قصة قصيرة i ليلة في مدينة الموتى
رغم تدفق حزني إلى داخلي ، ليملأ كل كياني ؛ وما نقص الحزن من حولي شيئاً ؛ فقد كان قد وحشني جداً وافتقدته جداً ، وصارت حياتي تدناقصة بعده ، وقد وجدته هو الآخر يفتقدني ، كما وجدته شاحباً مريضاً ربما ، كما كان مريضاً في سنواته الأخيرة من عمره الأول ، فقلت له لأواسيه قليلاً :
"قلبي معك ؛ إذ تعيش في مدينة الموت ، وسط الموتى ، دون أن تموت " .
.. كان قد مضى على موته أكثر من عشر سنوات ؛ ولكن على وجه التحديد لم تكن سنوات موته قد وصلت إلى الخمسة عشرة سنة . وكنت قد اعتدت أن أزوره كلما ضاق عليّ حزني ؛ وكلما قصدت بلدتنا ، وأظل في سكينة قبره ؛ ترفرف عليّ ظلال الأشجار الباسقة ، التي تلاصق المقابر وتحيط بها ، وتلطف من حرارة الجو ؛ مهما كانت درجة الحرارة في الخارج ؛ إذا ما كان الجو قيظاً، ولكنها لم تكن مؤثرة إزاء برودة الجو ، إذا ما كان الجو شتاء ، وكانت البرودة تأتي من داخل القبور ذاتها .
كان يتجاوب مع ما أقول فور أن يسمع مني الجملة الأولى ، التي تخصه بالسلام من بين كل الموتى الذين في المقبرة :
" واحشني يابابا " . وبمجرد أن أكف عن الإجهاش بالبكاء ؛ بعد أبلغه شوقي له بجملتي الثابتة منذ أن غادرنا أول مرة . كان هو سرعان ما يبدأ بتدفق ما عنده ويحبسه لي عنده منذ آخر زيارة ليّ له وحتى الزيارة الحاضرة ؛ كان يدفق ما عنده إلى روحي مباشرة ؛ وأسمع ما يقول بنفس الصوت الذي كان له ومازال محفوراً في سمعي وفي قلبي ؛ أسمع ما يقول بنفس الصوت الذي كان له ولكن الموت قد أضاف إلي صوته " رنيين صدق " كأن الصدق المطبق التام قد صار لصوته " صدي " وكان الموت قد أضاف لصوته رخامة في التدفق وكأنه صوت مجود يتلو "القرآن " فيصبح صوته وكأن الصوت من الإحاطة بيٌ ، وقد تحول إلى كونه قد أصبح " ملابس" أرتديها فوق ملابسي ؛ يدخل صوته إلى جسمي ، بعد ملامسته للحمي وجسدي ؛ فلا يسمعه إلا أنا ؛ ولا يفطن لحديثه معي ؛ إلا من يتتبع ؛ حركات وجهي وحركات يدي وسكنات شفتاي وضمهما وإنفراجهما وإرتخاء رجلي في مواجهة فواهة قبر أبي ؛ الذي إبتلع " أبي وصديقي " منذ سنوات طالت .
وصارت زياراتي له وحديثه معي ، هى دلالتي ، أنه مازال يحيا في الموت ، وأن موته ليس إلا نعاساً له ، يصحو من غفواته ، حين أزوره ، وقد صار هذاّ ، مؤلماً ليّ أني تأكدت أنني أحييه في موته بزيارتي ؛ وأن لا أفعل ذلك باستمرار ، وأحياناً ما أنساه في موته ، وهو لا يمل من إنتظاري .
أتي قارئ القرآن يتلو ما تيسر له ؛ فتوارى أبي من عينا القارئ وتجول خارج المدفن ؛ بينما أنا أتتبعه في تجواله بين الشجرات وأرنو إليه عبر البوابة الحديد المفرغة الأشكال التي تغلق المدفن بحجراته المتعددة على ساكنيه والذين كانوا هم أهلي وأقاربي من النساء والرجال وبعض من أنسباء العائلة تم إستضافتهم في الموت على الرحب والسعة .
كنت أسمع للمقرئ بنصف أذن يشغلني عنه تجوال أبي وخوفي أن يتوه في الدنيا بعد موت ؛ أو أن يصدمه شيء مما كان هو يكرهه في الحياة من قبل ، وكان يستطيع أن يصرفه ، فماذا سيفعل إذا صادفه وهو ميت ؟! .
كان تجوال أبي في الجوار الذي تغير كثيراً عن ما أصبح عندما سكن أبي القبر قبل سنوات نسيت عددها ؛ يقلقني وكأنه هو بالموت قد صار طفل صغير ، قد انطلق للسير وحده ، بعد أن أفلت يده من يدي ، ويشغلني عن تلاوة المقرئ للقرآن ؛ إنصرافي التام لحزن وشواغلي التي جئت أقتسمها مع أبي .
