رواقيه
Stoicism - Stoïcisme
الرواقية
الرواقية stoicism مدرسة فلسفية أخلاقية معاصرة للأبيقورية[ر] ،انتشرت في إطار الثقافة اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد، بتأثير الأفكار التي تدعو إلى المواطنة العالمية والنزعة الفردية والمعرفة الرياضية. وقد وضع أصولها زينون[ر] Zeno. وسميت بالرواقية نسبة إلى الرواق المصور بأثينا ـ مكان اجتماع الشعراء ـ الذي اتخذه زينون مقراً له يجتمع فيه مع أصحابه فدعوا بالرواقيين، وأطلق عليهم الإسلاميون اسم أصحاب المظلة، وحكماء المظال، وأصحاب الأصطوان. وكان أبرز دعاتها المؤسسون آسيويين ، وإن كانوا قد تلقوا تعليماً يونانياً، وتأثروا بالفكر اليوناني، فأخذوا عن هيراقليطس فكرة اللوغوس، وعن الميغاريين القياس الاستثنائي، وعن الكلبيين الخصائص القومية والحياة وفقاً للطبيعة والعقل، وعن سقراط أن الفضيلة علم والجهل رذيلة.
تنقسم الرواقية إلى ثلاثة أدوار، دور الرواقية اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد: وقد مثلها زينون وإقلينتوس وأقريسبيوس؛ ودور الرواقية المتوسطة في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد : وكان أشهر فلاسفتها ديوجين السليوسي، وبانيتيس الروديسي: وبوسونيوس الملقب بأقريسبيوس الرواقية المتوسطة؛ ودور الرواقية الرومانية المتأخرة في القرنين الأول والثاني الميلاديين: وقد برز من فلاسفتها سينيكا وإيبكتيتوس والامبرطور ماركوس أوريليوس. وهم الرواقيون الوحيدون الذين وصلت كتبهم إلينا كاملة، وهي متأخرة أربعة قرون على تأسيس المدرسة.
الفلسفة الرواقية
الفلسفة في الرواقية هي محبة الحكمة وممارستها، والحكمة هي العلم بالأشياء الإلهية والإنسانية، وتنقسم إلى المنطق والطبيعيات والأخلاق ، وهي تشبه الحقل الخصيب، أشجاره العلم الطبيعي وثماره الأخلاق، وسياجه المنطق. والغاية الرئيسية من الفلسفة أن تكون فلسفة عملية أخلاقية، وبذلك تميزت الرواقية بثلاث سمات: الأولى أن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة العملية، والثانية أن الفلسفة العملية هي التي تقوم على العمل المطابق للعقل، والثالثة أن العمل المطابق للعقل هو الذي يجري بمقتضى قوانين الطبيعة، فالحياة يجب أن تعاش وفق الطبيعة، وهذا هو أنموذج كل إنسان عاقل.
الأخلاق
ينظر الرواقيون إلى الفلسفة على أنها الأخلاق، لأن موضوع الفلسفة هو الفضيلة وما فروع الفلسفة المختلفة إلا أنواع متعددة للفضيلة، فيصنفون الأخلاق في المرتبة العليا من هرم العلوم الفلسفية، لأن الفعل الأخلاقي لا يكون صحيحاً إلا إذا كان موافقاً لما تقتضيه قوانين الطبيعة. وكل فعل أخلاقي إنما يكون عن طريق الممارسة، والممارسة لا تكون إلا على أساس النظرية لأن الأصل في كل نظر عندهم هو العمل؛ إذن فالنظرية هي المبدأ الأول الذي يقوم عليه العمل الأخلاقي، أو بعبارة أخرى الغاية من كل تجربة أو فعل أخلاقي هو تحقيق قانون الطبيعة. والمركز الأول للطبيعيات وليس للأخلاق.
