رومي (فن)
Romanesque - Romanesque
الرومي (الفن ـ)
الفن الرومي romanesque فن ديني مسيحي، مختلف عن الفن الروماني الوثني، ويطلق عليه باللغة الفرنسية اسم L’art roman وبالانكليزية romanesque art، وقد ظهر في غربي أوربا مختلفاً في شكله وأوصافه عن الفن البيزنطي الذي ظهر في القسطنطينية حيث الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. ولكنه مع ذلك استمد معينه من الفنون المسيحية التي ظهرت في بلاد الأناضول وسورية والتي بقيت متميزة من الفنون البيزنطية[ر] مرتبطة بتقاليد معمارية محلية، مثل كنيسة جوليانوس في منطقة أم الجمال (سورية) التي تعود إلى عام 344م وتعد أقدم كنيسة، وكنيسة مارجرجس في إزرع 515م (سورية)، وكنيسة يوحنا المعمدان في جرش 474م (الأردن).
انفصل الامبراطور الروماني قسطنطين عن روما وأسس الدولة البيزنطية في القسطنطينية مستقلاً عن روما الوثنية التي تبنت المسيحية الكاثوليكية في وقت متأخر. وهكذا ظهرت كنيستان مختلفتان، ونشأت عن هذا الاختلاف أنماط فنية متميزة من الفن المسيحي البيزنطي، كالفن الكارولنجّي الذي ظهر في بلاد الغال وإسبانيا وينتسب للعائلة المالكة الكارولنجيّة التي منها شارل مارتل، وشارلمان . ثم ظهر الفن الرومي أو الرومانسك في أواسط أوربا فكان مقدمة للفن القوطي[ر].
ولأن هذا الفن يتبع روما الكاثوليكية، حمل اسم الرومي. ولقد شاع في أوربا منذ نهاية الامبراطورية الرومانية عام 475م حتى أواخر القرن الثاني عشر.
فن العمارة الرومية
تتميز العمارة الرومية بالرصانة والوقار، ولكنها لم تكن موحدة في جميع الدول الأوربية؛ إنكلترا وفرنسا وألمانيا، وذلك لاختلاف الظروف المحلية، ولكنها مع ذلك تتسم بصفة مشتركة تتعلق بشكل الأقواس والقبوات alcôves التي كانت تستعمل كحامل في الكنائس والأديرة التي ازداد عددها بازدياد التعلق بالدين المسيحي. وهذه الأقواس والقبوات ذات الأضلاع والحشوات، تحمل شكلاً نصف دائري مدبباً أحياناً، وكانت حلاً لمشكلة زيادة المحمول، أي السقوف التي كانت خشبية خفيفة وأصبحت حجرية ثقيلة، فكان استعمال القبوات سبباً لاستيعاب الشكل وتوزيع الجهد بوساطة الأعمدة والعضادات الحاملة لهذه القبوات والأقواس. ويجب القول إن أكثر هذه الأعمدة كانت معادة الاستعمال، فهي من أنقاض العمارة الرومانية، وبذلك تدخلت في تكوين هوية العمارة الرومية التي استطاعت أن تكوّن نفسها في مراحل، مبتعدة عن الطرز الرومانية؛ وأصبحت تيجان الأعمدة الرومية خارجة تماماً عن الأنظمة الرومانية؛ الدوري، والإيوني، والكورنثي، ولكن مع ذكريات قليلة لهذه الأنظمة إضافة إلى الطراز البيزنطي الذي تسلل قليلاً لتكوين الطراز الرومي المتعدد الأشكال. والذي لم يتبلور طفرة واحدة كما تم للأنظمة المعمارية الإغريقية والرومانية والبيزنطية، ثم القوطية فيما بعد، فلقد تكونت العمارة الرومية نتيجة ابتكارات متتابعة من المعماريين، وتجارب متواصلة حتى أوجدوا عمارة رشيقة جميلة بعيدة عن شكل الحصون.
وتجلت العمارة الرومية في بناء الكنائس والأديرة حصراً، فلقد كان المجتمع شديد التدين، وكانت سيطرة الرهبان الروحية قوية في فرض الشعائر والطقوس الدينية. وكان الإقبال المتزايد على الصلاة سبباً في اتساع حجوم الكنائس التي أصبحت الملاذ والرمز المعبر عن العقيدة المسيحية المهيمنة على المجتمع، وعدت الكنيسة «بيت الرب ضابط الكون».
