عن صفحة Kinana Eissa
لمثلك أكتبُ ?
لينا هويان الحسن والأدب التأملي وإعجاز الميثوبيا
(أدب صناعة الأسطورة)
إلى حارسة الذاكرة.... وحاكمة الكلمة... إلى الروائية المبدعة لينا هويان الحسن التي تجبرنا إلى الانحياز إلى قاموسها الروائي الذاخر بالشخصيات الفريدة والتراكم الثقافي والغنى المعرفي ثم ذلك الخيال الذي لا ينصفه مديح و لا إطراء.
أهنئك من كل قلبي على هذا المنجز الفذ الذي أعتبره نقديًا وروائيًا نقطة تحول في قولبة الحس التاريخي في الأدب الروائي و أصالة في أسطرة القلق الوجودي والإنساني المعاصر ليس بإدراك الماضي الحكائي فحسب بل و ربطه بمفاهيم الملحمة و التراث والدراما الشعبية وحقائق التاريخ والجغرافيا المغيبة، بعيدًا عن الرتابة والملل واجترار السائد. بل تحليقًا ،شيقًا، استباقياً في عالم الميثوبيا النادر الذي لا يتجرأ إلا قلة مهيبة على خوض عوالمه المتشابكة الفريدة حين تأخذ الملحمة فيه طزاجة الآن وهيمنة الحقيقة وتنال فيه هذه الراوية في رحلاتها الإثني عشر، حظوة أن تمنح القارئ/القارئة متعة الموت والبعث من جديد على أيدي شخصيات مذهلة، ساحرات و عرافات وكاهنات و ملكات، أشباح أبطال ومخلوقات خيالية و شريرات حاقدات وأميرات عاشقات ونساء متفردات يستمتعن
بالانتقام ويظفرن بشرف الخيانة و ارتكاب الممنوع والعشق المتمرد والشغف المحظور وخوض المستقبل بكل جرأة وتفرد و عناد
ميثيوبيا جديدة لم يقترفها أحد بعد!
وحدها لينا اخترقت المألوف وتفوقت على ذاتها بعمل روائي فريد، خلق من الموروث الشعبي أدبًا حداثياً طازجاً , وثيقة شعورية كانت قادرة على خلخلة موازين الفكر وأقطاب العاطفة وتجليات الروح ثم طرح إشكاليات الجدل الفلسفي حول عالم اللامرئيات والميتافيزيقيا وكل العوالم الخارقة التي قد لا نعترف بوجودها.
في قصة تبدو بسيطة لمن لم يدرك، بهاء اللغة وقصديتها وعمق الحبكة ببعدها الواحد الشديد العمق و المتسلسل زمنيًا. ثم البرمجة الواعية لفن فهم الحياة المعاصرة بجدليتها واستمرارية تغيرها اللامحدود.
كما ورد في السرد
أنجزي ثورتك على نفسك
لا تتم مصادقة الأسرار إلا وأنت مستعين بضوء روحك
العيون هي كل شيء والنظرات هي ورطات قدرية مع المجهول
كلما هدأت وحوش الداخل بدأ السلام العظيم
.لغة السرد الوجدانية المبدعة وتفاصيل السحر
لن تنظر إلى حروف الأبجدية بنفس الطريقة مرة أخرى... ولا لسماء تظلل بصرك الباحث عن اليقين بنجومها، فهذه الكاتبة المبدعة، أدركت أن العمل الأدبي الناجح هو بناء متين فنياً وجمالياً، ولقد نهضت بمجهود معرفي وبحثي مذهل لتقدم لنا الحكاية المتداولة بإطارها الشعبي، في أسطرة خاصة امتازت بلغة مقننة، تنساب بهدوء وعمق حين تضج بحقائق الوجود وتنحو نحو التفصيل والتدقيق و الإصطلاحية القصدية من مصطلحات وتعابير لم تثقل فحوى السرد حين تتحدث عن طقوس السحر والاستحضار، ثمّ تتقولب في حكائية سلسة حين تقص السير الذاتية الفريدة لشخوصها اللاعتيادية ثم لتترقرق بعذوبة لينة هشة حين تتحدث عن ذاتية الساردة التي تتعلم السحر بمشقة العارف وتوق الجاهل و انعتاق الباحث عن الحقيقة ورهبة من يواجه مخاوفه ونقاط ضعفه و تمرده الداخلي. ثم تتسق اللغة بقوة مفردات واعية تخاطب اللاوعي و العقل الباطن حين تكون لغة الخطاب السردي غرضية التأثير، الكاتبة الملهمة تخلق تحولًا جذريًا لفهم فلسفة وجود الآخر وتقبله،و تصنع عالمًا موازيَا لفصل الحالة الشعورية البشرية عن الفهم الإنساني العام الملتبس بقوانين وعي جمعي متهالك أكل الدهر عليه وشرب وبتاريخ أدان نفسه بالحروب والمذابح والتناحر على وهم السلطة التي لم يبقى منها إلا تلادها. وكما ورد في السرد:
نعلم أن التاريخ يخيطه القتله وينسجه السياسيون، و يشرعه رجال الدين، ويبقى الحزن على الضحايا من نصيب الشعراء والرواة والفنانين،ولهذا وجد هؤلاء.
مع الخوف لايمكن أن تكوني ساحرة أو امرأة أو أي أحد.