ويختلف الرواقيون في ترتيب العلوم وأوليتها؛ فزينون وإقلينتيوس مثلاً، اهتما بالطبيعة أكثر من الأخلاق، أما في الطور الثاني ، فقد طغت النزعة العملية، ثم أصبحت الفلسفة الرواقية في الدور الروماني عملية صرفة، لا تكاد تتجاوز في شيء أنواع الأعمال والقواعد المرتبطة بأنواع الأعمال التي يجب أن يؤديها الإنسان حتى يصل إلى الحياة السعيدة، وبهذا احتلت الأخلاق المرتبة الأولى وكان للطبيعيات مرتبة ثانوية.
ولا مجال عند الرواقية للاختيار أو الحرية؛ فالأفعال الإنسانية متصفة بصفة السوية أو التساوي أو الحياد، و كل فعل أخلاقي هو في ذاته لا قيمة له ولا اعتبار، وإنما القيمة الأخلاقية للفعل هي دائما في الموقف النفسي الذي يقفه الإنسان إزاء هذا الفعل، وهذا أشبه ما يكون بفكرة الكسب عند الأشاعرة، من حيث أن الأفعال مقدرة أزلياً تقديراً مطلقاً، وليس على العبد إلا أن يكتسب صفة الفعل، وهذا كل نصيبه في الفعل الأخلاقي.
ويفرق الرواقيون بين نوعين من الأخلاق: الأخلاق النظرية، وهي التي تحقق الفضيلة على صورتها العليا، أي أن يعلم المرء قوانين الطبيعة.... والأخلاق الشعبية أو العملية، وهي التي يحاول بها الإنسان التقرب من المثل الأعلى للفضيلة الرواقية. وهنا يفرق الرواقيون بين نوعين من الفضيلة: فضيلة هي الحكمة، وفضيلة هي الفطنة. فالحكمة هي الفضيلة مفهومة على النحو الأول، أي في الأخلاق النظرية، والفطنة هي محاولة الإنسان أن يحقق الفضيلة، ولهذا فإنهم يقولون أيضا بصفة وسط بين الخير والشر هي التي يسمونها صفة «الملائم»؛ وهو هذا الذي يجمع بين الخير والشر من حيث أنه ليس خيراً مطلقاً ولا شراً مطلقاً، وهنا يبرز التناقض الذي وقع فيه الرواقيون، فهم يقولون بوحدة الفضيلة، وإن الفضيلة لا يمكن أن تكون إلا واحدة، فإما أن يعرف الإنسان الأشياء، وإما أن يجهلها، ولا وسط بين العلم والجهل مطلق.
ويجر هذا أيضا إلى تفرقة ثالثة قالوا بها، وهي التفرقة بين الغاية وبين الغرض، وهي تفرقة لها أثر كبير، وكانت موضع العناية لدى المدارس الرواقية على اختلافها.
المنطق
ينقسم المنطق عند الرواقيين إلى قسمين رئيسين: الأول هو الديالكتيك، والثاني هو الخطابة. وذلك حسب تقسيمهم الكلام إلى نوعين: نوع متسلسل ونوع منطق، النوع المتسلسل يتعلق به الديالكتيك، والنوع الآخر يتعلق به الخطابة. وقد عنوا عناية كبيرة بالناحية الشكلية الصرفة،أي ناحية الألفاظ والحدود أكثر من عنايتهم بالبحث في العمليات المنطقية العقلية الحقيقية التي يقوم بها الذهن في أثناء التفكير الصحيح.
ويتفرع المنطق الديالكتيكي إلى فرعين تبعاً لانشطار المنطق إلى جانبين: جانب التسمية، وجانب المسمى، أو ناحية المحدد أو بعبارة أوضح: ناحية الأفكار أو التصورات، وناحية الألفاظ المعبرة عن هذه التصورات. وقد أولوا اهتماماً خاصاً بالناحية اللفظية.
وينقسم كلامهم في المنطق إلى عدة أبواب رئيسة: أحدها خاص بالمقولات، والثاني بالأحكام أو القضايا، والثالث بالأقيسة. فبالنسبة للمقولات، غيروا تغييراً كبيراً في نظام المقولات عند أرسطو ، وأرجعوها إلى أربع: أولها مقولة الموضوع، ويليها مقولة الصفة، ثم مقولة الحال الخاصة، وأخيرا مقولة الحال النسبية.