ختم القارئ تلاوته وقال ليّ : أترغب في أن أتلو شيئا محدداً ؛ فشكرته لكي أصرفه ؛ حتى يعاود أبي رجوعه وأستأنف معه حديثي الذي جئت من أجله والذي انقطع بمقدم قارئ القرآن الذي لم أنصت له تماماً والذي خجلت أن أصرفه بمجرد مجيئه وبدئه التلاوة .
لما عاد أبي وقد رأي المقرئ ينصرف ؛ فأنطلقت أشكو له : " لا توجد نقطة ماء في النهر ؛ لا دمعة في العين الآن يا أبي إلا بعصر الروح ؛ ليلي كنهاري ؛ فأنا حزين حتى الوحدة ووحيد حتى الحزن ، لا بصر يبصر ليّ ؛ ولا قلب ينبض ؛ ولا دم يجري في العرق . يموت الموت فيّ ؛ لا حياة : إنقطع النسل وانقطع النفس ؛ والتصق الجسد بالأرض ؛ فما عدت أطير ولو عرضاً . إدعوني لأنهض يا أبي ؛ ضاع مني العزم ، أنادي عليّ فلا أسمع وأنادي على أي أحد فلا يسمع .. أبتلع الخاطر والحلم ؛ فلا يعيش ليّ لا خاطر ولا حلم " .
" كنت أحاول أخيراً يا أبي أن أصنع شيئاً ويراودني الأمل : أصطف ؛ فيأتي من يصطف إلى جانبي ولكن حيث السير إلى اللا سير . أرفرف فلا يهتز ليّ جناح ولا يتحرك هواء . وأخيراً أشعر أن السكون لذة ؛ حيث اللذة بلا طعم ؛ يتجلط الحزن في شرياني وأهفو لنزيف : فلا دم !! لقد بدلوا الوطن : أخذوا الذهب وأعطونا " الفالصو" أضناني البحث عن "عشة " من حقيقة ؛ لا قصر من الوهم ؛ حتى الوطن كله ؛ وكل ما على أرضه أصبح بلا طعم ؛ بلا حزن صادق ؛ الموت الآن يا أبي بلا مشيعيين ؛ بلا من يستطيعون أن يدفنوا الحزن أو يكونوا رحماء بمن لم يمت منهم بعد " .
سمعني أبي حتى فرغت ، وقال بأسي ميت لم يستطع أن يكتم أساه ، ولكنه صار ناضجاً ، بحيث يستطيع أن يقدم نصيحة صائبة :
" لماذا تنقطع عن وصلنا ؟ .. لماذا تنقطع عن زيارتنا ؟! .. لقد صارت "أمك " لا تعرفك !! تسألني عنك وتقول أنها ما عادت تتذكرك وأنها لا تعرفك الآن بعد أن تبدلت أفعالك ؛ عما كنت تفعل حين كنت في رحمها ، وحين كنت في حضنها وحين كنت في حضانتها وحين كنت في رعايتها : لقد تهت وضعت بالتشابه مع آخرين لم يكونوا يوماً شبهاء لك ، ولم تكن أبداً شبيهاً لهم . لقد صرت عادياً وكأنك إنسان عادي ؛ حي عادي ؛ وربما تصير إذا مت ؛ تصير ميت عادي بلا روح وبلا وجود . عندما نفضنا عن أنفسنا تراب الأبدية الهائل ونزلنا معترك الحياة : لا مجبرين ولا راغبين ، وكنا نجهل المصائر ؛ وما ستصير إليه حياتنا من صراعات ، ومن عيش تحت الخطر ، الذي قد يأتي من داخلنا ؛ فقد بقيت الأيام " دائما حزينة " نعيشها بلا طعم ؛ غير طعم العدم ؛ إلا إذا أطلقنا لأنفسنا حريتها الفطرية وعشنا الحرية بتسامي وصدق ، وبيقين بأن العمر قد ينفد فجأة وقد ينفد نهائياً ، فحذار أن ينفد منك يا محمد .
وواصل موجهاً النصيحة المقصودة منه والتي كانت منسابة مغلفة أثناء حديثه :
"حتى ما يحصل الإنسان على ما يرغب من حرية ؛ إذا ما تصادمت حريته مع الآخرين قل لأخواتك وأصدقاءك الذين كنت أعرفهم أنا من خلالك : أطلقوا الرصاص جميعاً في وقت واحد ؛ إما أن تسقطوا جميعا صرعي وإما أن ينفد الرصاص ؛ فيبقي الصراع والحروب حبيسة الأشخاص دون أن تشتعل . الأشرار مجودون في كل الأنحاء ؛ وفي كل زمان وفي كل مكان ؛ وليسوا عالماً إفتراضي .. الشر موجود ليس كمعادل لعالم آخر على الأرض ؛ بل هو العالم السائد الذي يجب أن تسوى على فرضية وجوده كل الأوضاع " .