كذلك ازدادت منشآت الأديرة وأصبحت تجسيداً للعقيدة الدينية، وكان «دير كلوني» في فرنسا من أكبر وأجمل الأديرة في العصور الوسطى.
كان الدير عالماً مصغراً يضم مجتمعاً من رجال الدين المتعصبين ومن رجال الفكر الزاهدين بالدنيا وملذاتها، يساعدهم الرهبان البسطاء الذين ينفذون بتفانٍ وظائفهم العامة والدينية. ولأن الأساقفة من قادة المجتمع، ولديهم كل الحرية لتنشيط الممارسات الدينية وقيادتها كما يشاؤون، أصبحت الأديرة مجالاً لتطوير عمارتها وزخارفها ذاتياً، منتقلة من نظام البازيليك الروماني الذي يقوم على تشييد بناء مستطيل ذي أجنحة إلى نظام جديد يتماشى مع العقيدة الأكثر صوفية، والتي تلتمس طقوسها من الموسيقى والإنشاد، لتحقيق مبدأ الزهد والتنسك في الدير المنفصل تماماً عن الحياة العامة خارجاً، مما أثار خيالاً معمارياً مستقلاً عن ذكريات العمارة السابقة، ففي حين كانت متجهة نحو الناس خارج الأديرة، أصبحت في نظام الأديرة الرومية المغلقة انعكاساً للتوهج الوجداني وتأمل العالم الآخر.
وهكذا اتجه المعمار الرومي في عمارة الكنائس إلى توسيع المجاز المتوسط nef والمجاز المعترض transept، وذلك لضمان ترجيع صدى صوت المنشدين. وكذلك أفسح في المجال للتصوير الملون والزخارف والمنحوتات التي تكتنف بطون الأقواس والتيجان، كي تكون منسجمة مع الموسيقى الدينية.
ويتضمن الدير بناء الكنيسة أولاً، ورواق الاعتكاف، وقاعة الطعام المشتركة، وثمة منشآت ملحقة هي قاعة الاستقبال وفيها يمارس الرهبان اجتماعاتهم واستقبالهم لكبار الضيوف والواهبين، وعلى مقربة من منطقة المدافن، يقوم بناء المشفى إلى جانب دير صغير مخصص لتدريب الرهبان الجدد. وكانت ثمة حظائر للماشية لاستخراج الألبان، ومساكن للأهالي، ومأوى للحجاج الفقراء. ويحيط بالدير وهذه المنشآت، سور ضخم لحمايته. وتمتد خارجه الحدائق والبساتين التي تمدّ الدير بخيراتها. وكان دير كلوني يملك إقطاعيات واسعة لدعم نشاطه.
وتمتاز العمارة الرومية بالتنوع. ويمكن حصر أشكال الاتجاهات المعمارية في ثلاث مدارس؛ مدرسة أوفيرن Auverne ومدرسة بيريغور Perigord ومدرسة بواتو Poitu. وتقوم عمارة الكنائس بصورة عامة على المخطط المصلب اللاتيني، وينتهي الضلع الطويل بالمصلى ذي الشكل المحرابي والمحاط برواق منخفض عن الرواق المتوسط، وعند تقاطع الضلعين يرتفع برج عال. كما أن الواجهة تمتد عرضاً لكي تشمل برجين جانبيين. وتغطى الكنيسة بقناطر أو قبوات معقودة.
ومن أشهر الكنائس الرومية في البورغون كنيسة سان مادلين وكنيسة فونتناي، وفي بواتو كنيسة نوتردام الكبيرة، وفي إيطاليا كنيسة سان أمبرواز، وفي حوض اللوان كنيسة سان بنوار، وكنيسة سانت إيتيين. وفي لانغدوك كنيسة سان برنين ذات البرج المخروطي العالي، وفي إكس لاشابيل كنيسة شارلمان، ويعود إنشاء هذه الكنائس إلى القرن الثاني عشر غالباَ.