وأما ما يخص القضايا والأحكام، فقد أبدعوا منطقاً للقضايا لا يقوم على الأحكام القطعية بل على الأحكام النسبية. وأنشأ الرواقيون ضروباً من ارتباط الأحكام، أشار إليها المنطق الحديث على أنها تضمين مادي، كما عنوا بالناحية اللغوية، ثم وجهوا عنايتهم إلى القياس.... فجددوا كثيرا في أنواع الأقيسة، وركزوا كل اهتمامهم على الأقيسة الشرطية، وكادوا ينكرون الأقيسة الحملية، إذ قالوا إن الأقيسة الشرطية هي وحدها الصحيحة من الناحية الصورية، أما الأقيسة الحملية فيمكن أن تكون صادقة من الناحية المادية، أما من الناحية الصورية فليست يقينية.
وقد فصلوا القول في القياس الشرطي فأخذوا بالأنواع الخمسة التي كشف عنها ثاوفرسطس للأقيسة الشرطية من حيث تركيب الشرطيات بعضها مع بعض لتكوين الأقيسة المتصلة أو المنفصلة، وعنوا تفصيلاً بالأقيسة الشرطية المنفصلة. أي الأقيسة الاستثنائية المنفصلة، ولكنهم مع ذلك، وعلى الرغم من توسعهم في باب الأقيسة الشرطية، لم يأتوا بأشياء جديدة حقا من حيث بيان العمليات الفكرية المنطقية في الأقيسة الشرطية والقضايا الشرطية. لقد غلبت الناحية الشكلية على منطقهم، فغفلوا عن طبيعة المنطق الحقيقية،وهي تبيان العمليات الفكرية التي يتم بها التفكير السليم، فكان المنطق عندهم أقرب إلى الآلة منه إلى العلم، أو أقرب إلى الفن منه إلى النظر.
المعرفة
بحث الرواقيون في الأسس التي تقوم عليها المعرفة،وفي مصادر المعرفة، وفي المعيار الذي يتخذ من أجل التمييز بين المعرفة الصحيحة والمعرفة الباطلة، فكانوا ماديين، لأن المعرفة عندهم معرفة حسية، فالشيء يطبع صورته في العقل، وتتكون له صورة عقلية يصدقها العقل ويفهمها ويستقر به معناها، ومن الإدراكات الجزئية والمعاني الكلية يقوم العلم. لهذا ميزوا بين الصور الحسية وبين الإدراك الحسي، وارتأوا أن الصور الحسية صادرة مباشرة عن المحسوسات؛ والمحسوسات هي الأصل في كل معرفة، ففسروا الإحساس تفسيراً مادياً قائلين إن الإحساس هو انطباع أثر المحسوس في النفس كانطباع نقش الخاتم على الشمع تماماً.
وللمعرفة مصدر آخر، سموه التذكر؛ فالإنسان بعد أن يجمع عدة تصورات حسية، يتكون له عنها تصور كلي، ليس غير مجموعة التصورات الحسية الصرفة. أي هناك تصورات كلية، بالمعنى الذهني الصرف الخارج عن كل إدراك حسي خارجي، ومجموعة التصورات الكلية هي التي تكوّن العلم في هذه الحالة. وهذه التصورات لا مادية، قريبة من الكليات كما تصورها أفلاطون، أو على الأقل كما تصورها أرسطو. وتعد نظرية المعرفة الرواقية استمرار لمذهب الكلبيين الذي يريد أن يجعل المعرفة حسية أو صادرة عن الحس مباشرة.
العلم الطبيعي
مذهب الرواقية في الطبيعيات مذهب مادي صرف، ينقسم أولاً إلى البحث عن علل الوجود الأولى، وثانيا عن نشأة الكون وصفاته، وثالثاً عن الطبيعة غير العاقلة، ورابعاً وأخيراً عن الإنسان.