" حذار من أن تضاجع الدنيا وأنت على عجل ؛ سوف تفقد شهوتها منك إلى الأبد !! ولن يبقى لك إلا العجز عن أن تجد من يشتهيك ويرغبك ؛ رغبة الحاجة والإحتياج الشديد ؛ لا رغبة النزوة العابرة ؛ جد في أن تكون لذة الحاجة حتى تكون "العلاج " وحتى تصير الرغبة فيك ؛ هى الرغبة في التكرار أثناء المداومة . لا تضاجع الدنيا وأنت مُتلهف ؛ فسوف تفرغ تلهفك دون أن تستمتع ؛ ودون أن تبقي لنفسك ذكرى التمتع أو لذة المتعة " .
قلت لأبي : أنتظر من الذين أحبهم أن يحبونني أكثر وأكثر ، ولكن لا أحد يحبني قدر حبي له ؟! .
فقال أبي : ولا حتى نفسك ؟! .
فقلت له : إن الموت يغزوني في بطء وفي حسم وفي إصرار !! .
فقال : لو كان الموت يبغضك لغزاك في سرعة وفي غدر .. لماذا تقف تنتظر العاصفة في العراء ؛ ابحث لك عن ساتر تختبيء وراءه أو تختبيء فيه ؛ إنها سوف تبتلع كل الأشياء ؛ ولن يجدي إلا أصلب السواتر " .
فقلت له : إذا كانت العاصفة هى هكذا ؛ كما تصف ؛ فلن يجد معها أي حل سوف نؤتيه : أتقول ما تقول عن كشف للحجب ؛ أم أنك تواسيني يا أبي ؟! .
فقال : " لا تغلب العاصفة القوية الشديدة المستمرة إلا بالحيلة " .
كنت قد وصلت إلي المدافن حيث يسكن أبي وقت "صلاة الظهر" وقد ظللت ساعات طويلة مجهدة منذ لحظة إقراري سفري لأبي وحتى وصلت للقبر ، في عناء جسدي وعناء روحي . كانت رحلة حجي هذي من حيث أعيش ، وحتى مدينتي السابقة ومدينة طفولتي ومدينة أصدقاء أصدقاء عمري ، قد قررت لها لا نهاية ، وطال مكوسي حتى صلاة " المغرب" على معدة خاوية ؛ وقد أتى خادم المدافن ؛ يستطلع وجودي من عدمه ؛ فقد أثار مكوسي الطويل إستغرابه ؛ وقد ظللت بلا تناول طعام أو شرب أي شيء ؛ فلما وجدني حاضراً كهيئتي حين رآني في الظهيرة . قال ألا تريد شيئاً ؛ لقد أطلت هذه المرة .فقلت : "لقد إشتقت لهم " .. وكنت أعني كل من سبقوني إلي الرحيل مغادرين الدنيا من أهلي وأصدقائي ؛ إلى جانب أبي ؛ المعني الحقيقي بالزيارة . وقلت للحارس : سوف أظل قليلا ولن أبيت هنا بالطبع . فقال سوف أصلي " العشاء" في المسجد وأنام في منزلي المجاور للمسجد مباشرة ، لو احتجت شيئاً . شكرته فانصرف ، كان هو حفيد الحارس الأول الذي كان يحرس مقابر بلدتنا وقد توارث حراسة المقابر عن جده ثم عن أبيه .
وفور إنصرافه عاود أبي حديثه ليّ و قال :
قبل موتي بأعوام طويلة ؛ كنت قد رأيت سعادتي قد شاخت مني ؛ في عجلتي ؛ وقد أوصلني هذا إلى هرمي ؛ لقد شخت وهرمت وأصبحت بطعم المر لنفسي ولمن أراد أن يطعمني . كانت سعادتي قد شاخت مني ؛ لأني في مرتي الأولي ؛ قد ضاجعت الدنيا على عجل . ولكني أسترددت شبابي في الموت : أحيانا تكون النفس هى الصديق الوحيد ؛ تصالح مع نفسك يا محمد ؛ فهى ذاتها الدنيا التي تريد أن تراودها عن رغبتها فيك " .
