الإصلاحات الزراعية في الوطن العربي
الخمسينات والستينات هي مرحلة الإصلاح الزراعي الجدي والجذري في عدد من أهم الأقطار العربية. وكان ذلك نتيجة معطيات قومية وسياسية مواتية وتنفيذاً لمبدأ «القضاء على سيطرة الإقطاع..» الذي نادت به وعملت على تطبيقه ثورة 23 يوليو في مصر.
وطبيعي أن تبدأ المرحلة المذكورة بالإصلاح الزراعي الرائد والشامل في ثورة مصر عام 1952، وهو الإصلاح الذي مهد الطريق للإصلاحات الزراعية المهمة في سورية (1958 و1963 و1980) والعراق (1958 و1970) والجزائر (1962 وبعدها) وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1968 و1970) وليبية (1970).
وقد رافق معظم الإصلاحات المذكورة وأعقبها اتخاذ تدابير، أو سنّ تشريعات، هدفها تجميع زراعة المحصولات مع الحفاظ على الملكيات الصغيرة، ومنع تفاقم تجزئة الملكيات الصغيرة بفعل قوانين الوراثة والبيع وغيرها، وإقامة التعاونيات والمزارع المسيّرة ذاتياً ومزارع الدولة، وتوفير القروض لصغار المزارعين، وتنظيم العلاقات الزراعية بين مُلاّك الأراضي ومستأجريها، وضمان حقوق العمال الزراعيين، وتنظيم الفلاحين وتوعيتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن القاسم المشترك لتلك الإصلاحات هو تصفية الملكيات التقليدية الكبيرة. لأنها أداة الاستغلال والسيطرة الإقطاعية ولأنها كانت تعاني سلبياتٍ وعيوباً كثيرة تُلخّصُ بما يلي:
ـ الإفراط في الحجم الكبير (فقد تجاوز حجم حيازات بعض الأسر مئة ألف هكتار).
ـ العجز عن تحقيق مزايا الوحدات الإنتاجية الكبيرة ذلك أن الملكية موضوع البحث هي كبيرة فقط (في عائديتها لشخص واحد) أما من الناحية التقنية والإنتاجية فإنها تجزأ إلى قطع صغيرة تستغل كلاً منها أسرة فلاحية.
ـ إمكان الطعن في مشروعية منشئها وفي أساليب الحصول عليها.
ـ غياب أصحابها عنها وهم من الشيوخ والأغوات والأعيان والسياسيين، الذين يندر أن تتوافر فيهم المؤهلات اللازمة لاستغلال زراعي فعال ومتطور.
ـ تخلفها إنتاجياً واقتصادياً بسبب ضعف الاستثمار الإنتاجي ذلك أن معظم الفائض الذي يحصل عليه كبار الملاك كان يكتنز أو يجمد في مزيد من العقارات أو يبدد في استهلاكات طفيلية أو يهرب إلى الخارج.
ـ اتخاذها وسيلة لاستغلال الفلاح اقتصادياً (ريع نقدي أو عيني مرتفع، وفوائد باهظة للديون، وأسعار منخفضة لشراء محصولات المزارعين وغير ذلك) واجتماعياً وسياسياً.
طبيعي والحالة هذه، أن يكون الهدف المحوري لكل إصلاح زراعي جدي هو تصفية هذا النوع من الملكيات، وأن تستبدل به صيغ أكثر كفاية وقدرة وعدلاً.
الإصلاح الزراعي في مصر: كانت أهم خصائص الريف في مصر عشية صدور أول قانون للإصلاح الزراعي في أيلول عام 1952 رقعة زراعية مروية صغيرة محدودة، مساحتها الإجمالية 5.8 مليون فدان (الفدان المصري =4200م2)، وضغط سكاني مرتفع ومتزايد مع سوء توزيع في الأرض نجم عنهما تدهور في نصيب الفرد من الأرض (0.25 فدان للفرد عام 1952) وارتفاع في إيجارها وفي انتشار سوق سوداء ومضاربات، وجيش من الفلاحين حُرموا الأرض والعمل أحياناً، واستغلال إقطاعي بصوره وألوانه المختلفة. في تلك الحقبة، كان في مصر 2.6 مليون مالك صغير (أقل من 5 فدادين للملكية) يؤلفون 94% من مجموع الملاك ويملكون 35% فقط من إجمالي الأرض المزروعة. في الطرف المقابل، كان 6% من الملاك، يملكون المتبقي من الأرض أي 65%. كان 0.5% من كبار الملاك يملكون 34.2% من الأرض الزراعية. إنه «مجتمع النصف بالمئة».
في تلك الأحوال، أصدرت الثورة في مصر، بعد ستة أسابيع فقط من نجاحها، قانون الإصلاح الزراعي الأول ذا الرقم 178 لعام 1952 وحدد سقفاً للملكية قدره 200 فدان للمالك. وفي عام 1961، صدر القانون 127 فخفض السقف إلى 100 فدان، تلاه القانون الثالث ذو الرقم 50 لعام 1969 فخفض السقف من جديد إلى 50 فداناً للمالك و100 فدان للأسرة. وتخلل كل ذلك قوانين إصلاحية أخرى، تضمنت مصادرة أموال الأسرة الملكية وممتلكاتها وتوزيع الأراضي الموقوفة على الفلاحين وحظر تملك الأجانب للأراضي الزراعية.