وأساس هذه المادية الرواقية مبدأ أفلاطوني صرف؛ فأفلاطون يذكر في محاورة «السفسطائي» أن الموجود الحقيقي هو الذي يفعل أو هو ماله قدرة على الفعل، ومع هذا فقد اختلف الرواقيون مع أرسطو وأفلاطون في النتائج التي استخلصوها، فقالوا إن ما هو مادي هو وحده الذي يحدث الأثر.
ويمكن إرجاع هذه المادية إلى نظريتهم في المعرفة، فمن حيث أن الحس لا يدرك غير الماديات فالعالم كله أو الوجود كله جسماني أو مادي خالص، وهم بهذا متأثرين بالمذاهب السابقة، مذاهب الطبيعيين الأقدمين والمذاهب المعاصرة أي مذهب المشَائين.
ويتماثل علمهم الطبيعي مع اعتقادهم الديني، فالله هو خالق كل الأشياء، والمنسق بينها جميعاً، وله الأسماء كلها، فهو زيوس، والنار الحية، والأثير، واللوغوس، والعقل، والروح، وقانون الطبيعة، والعناية، والقدر، والنظام. والرواقيون موحدون، فالأشياء لا تحدث في الزمان، لأن الزمان عندهم بعد الأشياء، وحركة التاريخ دورية وليست للأمام أو الخلف.
أثرت الفلسفة الرواقية ـ مع منافاة مبادئها للعقائد المسيحية ـ على مفكري اللاهوت المسيحيين لما جاءت به من تفصيل القول في الفضائل والرذائل، وفي صفات الله، وفي العناية الإلهية، وتسرب كثير من آرائها إلى الفلسفة الإسلامية، ففي رسائل إخوان الصفا مثلا،ً طائفة منها في وحدة الطبيعة وفي القدر والحرية والأخلاق والتنجيم. وما الأخلاق عند ديكارت إلا الأخلاق الرواقية. وما مذهب اسبينوزا إلا المذهب الرواقي في ثوب ديكارتي. وما الأخلاق عند كنت[ر] إلا أخلاق الرواقيين في لغة جديدة.
عدنان ملحم
Stoicism - Stoïcisme
الرواقية
الرواقية stoicism مدرسة فلسفية أخلاقية معاصرة للأبيقورية[ر] ،انتشرت في إطار الثقافة اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد، بتأثير الأفكار التي تدعو إلى المواطنة العالمية والنزعة الفردية والمعرفة الرياضية. وقد وضع أصولها زينون[ر] Zeno. وسميت بالرواقية نسبة إلى الرواق المصور بأثينا ـ مكان اجتماع الشعراء ـ الذي اتخذه زينون مقراً له يجتمع فيه مع أصحابه فدعوا بالرواقيين، وأطلق عليهم الإسلاميون اسم أصحاب المظلة، وحكماء المظال، وأصحاب الأصطوان. وكان أبرز دعاتها المؤسسون آسيويين ، وإن كانوا قد تلقوا تعليماً يونانياً، وتأثروا بالفكر اليوناني، فأخذوا عن هيراقليطس فكرة اللوغوس، وعن الميغاريين القياس الاستثنائي، وعن الكلبيين الخصائص القومية والحياة وفقاً للطبيعة والعقل، وعن سقراط أن الفضيلة علم والجهل رذيلة.
تنقسم الرواقية إلى ثلاثة أدوار، دور الرواقية اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد: وقد مثلها زينون وإقلينتوس وأقريسبيوس؛ ودور الرواقية المتوسطة في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد : وكان أشهر فلاسفتها ديوجين السليوسي، وبانيتيس الروديسي: وبوسونيوس الملقب بأقريسبيوس الرواقية المتوسطة؛ ودور الرواقية الرومانية المتأخرة في القرنين الأول والثاني الميلاديين: وقد برز من فلاسفتها سينيكا وإيبكتيتوس والامبرطور ماركوس أوريليوس. وهم الرواقيون الوحيدون الذين وصلت كتبهم إلينا كاملة، وهي متأخرة أربعة قرون على تأسيس المدرسة.
