدكت، كالمحاولة الفرنسية التي قام بها فينيدكت أنيان Aniane، ومحاولة الأب برنون Bernon الذي أسس في عام 910م ديراً في كلوني في بورغونيا وأدخل إليه قانون بنيدكت.
ومع بدء القرن الحادي عشر برزت محاولات لإعادة الحياة النسكية الشرقية الانفرادية القديمة، منها محاولة روموالد Romuald الذي أسس في سنة 1018م في سهل مالدول جمعية رهبانية، عرفت في الغرب باسم رهبنة كامالدول Camaldol، وكانت هذه الرهبنة هي الثانية في الكنيسة الغربية بعد البنيدكتية. واتصف رهبان هذه الرهبنة بصرامتهم في القوانين الحياتية والنذور.
وتكاثرت الرهبنات حتى أمر المجمع اللاتراني سنة 1215م بمنع إنشاء رهبنات جديدة، ومع ذلك ظهر في الكنيسة الغربية في القرون الوسطى (من الحادي عشر إلى الخامس عشر) جملة من الرهبنات، كان أكثرها شهرة:
ـ رهبنة البرناردين التي أسسها روبرت سنة 1098م في ديره في ديجون. وفي الدير نفسه تأسست أيضاً رهبنة سيسترسيس Cistercian، وكان نظامها مقتبساً من نظام البنيدكت القديم. وأعضاؤها قليلي العدد، لكن انضمام برنار دو كليرفو Bernard de Clairvaux الشهير لهذه الرهبنة أكسبها ثقة الشعب واحترامه وثقة الباباوات والأمراء، وعرفت باسمه، فانتشرت في جميع أنحاء أوربا، وأحرزت غنى عظيماً، ونتج من ذلك ضعف النظام الديري.
ـ رهبنة الكرمليين التي أسسها أحد الصليبيين، بيرتولد Biertoled، الذي سكن جبل الكرمل في فلسطين مع أصدقائه، منتصف القرن الثاني عشر، وعاش على مثال النساك الشرقيين القدماء. وقد أعطى البطريرك اللاتيني لنساك الكرمل في بداية القرن الثالث عشر قانوناً، لكن الكرمليين انتقلوا إلى الغرب بعد سقوط الصليبيين، وتخلوا عن قانونهم الفلسطيني ليسلموا بقانون أحدى الرهبنات الفرنسيسكانية. واشتهرت رهبنة الكرمليين فيما بعد بنصفها النسائي في عهد الكرملية تيريزا Therese.
ـ رهبنة الفرنسيسكان Franciscan التي أسسها فرانسيسك Franciscos سنة 1208م، واجتمع حوله بضعة تلاميذ وألف منهم رهبنة الأخوة الصغار أو مينوريت Minoriet (الاسم الأول لرهبنة الفرنسيسكان). وكانت أهم نذور هذه الرهبنة الفقر التام (الرسولي)، والعفاف والتواضع والطاعة؛ وأهم أعمالهم الوعظ عن التوبة والتبشير وحب المسيح. وقد أخذت هذه الرهبنة على عاتقها واجب مساعدة الكنيسة في خلاص النفوس البشرية. وصار أكثر رهبانها أساتذة مدارس لاهوتية وجامعات، ومن أشهرهم بونافنتورا[ر] Bonaventure واسكندر الهاليسي Alexander of Hales وجون دنس سكوت[ر] Duns Scotus.
ـ رهبنة الدومينيكان Dominican وهي رهبنة كاثوليكية رومانية معاصرة أسسها الكاهن دومينيك، وأضاف إلى الأصول الأوغسطينية عدة قوانين من شأنها التضييق على الرهبان في نذر الفقر وكيفية العيش. وكان هدفها الأول القضاء على الهرطقات التي ظهرت آنذاك، وتثبيت الإيمان الكاثوليكي، عن طريق الوعظ وإتمام الاعتراف، ولهذا عرفت أيضاً باسم رهبنة الأخوة الواعظين، واشتهر منهم القديس ألبرت الكبير Albert the Great والقديس توما الأكويني [ر] Aquinas. وكانت تعاليم هذه الرهبنة قريبة من تعاليم الرهبنة الفرنسيسكانية، امتازت باتجاهها العلمي والثقافي، ولهذا أحرزت أهمية كبيرة في الكنيسة الرومانية، ومنح الباباوات أعضاءها صلاحيات واسعة في الأعمال الرعوية، كما شغلوا مراكز بارزة في محيط الرئاسة الروحية الكنسية، وبفضل ذلك أسهم الرهبان في جميع أنواع الأعمال الروحية، فبرز منهم مبشرون ووعاظ وأساتذة جامعات ومستشارون وحكام مراسلون للباباوات.