كانت الحصيلة الإجمالية لتلك القوانين الاستيلاء على نحو 980.000 فدان (نصفها تقريباً يعود لتطبيق القانون 178) وزع نحو 85% منها، قبل نهاية الستينات على نحو 347.000 أسرة تضم أكثر من 1.7 مليون إنسان، ويراوح نصيب الأسرة الواحدة بين 2-5 فدادين. وقد نظم صغار الملاك الجدد في تعاونيات هدفها الأساسي القضاء على استغلال الوسطاء والمرابين وتحقيق التجميع المحصولي وتوفير القروض والمساعدة في تسويق المحصولات.
لقد نفذت قوانين الإصلاح الزراعي في مصر العربية بفاعلية وجدية. فسادت الملكية الزراعية الصغيرة التي أصبحت تشغل منذ منتصف الستينات نحو 57% من الأرض المزروعة في مصر وتحرر الفلاح وقويت دعائم الديمقراطية الاجتماعية. وقد رافق ذلك كله بناء السد العالي والمباشرة باستصلاح مايزيد على 900.000 فدان من الأراضي الجديدة المروية بمياه السد إضافة إلى أراضي الإصلاح الزراعي. فالخمسينات والستينات، كانت بحق مرحلة فقراء الفلاحين الذهبية في ريف مصر وفي غيره من الأرياف العربية.
الإصلاح الزراعي في العراق: إن سوء توزيع الأرض وسوء استغلالها في العراق كانا يؤلفان عشية صدور قانون الإصلاح الزراعي ذي الرقم 30 في 29 أيلول 1958 نموذجاً صارخاً للإقطاع في جشعه وقصوره، وإذا استطاع 6% من ملاك مصر امتلاك 65% من أراضيها المزروعة، ففي العراق كان 2% فقط من الملاك يملكون 68% من أراضيه الزراعية. كان في العراق شخصان تجاوزت حيازة كل منهما مليون دونم عراقي (الدونم العراقي = 2500م2).
تضمن القانون 30 وضع حدٍ أعلى للملكية قدره 1000 دونم في الأراضي المروية ومثلاها في الأراضي المطرية. ونص توزيع الأراضي المستولى عليها على المستحقين بمعدل 30-60 دونم للأسرة في الأراضي المروية أو مثليها في الأراضي المطرية. ويشمل القانون نحو 2400 مالك بلغت مساحة الأراضي الخاضعة للاستيلاء لديهم 11.26 مليون دونم أي نحو 48.7% من إجمالي المساحات المزروعة.
وتعثر تطبيق القانون في السنوات الأولى نتيجة لبعض المشاكل الناجمة عن نقص البيانات وقصور في التخطيط وفي خبرة الأجهزة وغير ذلك من العوامل.
وفي عام 1970 صدر القانون 117 وجعل الحد الأقصى للملكية يُراوح بين 40- 2000 دونم وذلك باختلاف إنتاجية الأرض ومصدر الري، واستثنى من ذلك حدائق أشجار الفاكهة والنخيل تشجيعاً للتشجير وألغى مبدأ دفع التعويضات وقصر ذلك على التحسينات الإنتاجية والمنشآت القائمة. ونص تخصيص الأسرة المنتفعة بالتوزيع بمساحة تراوح بين 4-200 دونم أي مايعادل 10% من المساحة المتروكة للمالك. وأعفى المنتفعين من قيمة الأرض الموزعة وأجاز إقامة مزارع جماعية في بعض الأراضي المستولى عليها وسمح بتوزيع بعض أراضي الاستيلاء على خريجي المعاهد الزراعية.
الإصلاح الزراعي في الجزائر: عشية انتصار الثورة وإعلان الاستقلال كان في الجزائر قطاع زراعي تقليدي فقير يشمل نحو 4 ملايين هكتار، وقطاع زراعي حديث يضم مشروعات وضياع المستعمرين ويشمل نحو 3 ملايين هكتار مخصص معظمها لعنب الخمور والحمضيات والخضراوات.
وبعد مغادرة المستعمرين الأوربيين تولى عمال وفلاحو ذلك القطاع، على نحو يكاد أن يكون تلقائياً، إدارته ذاتياً. وقامت الدولة بمهمة المشجع والداعم بهدف الحفاظ على إنتاجه وإنتاجيته ومنع استيلاء البرجوازية عليه وتحاشي تجزئة مشروعاته وتفتيتها وسعياً وراء الإبقاء على وحدات إنتاج جماعية مسيرة ذاتياً.
وفي عام 1963 صدرت مجموعة من القرارات التنظيمية وبدئ بفرز «الكوادر» المسؤولة وتخصيصها وبتحديد طرائق الإدارة والتمويل وتوزيع الدخل، وتحققت نتائج معقولة. وبوشر بعد ذلك بتطبيق خطط لترشيد الإدارة الذاتية وتعديل التركيب المحصولي، ليكون أكثر ملاءمة للحاجات الوطنية وتكثيف الزراعة وإقامة شبكة ممتازة من تعاونيات التسويق.
وفي أوائل السبعينات جرى التركيز على دعم القطاع التقليدي وتطويره اعتماداً على جزء من الفائض المتحقق من القطاع الحديث: فتمت تصفية ملكيات الملاك الغائبين، وفرضت حدود قصوى على حجم الحيازات، ووزع الفائض على المستأجرين، وأسست أنواع مختلفة من التعاونيات، ودعمت مؤسسات الخدمات.