الفلسفة الرواقية
الفلسفة في الرواقية هي محبة الحكمة وممارستها، والحكمة هي العلم بالأشياء الإلهية والإنسانية، وتنقسم إلى المنطق والطبيعيات والأخلاق ، وهي تشبه الحقل الخصيب، أشجاره العلم الطبيعي وثماره الأخلاق، وسياجه المنطق. والغاية الرئيسية من الفلسفة أن تكون فلسفة عملية أخلاقية، وبذلك تميزت الرواقية بثلاث سمات: الأولى أن الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة العملية، والثانية أن الفلسفة العملية هي التي تقوم على العمل المطابق للعقل، والثالثة أن العمل المطابق للعقل هو الذي يجري بمقتضى قوانين الطبيعة، فالحياة يجب أن تعاش وفق الطبيعة، وهذا هو أنموذج كل إنسان عاقل.
الأخلاق
ينظر الرواقيون إلى الفلسفة على أنها الأخلاق، لأن موضوع الفلسفة هو الفضيلة وما فروع الفلسفة المختلفة إلا أنواع متعددة للفضيلة، فيصنفون الأخلاق في المرتبة العليا من هرم العلوم الفلسفية، لأن الفعل الأخلاقي لا يكون صحيحاً إلا إذا كان موافقاً لما تقتضيه قوانين الطبيعة. وكل فعل أخلاقي إنما يكون عن طريق الممارسة، والممارسة لا تكون إلا على أساس النظرية لأن الأصل في كل نظر عندهم هو العمل؛ إذن فالنظرية هي المبدأ الأول الذي يقوم عليه العمل الأخلاقي، أو بعبارة أخرى الغاية من كل تجربة أو فعل أخلاقي هو تحقيق قانون الطبيعة. والمركز الأول للطبيعيات وليس للأخلاق.
ويختلف الرواقيون في ترتيب العلوم وأوليتها؛ فزينون وإقلينتيوس مثلاً، اهتما بالطبيعة أكثر من الأخلاق، أما في الطور الثاني ، فقد طغت النزعة العملية، ثم أصبحت الفلسفة الرواقية في الدور الروماني عملية صرفة، لا تكاد تتجاوز في شيء أنواع الأعمال والقواعد المرتبطة بأنواع الأعمال التي يجب أن يؤديها الإنسان حتى يصل إلى الحياة السعيدة، وبهذا احتلت الأخلاق المرتبة الأولى وكان للطبيعيات مرتبة ثانوية.
ولا مجال عند الرواقية للاختيار أو الحرية؛ فالأفعال الإنسانية متصفة بصفة السوية أو التساوي أو الحياد، و كل فعل أخلاقي هو في ذاته لا قيمة له ولا اعتبار، وإنما القيمة الأخلاقية للفعل هي دائما في الموقف النفسي الذي يقفه الإنسان إزاء هذا الفعل، وهذا أشبه ما يكون بفكرة الكسب عند الأشاعرة، من حيث أن الأفعال مقدرة أزلياً تقديراً مطلقاً، وليس على العبد إلا أن يكتسب صفة الفعل، وهذا كل نصيبه في الفعل الأخلاقي.
ويفرق الرواقيون بين نوعين من الأخلاق: الأخلاق النظرية، وهي التي تحقق الفضيلة على صورتها العليا، أي أن يعلم المرء قوانين الطبيعة.... والأخلاق الشعبية أو العملية، وهي التي يحاول بها الإنسان التقرب من المثل الأعلى للفضيلة الرواقية. وهنا يفرق الرواقيون بين نوعين من الفضيلة: فضيلة هي الحكمة، وفضيلة هي الفطنة. فالحكمة هي الفضيلة مفهومة على النحو الأول، أي في الأخلاق النظرية، والفطنة هي محاولة الإنسان أن يحقق الفضيلة، ولهذا فإنهم يقولون أيضا بصفة وسط بين الخير والشر هي التي يسمونها صفة «الملائم»؛ وهو هذا الذي يجمع بين الخير والشر من حيث أنه ليس خيراً مطلقاً ولا شراً مطلقاً، وهنا يبرز التناقض الذي وقع فيه الرواقيون، فهم يقولون بوحدة الفضيلة، وإن الفضيلة لا يمكن أن تكون إلا واحدة، فإما أن يعرف الإنسان الأشياء، وإما أن يجهلها، ولا وسط بين العلم والجهل مطلق.