فن النحت الرومي
حقق النحت الرومي استقلالية مماثلة عن فنون النحت التي كانت شائعة منذ العصور الرومانية، وفيها كان النحات يرتبط بنظام جمالي دقيق في تكوين الأجسام البشرية، محاولاً تمثيل الآلهة جليلةً من خلال الدقة والكمال في تمثيل الواقع البشري الذي يرمز إلى الآلهة. ولكن عقيدة المذهب الرومي تنفي القدرة على تمثيل الإله واقعياً، إذ يستحيل إدراك كنه الله عقلانياً أو عن طريق الحواس، بل لابدّ من الاعتماد على الحدس والبصيرة لإدراك جوهر الله. وهكذا أصبح لامناص من تمثيله بشكل رمزي، وبصورة عامة أصبحت النسب خيالية في النحت وأصبح التحريف متعمداً. وبذلك تكوّن فن النحت بعيداً عن تأثير النزعة الاتباعية التي كانت تتنامى في روما ذاتها.
ومما لاشك فيه أن أعمال النحت لم تكن تعتمد على الرهبان كما في العمارة والتصوير بل ثمة نحاتون جوالون يقومون بهذا العمل متنقلين من مكان إلى آخر.
ولعل أروع الأعمال الفنية النحتية التي أنجزها هؤلاء النحاتون في دير كلوني هي منحوتة تمثل العذراء، محفوظة اليوم في كنيسة مريم المجدلية في فرنسا.
ولابد من تقدير الأعمال النحتية التي تدخل في تكوين تيجان الأعمدة، التي تتضمن أحياناً مشاهد إنجيلية وتكوينات رمزية يطغى عليها الخيال، وهذه التيجان حجرية جيرية سهلة النحت والنقش، طيّعة لتمثيل الموضوعات المذكورة. ولم يعد لتيجان الأعمدة والزخارف المعدنية والمذهبة وجود، فلقد تعرضت للسلب والضياع.
وبصورة عامة كان النحت منسجماً مع العمارة. وأهم أمثلة النحت الرومي موجودة في الأبنية، بعضها يقام فوق المدخل الرئيس كما في كنيسة أفيرون حيث يقام نحت يمثل الحكم الأخير. وفي واجهة كاتدرائية غوليم تمثال للسيد المسيح وحوله أسد مجنح بأسلوب شرقي، وفي لانغدوك ساحة مواساك أعمدة مزدوجة مشابهة لأعمدة الأندلس، ذات تيجان مزخرفة برقْْشٍ عربي وكتابات شبه عربية.
فن التصوير الرومي
إلى جانب النشاط اليومي الذي كان يمارسه المعماريون المؤمنون عند تشييد الأديرة والكنائس، كان النحاتون يشاركون في نقش تيجان الأعمدة والأفاريز وتجسيمها، وكان المصورون يغطون الجدران بتصاويرهم المعبرة عن أحداث الإنجيل.
وخارج حدود العمارة كان تزيين المخطوطات وخاصة الأناجيل من أعمال المصورين التي حملت مبادئ النحت، وهي التقشف والرمزية والتحوير، وأطلق على هذه المرقنات اسم Enliminure وهي رسوم ملونة إيضاحية ترسم على الرق أو على الجدران. وكان المصورون من الرهبان أنفسهم الذين اختصوا بالرسم وقاموا بنسخ المخطوطات وبترقينها وتغليفها في مكان خاص بهم يسمى قاعة النسخ scriptorium.
وفي دير كلوني أنشئ أهم مركز لترقين المخطوطات وتزيينها بالألوان وبأوراق الذهب عند رسم الهالات والتيجان. ولم يقتصر التصوير على الجدران أو في المخطوطات بل تجلى أيضاً في تصميمات الزجاج المعشق الملّون. ويجب القول إن هذه الفنون كانت مصدر إلهام وابتكار التصوير الجداري والترقين في الفن القوطي وفن عصر النهضة فيما بعد.
لقد كان فن التصوير يعتمد على الإطارات والفراغات المعمارية التي تساعد المصور على تغطيتها بالزخارف والرسوم، والتي تساعد المتعبدين والرهبان على قراءة الأحداث الدينية من خلال الصورة والخط واللون.
ومن أهم الآثار التصويرية الرومية، صورة محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس وتتضمن رسوماً للبراق المجنح مع زخرفات عربية.
الفنون التطبيقية
ثمة فنون أخرى كانت منتشرة في المجتمع الرومي، وهي الفنون التطبيقية التي بدت في ابتكارات النسيج وصياغة المعدن والذهب، وفي صناعة الجلود والشمعدانات والنواقيس.