"يختلف العراف عن الساحر. العراف يحاول قراءة الغيب، أما الساحر فهو الذي يحاول امتلاك مفاتيح السيطرة على قوى غيبية ويسخرها لمشيئته. لهذا قلت لكم إن أمي ساحرة... كان العرب يفرقون بين العرافة والكهانة. فالكهانة تنظر المستقبل أما العرافة فتنظر الماضي"
ميثوبيا لينا هويان الحسن الفريدة وصناعة الأسطورة الملحمية الشرقية
لأول مرة نرى صاحبة الأسطورة امرأة باحثة عن الحقيقة.. ،فهي ليست جلجامش الملك الفاقد.. ولا هيركليس الذي فجع بقتله عائلته ولا أورفيوس الذي سينعي فقد حبيبته للأبد... إنها امرأة أولًا..، عادية للعيان ثانيًا، شابة سورية معاصرة تدرس الفلسفة ثالثًا، تتحدى شروط صناعة الأسطورة بشكلها العام حين تشاركنا ملحمتها التي رسمت خريطتها والدتها (خاتون المغولية) الساحرة الفريدة، فتخضع للسحر الخبيئ في دمائها بطقوس غيبية مبهمة ، وتتلو علينا حكاياها الباحثة عن الحقيقة و الوجود من خلال طقوس السحر لتقايض معاني الحب والغيرة والجنس واللذة والخلود والغيرة في إدراك معنى الحياة كما تراها الكاتبة كحكمة أزلية لا تموت. تعيد صياغتها سلسلة نساء ما زالت أرواحن ماكثة في سوريا..أرض الحضارات.. وكأن إرث الأمجاد القديم هو فن أنثوي محض جوهره الغموض المغوي لسطوة نسوة استثنائيات ،عاشقات، غيورات، حاقدات، صلبات، متمردات، يتلبسن وريثاتهن في الخفاء... متحديات الزمن والفناء والموت.
لا سقوط تراجيدي محتمل للبطلة الساردة كمثيلاتها ممن ستلتقي بكينوناتهم الروحية كأطياف وأشباح، بل تسامي شفيف يشرق بوعي ويقظة البدايات الجديدة
المرأة الملحمة... هي التي تخلق حكاياها وأسطورة حياتها بيدها. . المرأة المتمردة المتحررة القوية الصلبة، العربية الشامخة منذ الأزل حتى الحاضر المعاش.
براعة التخييل التأملي الروائي
عالم الرواية القوطي كائن خالد يتحرك ويتنفس تطهيري زاخر التجارب البشرية التغريبية التي تسوغها الكاتبة ، رائع وغامض وغير مفهوم بقصدية شيقة وأحيانًا مخيف بجمال معد ، ولكنه جزء لا يتجزأ من العالم الحقيقي، عالم اهل البادية الساحر بكل عاداته وطقوسه وغرابته(قصر الحير الشرقي، تلاد إسرية،قلعة الشميميس،آثار أفاميا، سلمية، ضفاف الفرات العظيم، حلب الخالدة، غابات الفرنلق، جبل البشري.. وبادية حمص )تخلق لنا الكاتبة نسخًا لأنماط بشرية تشبهنا،تدعونا للبحث عن انعكاس الآخر فينا، ضمن قوانين السحر والغرابة والغموض، هي دعوة أخرى للبحث تحت جلدنا عن ماهيتنا خلال أفق الفهم لنا كبشر وللعالم من حولنا، ولقراءة القدر الذي نكتبه بوعينا،تدرك لينا هويان الحسن صعوبة
مرواغة عقل الإنسان الواعي المعاصر الذي يعيش واقعًا َحياتيًا يوميًا افتراضيًا يتردد أمام مفارقات ملتبسة مدهشة أساسها خلود الروح البشرية وتحديها للمنطق الوجودي الإنساني المحكوم بالجسد. والتي يرفض على الدوام الاعتراف بها.
يدفعنا البحث عن الدلالة لتأمل شخصية حاكمة القلعتين الرهيبة، وجنيات الغزل والحب ،وعميميت التي أعماها الحب وثريا العسلية المذهلة بانتقامها وهيلا الصابئية الرقيقة الهائمة... وأميرة أفاميا العاشقة و ملكة الباغوز... دورين الحارسة والجنية زغل.... ثم آخرهن... لينا.. المنحدرة من نسل خاتون المغولية.. صانعة الأساطير والحكايا.
جادل عالم الفولكلور الشهير آلان دوندس بأنه "لا يمكن لأي رواية أن تفي بالمعايير الثقافية للأسطورة. ولا يمكن القول إن أي عمل فني أو بارع هو سرد للتقاليد المقدسة للثقافة... بل هو على الأكثر، أسطورة مصطنعة".
ولكن لينا هويان الحسن استطاعت أن تتفوق على هذه الرؤية، فاستطاعت أن تتحدى أقاصيص ألف ليلة وليلة بنسختيها الشهيرتين العربية والمستعربة،وأن توثق ملحمتها الخاصة بجمالية تطغى على ميثيولوجيا كثولو ل (لافكرافت) ،وتعيد الرونق والجلالة لشخصيات مضغها القص الحكائي الشعبي وسلبها سحرها بإتقان يشبه إشراق ( آلهات بيجانا) لدونساني،وأنها تدرك جيدا أن برمجتها اللاوعية لعقل قارئها الباطني المسكون بقصص الجان قصدي التأثير كعالم السيلماريليون ل تولكين.
وأسألكم حين ستقرأون... هذا المنتج الأدبي المذهل، أي الشخصيات هي الأقرب إليكم؟
#حاكمة_القلعتين
#دار_الآداب #لينا_هويان_الحسن
Dar Al Adab