ويجر هذا أيضا إلى تفرقة ثالثة قالوا بها، وهي التفرقة بين الغاية وبين الغرض، وهي تفرقة لها أثر كبير، وكانت موضع العناية لدى المدارس الرواقية على اختلافها.
المنطق
ينقسم المنطق عند الرواقيين إلى قسمين رئيسين: الأول هو الديالكتيك، والثاني هو الخطابة. وذلك حسب تقسيمهم الكلام إلى نوعين: نوع متسلسل ونوع منطق، النوع المتسلسل يتعلق به الديالكتيك، والنوع الآخر يتعلق به الخطابة. وقد عنوا عناية كبيرة بالناحية الشكلية الصرفة،أي ناحية الألفاظ والحدود أكثر من عنايتهم بالبحث في العمليات المنطقية العقلية الحقيقية التي يقوم بها الذهن في أثناء التفكير الصحيح.
ويتفرع المنطق الديالكتيكي إلى فرعين تبعاً لانشطار المنطق إلى جانبين: جانب التسمية، وجانب المسمى، أو ناحية المحدد أو بعبارة أوضح: ناحية الأفكار أو التصورات، وناحية الألفاظ المعبرة عن هذه التصورات. وقد أولوا اهتماماً خاصاً بالناحية اللفظية.
وينقسم كلامهم في المنطق إلى عدة أبواب رئيسة: أحدها خاص بالمقولات، والثاني بالأحكام أو القضايا، والثالث بالأقيسة. فبالنسبة للمقولات، غيروا تغييراً كبيراً في نظام المقولات عند أرسطو ، وأرجعوها إلى أربع: أولها مقولة الموضوع، ويليها مقولة الصفة، ثم مقولة الحال الخاصة، وأخيرا مقولة الحال النسبية.
وأما ما يخص القضايا والأحكام، فقد أبدعوا منطقاً للقضايا لا يقوم على الأحكام القطعية بل على الأحكام النسبية. وأنشأ الرواقيون ضروباً من ارتباط الأحكام، أشار إليها المنطق الحديث على أنها تضمين مادي، كما عنوا بالناحية اللغوية، ثم وجهوا عنايتهم إلى القياس.... فجددوا كثيرا في أنواع الأقيسة، وركزوا كل اهتمامهم على الأقيسة الشرطية، وكادوا ينكرون الأقيسة الحملية، إذ قالوا إن الأقيسة الشرطية هي وحدها الصحيحة من الناحية الصورية، أما الأقيسة الحملية فيمكن أن تكون صادقة من الناحية المادية، أما من الناحية الصورية فليست يقينية.
وقد فصلوا القول في القياس الشرطي فأخذوا بالأنواع الخمسة التي كشف عنها ثاوفرسطس للأقيسة الشرطية من حيث تركيب الشرطيات بعضها مع بعض لتكوين الأقيسة المتصلة أو المنفصلة، وعنوا تفصيلاً بالأقيسة الشرطية المنفصلة. أي الأقيسة الاستثنائية المنفصلة، ولكنهم مع ذلك، وعلى الرغم من توسعهم في باب الأقيسة الشرطية، لم يأتوا بأشياء جديدة حقا من حيث بيان العمليات الفكرية المنطقية في الأقيسة الشرطية والقضايا الشرطية. لقد غلبت الناحية الشكلية على منطقهم، فغفلوا عن طبيعة المنطق الحقيقية،وهي تبيان العمليات الفكرية التي يتم بها التفكير السليم، فكان المنطق عندهم أقرب إلى الآلة منه إلى العلم، أو أقرب إلى الفن منه إلى النظر.