استطاعت ورشات الصناعة في الأديرة تطوير الفن التطبيقي تقنياً كما في صناعة الزجاج إذ اعتمدت تركيبات كيمياوية جديدة لتكوينه.
هنا أيضاً يصعب تصور انشغال الرهبان في صناعة هذه الفنون التطبيقية وإبداعها، إذ لابد من الاعتماد على عمال مهرة متخصصين ومتفرغين لهذا العمل المستمر، لسد حاجات الكنائس والأديرة في صناعة الكؤوس والأباريق لإجراء طقوس العبادة، ولصنع أغلفة من العاج أو المعدن المرصع للكتب المقدسة التي تصفّ على المذابح أيام الأعياد والاحتفالات، إلى جانب صنع الصناديق التي تحفظ رفات القديسين. هذا عدا عن المباخر والشمعدانات.
لقد كان الفن الرومي جسراً نقل المؤثرات الفنية الشرقية إلى فن ديني آخر أصبح أكثر رسوخاً ووحدة هو الفن القوطي.
عفيف البهنسي
Romanesque - Romanesque
الرومي (الفن ـ)
الفن الرومي romanesque فن ديني مسيحي، مختلف عن الفن الروماني الوثني، ويطلق عليه باللغة الفرنسية اسم L’art roman وبالانكليزية romanesque art، وقد ظهر في غربي أوربا مختلفاً في شكله وأوصافه عن الفن البيزنطي الذي ظهر في القسطنطينية حيث الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. ولكنه مع ذلك استمد معينه من الفنون المسيحية التي ظهرت في بلاد الأناضول وسورية والتي بقيت متميزة من الفنون البيزنطية[ر] مرتبطة بتقاليد معمارية محلية، مثل كنيسة جوليانوس في منطقة أم الجمال (سورية) التي تعود إلى عام 344م وتعد أقدم كنيسة، وكنيسة مارجرجس في إزرع 515م (سورية)، وكنيسة يوحنا المعمدان في جرش 474م (الأردن).
انفصل الامبراطور الروماني قسطنطين عن روما وأسس الدولة البيزنطية في القسطنطينية مستقلاً عن روما الوثنية التي تبنت المسيحية الكاثوليكية في وقت متأخر. وهكذا ظهرت كنيستان مختلفتان، ونشأت عن هذا الاختلاف أنماط فنية متميزة من الفن المسيحي البيزنطي، كالفن الكارولنجّي الذي ظهر في بلاد الغال وإسبانيا وينتسب للعائلة المالكة الكارولنجيّة التي منها شارل مارتل، وشارلمان . ثم ظهر الفن الرومي أو الرومانسك في أواسط أوربا فكان مقدمة للفن القوطي[ر].
ولأن هذا الفن يتبع روما الكاثوليكية، حمل اسم الرومي. ولقد شاع في أوربا منذ نهاية الامبراطورية الرومانية عام 475م حتى أواخر القرن الثاني عشر.
فن العمارة الرومية
تتميز العمارة الرومية بالرصانة والوقار، ولكنها لم تكن موحدة في جميع الدول الأوربية؛ إنكلترا وفرنسا وألمانيا، وذلك لاختلاف الظروف المحلية، ولكنها مع ذلك تتسم بصفة مشتركة تتعلق بشكل الأقواس والقبوات alcôves التي كانت تستعمل كحامل في الكنائس والأديرة التي ازداد عددها بازدياد التعلق بالدين المسيحي. وهذه الأقواس والقبوات ذات الأضلاع والحشوات، تحمل شكلاً نصف دائري مدبباً أحياناً، وكانت حلاً لمشكلة زيادة المحمول، أي السقوف التي كانت خشبية خفيفة وأصبحت حجرية ثقيلة، فكان استعمال القبوات سبباً لاستيعاب الشكل وتوزيع الجهد بوساطة الأعمدة والعضادات الحاملة لهذه القبوات والأقواس. ويجب القول إن أكثر هذه الأعمدة كانت معادة الاستعمال، فهي من أنقاض العمارة الرومانية، وبذلك تدخلت في تكوين هوية العمارة الرومية التي استطاعت أن تكوّن نفسها في مراحل، مبتعدة عن الطرز الرومانية؛ وأصبحت تيجان الأعمدة الرومية خارجة تماماً عن الأنظمة الرومانية؛ الدوري، والإيوني، والكورنثي، ولكن مع ذكريات قليلة لهذه الأنظمة إضافة إلى الطراز البيزنطي الذي تسلل قليلاً لتكوين الطراز الرومي المتعدد الأشكال. والذي لم يتبلور طفرة واحدة كما تم للأنظمة المعمارية الإغريقية والرومانية والبيزنطية، ثم القوطية فيما بعد، فلقد تكونت العمارة الرومية نتيجة ابتكارات متتابعة من المعماريين، وتجارب متواصلة حتى أوجدوا عمارة رشيقة جميلة بعيدة عن شكل الحصون.