ـ رهبنات الفرسان الروحية التي ظهرت في الكنيسة الغربية في العصور الوسطى بسبب الحملات الصليبية، وهي رهبنات نصف رهبانية ونصف علمانية، وأهمها رهبنة اليوحنيين والطامبليري (الهيكليوين) اللتين ظهرتا في القدس، ثم انتقلت تعاليمهما بعد تحرير القدس (1187) إلى قبرص ثم بطلومائيس (عكا اليوم) (1291) ثم إلى رودوس وأوربا الغربية، وكان من أهم نذورهما الدفاع عن الحجاج.
ـ الرهبنة الأوغسطينية، وهي كاثوليكية رومانية أسسها أسقف هيبو القديس أوغسطين[ر] وتتألف من عدة جمعيات منفصلة، جمعها البابا اسكندر الرابع في عام 1256م، ووضع لها قوانين أوغسطين الموجودة في كتاباته، وصارت الرهبنة الأوغسطينية من رهبنات المتسولين، وكانوا يسمون في انكلترا الأخوة السود بسبب لون ثيابهم. ولهذه الرهبنة فروع كثيرة قوانينها أشد صرامة من الرهبنة الأصلية، ومركزها الأول في روما.
كان للإصلاح الرهباني في القرن السادس عشر دور بارز في تاريخ الرهبنات، وحدد المجمع التريدنتيني منافع الرهبنات ونظم أملاكها وإدارتها الداخلية وانتخاب رؤسائها، ووضع أصولاً لمجامعها السنوية، وجعل للأساقفة حق تفتيش الأديرة ومراقبتها. ونشأت رهبنات حديثة تهتم بالوعظ والتعليم ومساندة الفقراء وإعالة المرضى، أشهرها الكبوشية والتيطسية والبرنابية واليسوعية ورهبنة مار فيليب الأوراتورية التي تفرع عنها الفرنسوية والعازرية والمخلصية وغيرها. وتحتل هذه الرهبنات المكانة الأولى بين جمعيات العالم العلمية، لانهماكها بالتعليم والمناهج المدرسية.
وفي القرن الثامن عشر تناقص عدد الرهبنات بأمر من الملك جوزيف الثاني، وأبطل العديد منها، أمثال اليسوعية التي اتهمت بتعزيز التعصب الديني، ولحقت بها أخريات بسقوط الدولة النابولية. لكن البابا بيوس السابع Pie VII أعاد الرهبنة اليسوعية في عام 1814م وتعاظم نفوذها في جميع أنحاء أوربا وأمريكا. لكن ألمانيا ألغت هذه الرهبنة كما أبطلت الرهبنة المخلصية وأخوات المحبة، وكذلك فعلت روسيا مع أكثر الرهبنات الكاثوليكية. أما أراضي الدولة العثمانية فقد نمت فيها الرهبنات واتسعت أعمالها الدينية والتعليمية، نتيجة للحرية الدينية التي كانت تسود فيها.
ومع مطلع القرن التاسع عشر، تأسست رهبنات يفوق عددها ما سبق، وتميزت أديرتها الحديثة بأعمال وأهداف علمية تنطبق مع روح العصر. وقد أولى البابا بيوس التاسع جلّ جهده لإصلاح الرهبنات والعناية بها، ولاسيما الدومينيكانية.
أما البروتستنت فقد رفضوا الرهبنة الكاثوليكية الرومانية ورهبنة الكنيسة الشرقية، وأقيمت في بعض الكنائس البروتستنتية كإلانكليزية والأسقفية الأمريكية، جمعيات مؤلفة من إناث وذكور تسمى «أخويات» ونمت مؤخراً كثيراً بمساعدة الكنيسة العالية. وقد أسست مدارس الكنيسة الإنجيلية واللوثرية العالية في القرن التاسع عشر بيوتاً كالأديرة للشماسة، بغية تعليم الناس والعناية بجميع أحوالهم. وأسست جمعية الدنكرز الأمريكية رهبنة خاصة، ولم تفرض على أعضائها نذر البتولية.
وأما الرهبنة اللبنانية المارونية المعروفة بالحلبية، فهي أنطونية بقوانينها، وينسب تأسيسها في لبنان إلى ثلاثة موارنة قدموا في عام 1692م من حلب، وهم جبرائيل ابن حوا، وعبد الله قرائلي، ويوسف ابن التنين، وكانوا شباناً من ذوي الثروة والحسب. وقد حازت القوانين والفرائض التي جمعوها من رسومات القديس أنطونيوس الكبير وتلامذته، وكذلك النذور الأربعة (الطاعة والعفة والفقر والتواضع)، رضى بطاركة الملة المارونية، فثبتها البابا كليمنت الثاني عشر عام 1732م. وفيما بعد 1768م، انقسمت هذه الرهبنة إلى حلبية لبنانية وبلدية لبنانية بأمر من البابا كليمنت الرابع عشر سنة 1770م، فكان لكل رهبنة أديرتها الخاصة، وتخضع قوانينها وفرائضها للبطريرك الأنطاكي الماروني والكنيسة الأنطاكية.
سوسن البيطار