المعرفة
بحث الرواقيون في الأسس التي تقوم عليها المعرفة،وفي مصادر المعرفة، وفي المعيار الذي يتخذ من أجل التمييز بين المعرفة الصحيحة والمعرفة الباطلة، فكانوا ماديين، لأن المعرفة عندهم معرفة حسية، فالشيء يطبع صورته في العقل، وتتكون له صورة عقلية يصدقها العقل ويفهمها ويستقر به معناها، ومن الإدراكات الجزئية والمعاني الكلية يقوم العلم. لهذا ميزوا بين الصور الحسية وبين الإدراك الحسي، وارتأوا أن الصور الحسية صادرة مباشرة عن المحسوسات؛ والمحسوسات هي الأصل في كل معرفة، ففسروا الإحساس تفسيراً مادياً قائلين إن الإحساس هو انطباع أثر المحسوس في النفس كانطباع نقش الخاتم على الشمع تماماً.
وللمعرفة مصدر آخر، سموه التذكر؛ فالإنسان بعد أن يجمع عدة تصورات حسية، يتكون له عنها تصور كلي، ليس غير مجموعة التصورات الحسية الصرفة. أي هناك تصورات كلية، بالمعنى الذهني الصرف الخارج عن كل إدراك حسي خارجي، ومجموعة التصورات الكلية هي التي تكوّن العلم في هذه الحالة. وهذه التصورات لا مادية، قريبة من الكليات كما تصورها أفلاطون، أو على الأقل كما تصورها أرسطو. وتعد نظرية المعرفة الرواقية استمرار لمذهب الكلبيين الذي يريد أن يجعل المعرفة حسية أو صادرة عن الحس مباشرة.
العلم الطبيعي
مذهب الرواقية في الطبيعيات مذهب مادي صرف، ينقسم أولاً إلى البحث عن علل الوجود الأولى، وثانيا عن نشأة الكون وصفاته، وثالثاً عن الطبيعة غير العاقلة، ورابعاً وأخيراً عن الإنسان.
وأساس هذه المادية الرواقية مبدأ أفلاطوني صرف؛ فأفلاطون يذكر في محاورة «السفسطائي» أن الموجود الحقيقي هو الذي يفعل أو هو ماله قدرة على الفعل، ومع هذا فقد اختلف الرواقيون مع أرسطو وأفلاطون في النتائج التي استخلصوها، فقالوا إن ما هو مادي هو وحده الذي يحدث الأثر.
ويمكن إرجاع هذه المادية إلى نظريتهم في المعرفة، فمن حيث أن الحس لا يدرك غير الماديات فالعالم كله أو الوجود كله جسماني أو مادي خالص، وهم بهذا متأثرين بالمذاهب السابقة، مذاهب الطبيعيين الأقدمين والمذاهب المعاصرة أي مذهب المشَائين.
ويتماثل علمهم الطبيعي مع اعتقادهم الديني، فالله هو خالق كل الأشياء، والمنسق بينها جميعاً، وله الأسماء كلها، فهو زيوس، والنار الحية، والأثير، واللوغوس، والعقل، والروح، وقانون الطبيعة، والعناية، والقدر، والنظام. والرواقيون موحدون، فالأشياء لا تحدث في الزمان، لأن الزمان عندهم بعد الأشياء، وحركة التاريخ دورية وليست للأمام أو الخلف.
أثرت الفلسفة الرواقية ـ مع منافاة مبادئها للعقائد المسيحية ـ على مفكري اللاهوت المسيحيين لما جاءت به من تفصيل القول في الفضائل والرذائل، وفي صفات الله، وفي العناية الإلهية، وتسرب كثير من آرائها إلى الفلسفة الإسلامية، ففي رسائل إخوان الصفا مثلا،ً طائفة منها في وحدة الطبيعة وفي القدر والحرية والأخلاق والتنجيم. وما الأخلاق عند ديكارت إلا الأخلاق الرواقية. وما مذهب اسبينوزا إلا المذهب الرواقي في ثوب ديكارتي. وما الأخلاق عند كنت[ر] إلا أخلاق الرواقيين في لغة جديدة.
عدنان ملحم