كاتدرائية سان مارك في البندقية (شرع ببنائها عام 1063) | مخطط كاتدرائية سان مارك |
كاتدرائية سان مارك من الداخل |
كان الدير عالماً مصغراً يضم مجتمعاً من رجال الدين المتعصبين ومن رجال الفكر الزاهدين بالدنيا وملذاتها، يساعدهم الرهبان البسطاء الذين ينفذون بتفانٍ وظائفهم العامة والدينية. ولأن الأساقفة من قادة المجتمع، ولديهم كل الحرية لتنشيط الممارسات الدينية وقيادتها كما يشاؤون، أصبحت الأديرة مجالاً لتطوير عمارتها وزخارفها ذاتياً، منتقلة من نظام البازيليك الروماني الذي يقوم على تشييد بناء مستطيل ذي أجنحة إلى نظام جديد يتماشى مع العقيدة الأكثر صوفية، والتي تلتمس طقوسها من الموسيقى والإنشاد، لتحقيق مبدأ الزهد والتنسك في الدير المنفصل تماماً عن الحياة العامة خارجاً، مما أثار خيالاً معمارياً مستقلاً عن ذكريات العمارة السابقة، ففي حين كانت متجهة نحو الناس خارج الأديرة، أصبحت في نظام الأديرة الرومية المغلقة انعكاساً للتوهج الوجداني وتأمل العالم الآخر.
وهكذا اتجه المعمار الرومي في عمارة الكنائس إلى توسيع المجاز المتوسط nef والمجاز المعترض transept، وذلك لضمان ترجيع صدى صوت المنشدين. وكذلك أفسح في المجال للتصوير الملون والزخارف والمنحوتات التي تكتنف بطون الأقواس والتيجان، كي تكون منسجمة مع الموسيقى الدينية.
ويتضمن الدير بناء الكنيسة أولاً، ورواق الاعتكاف، وقاعة الطعام المشتركة، وثمة منشآت ملحقة هي قاعة الاستقبال وفيها يمارس الرهبان اجتماعاتهم واستقبالهم لكبار الضيوف والواهبين، وعلى مقربة من منطقة المدافن، يقوم بناء المشفى إلى جانب دير صغير مخصص لتدريب الرهبان الجدد. وكانت ثمة حظائر للماشية لاستخراج الألبان، ومساكن للأهالي، ومأوى للحجاج الفقراء. ويحيط بالدير وهذه المنشآت، سور ضخم لحمايته. وتمتد خارجه الحدائق والبساتين التي تمدّ الدير بخيراتها. وكان دير كلوني يملك إقطاعيات واسعة لدعم نشاطه.
كاتادرائية سان سيرنين في تولوز (1080ـ1120م) |
ومن أشهر الكنائس الرومية في البورغون كنيسة سان مادلين وكنيسة فونتناي، وفي بواتو كنيسة نوتردام الكبيرة، وفي إيطاليا كنيسة سان أمبرواز، وفي حوض اللوان كنيسة سان بنوار، وكنيسة سانت إيتيين. وفي لانغدوك كنيسة سان برنين ذات البرج المخروطي العالي، وفي إكس لاشابيل كنيسة شارلمان، ويعود إنشاء هذه الكنائس إلى القرن الثاني عشر غالباَ.
فن النحت الرومي
ومما لاشك فيه أن أعمال النحت لم تكن تعتمد على الرهبان كما في العمارة والتصوير بل ثمة نحاتون جوالون يقومون بهذا العمل متنقلين من مكان إلى آخر.
ولعل أروع الأعمال الفنية النحتية التي أنجزها هؤلاء النحاتون في دير كلوني هي منحوتة تمثل العذراء، محفوظة اليوم في كنيسة مريم المجدلية في فرنسا.
ولابد من تقدير الأعمال النحتية التي تدخل في تكوين تيجان الأعمدة، التي تتضمن أحياناً مشاهد إنجيلية وتكوينات رمزية يطغى عليها الخيال، وهذه التيجان حجرية جيرية سهلة النحت والنقش، طيّعة لتمثيل الموضوعات المذكورة. ولم يعد لتيجان الأعمدة والزخارف المعدنية والمذهبة وجود، فلقد تعرضت للسلب والضياع.
وبصورة عامة كان النحت منسجماً مع العمارة. وأهم أمثلة النحت الرومي موجودة في الأبنية، بعضها يقام فوق المدخل الرئيس كما في كنيسة أفيرون حيث يقام نحت يمثل الحكم الأخير. وفي واجهة كاتدرائية غوليم تمثال للسيد المسيح وحوله أسد مجنح بأسلوب شرقي، وفي لانغدوك ساحة مواساك أعمدة مزدوجة مشابهة لأعمدة الأندلس، ذات تيجان مزخرفة برقْْشٍ عربي وكتابات شبه عربية.
فن التصوير الرومي
إلى جانب النشاط اليومي الذي كان يمارسه المعماريون المؤمنون عند تشييد الأديرة والكنائس، كان النحاتون يشاركون في نقش تيجان الأعمدة والأفاريز وتجسيمها، وكان المصورون يغطون الجدران بتصاويرهم المعبرة عن أحداث الإنجيل.
وخارج حدود العمارة كان تزيين المخطوطات وخاصة الأناجيل من أعمال المصورين التي حملت مبادئ النحت، وهي التقشف والرمزية والتحوير، وأطلق على هذه المرقنات اسم Enliminure وهي رسوم ملونة إيضاحية ترسم على الرق أو على الجدران. وكان المصورون من الرهبان أنفسهم الذين اختصوا بالرسم وقاموا بنسخ المخطوطات وبترقينها وتغليفها في مكان خاص بهم يسمى قاعة النسخ scriptorium.
وفي دير كلوني أنشئ أهم مركز لترقين المخطوطات وتزيينها بالألوان وبأوراق الذهب عند رسم الهالات والتيجان. ولم يقتصر التصوير على الجدران أو في المخطوطات بل تجلى أيضاً في تصميمات الزجاج المعشق الملّون. ويجب القول إن هذه الفنون كانت مصدر إلهام وابتكار التصوير الجداري والترقين في الفن القوطي وفن عصر النهضة فيما بعد.
لقد كان فن التصوير يعتمد على الإطارات والفراغات المعمارية التي تساعد المصور على تغطيتها بالزخارف والرسوم، والتي تساعد المتعبدين والرهبان على قراءة الأحداث الدينية من خلال الصورة والخط واللون.
ومن أهم الآثار التصويرية الرومية، صورة محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس وتتضمن رسوماً للبراق المجنح مع زخرفات عربية.
الفنون التطبيقية
ثمة فنون أخرى كانت منتشرة في المجتمع الرومي، وهي الفنون التطبيقية التي بدت في ابتكارات النسيج وصياغة المعدن والذهب، وفي صناعة الجلود والشمعدانات والنواقيس.
استطاعت ورشات الصناعة في الأديرة تطوير الفن التطبيقي تقنياً كما في صناعة الزجاج إذ اعتمدت تركيبات كيمياوية جديدة لتكوينه.
هنا أيضاً يصعب تصور انشغال الرهبان في صناعة هذه الفنون التطبيقية وإبداعها، إذ لابد من الاعتماد على عمال مهرة متخصصين ومتفرغين لهذا العمل المستمر، لسد حاجات الكنائس والأديرة في صناعة الكؤوس والأباريق لإجراء طقوس العبادة، ولصنع أغلفة من العاج أو المعدن المرصع للكتب المقدسة التي تصفّ على المذابح أيام الأعياد والاحتفالات، إلى جانب صنع الصناديق التي تحفظ رفات القديسين. هذا عدا عن المباخر والشمعدانات.
لقد كان الفن الرومي جسراً نقل المؤثرات الفنية الشرقية إلى فن ديني آخر أصبح أكثر رسوخاً ووحدة هو الفن القوطي.
عفيف البهنسي