فقلت له : أعترف لك يا أبي ؛ بما لا أستطيع أن أحدث أحداً به : لقد شاخت روحي فعلا ولم تفلح كل محاولات علاجي لها ولقد فقدت ذاكرة روحي ؛ فلم أفلح في إسترجاع شبابي وحتى دون أن أفلح في تذكر فترة شباب روحي الضائع مني . أريد أن أنام لأستريح في حضن ألف إمرأة محبة ولو كان هذا يخالف عرف الأديان . أريد أن أنام كي ما تكف خلايا جسمي عن أكل جسمي وأكل روحي ؛ فيحدث موت روحي . لا أريد أن أنام حتى أطلق روحي ؛ ولكي ما تكف روحي عن بعثرة روحي في كل حلم وفي كل زمن وفي كل آوان .
فقال أبي وكأنه يرى ما بداخلي ، دون أن أظهره أو أبوح به ، سواء له الآن أو سابقاً ، لم أبح له أو غيره :
- " تواصل مع روحك أنت تخاصمها وتود غيرها !!.. كيف وصلت إلينا ؟! .. لابد وأن نكون أولاد حي من حي : أنجبنا "حي أول " فلا تشغل نفسك بمن هو الحي المباشر لك ، ولكن إذا أردت أن تشغل نفسك بسلسلة الأحياء ؛ فأنت مولود من حي ؛ لا يموت ؛ لأنه مستمر في بعث الأحياء منه . لا تشغل نفسك بهذا السؤال :
" كيف وصلت الحياة إلينا إذاً ؛ فسوف يصرفك السؤال عن الوجود في الحياة ؛ وسوف يصرفك السؤال عن الإستمتاع بكونك حي " .
غفوت بجوار فتحة القبر المغلقة وقبل أن أفيق من غفوتي رأيت أبي في حلم يشاجرني ويصيح بي وسط زحام منمن لا أعرف ويقول لنا بغضب واضح في معالم روحه :
- " لستم أبنائي ؛ فلا تنسبوا أنفسكم ليّ كذبا وزوراً ؛ بل أنا من الروح الأول ؛ ولقد أنجبت لكم أباءكم وأباء أباءكم وأباء أباء أباءكم إلى مالا أذكر : أبحثوا عن أباءكم المباشرين وانتسبوا إليهم " .
صحوت بعد صلاة " الفجر" وقد بدأت الدنيا في التلألئ بضوء الصباح وصوت شدو يعلو جماعياً ؛ ثم يخفت لمجموعات العصافير التي تسكن أشجار المدافن ، وشعرت بيد تهزني في رفق وكأنها كانت تحاول إيقاظي لبرهة مضت ، كان هو حارس المدافن الذي نظر إليّ بأسي وقال : "لما فتحت فوهة القبر ؟! لما فتحت فوهة قبر أبيك بلا داعي !! " .
أفزعني هذا لأني لم أفعل . يقينا لم أفعل ؛ كنت جائعاً ومجهداً ولقد زاد فزعي عندما نظر الحارس ومعه "التربي" في داخل قبر أبي وقال ليّ : "جثمان أبيك غير موجود !!" .
صرخت فيهم : أين أبي ؟؟ .
فقالا ليّ : "نحن الذين نسألك ؟؟ .. لقد بت بلا داعي أمام القبر ؛ والآن فم القبر مفتوح وأبيك غير موجود ؛ فأين ذهب ؟! " .
عندما نظرت بعدهما إلى داخل القبر ولم أجد الجثمان ، وأنا الذي أمضى أمام القبر ؛ ليلته ساهراً ؛ إلا لحظات الغفو التي باغتتني ، وعندما وجدت القبر خالياً ؛ لم يساورني الشك في إختفاء الجثمان ولكن ساورني الشك في أن أبي قد مات أصلا .
محمد الصباغ
رغم تدفق حزني إلى داخلي ، ليملأ كل كياني ؛ وما نقص الحزن من حولي شيئاً ؛ فقد كان قد وحشني جداً وافتقدته جداً ، وصارت حياتي تدناقصة بعده ، وقد وجدته هو الآخر يفتقدني ، كما وجدته شاحباً مريضاً ربما ، كما كان مريضاً في سنواته الأخيرة من عمره الأول ، فقلت له لأواسيه قليلاً :
"قلبي معك ؛ إذ تعيش في مدينة الموت ، وسط الموتى ، دون أن تموت " .
.. كان قد مضى على موته أكثر من عشر سنوات ؛ ولكن على وجه التحديد لم تكن سنوات موته قد وصلت إلى الخمسة عشرة سنة . وكنت قد اعتدت أن أزوره كلما ضاق عليّ حزني ؛ وكلما قصدت بلدتنا ، وأظل في سكينة قبره ؛ ترفرف عليّ ظلال الأشجار الباسقة ، التي تلاصق المقابر وتحيط بها ، وتلطف من حرارة الجو ؛ مهما كانت درجة الحرارة في الخارج ؛ إذا ما كان الجو قيظاً، ولكنها لم تكن مؤثرة إزاء برودة الجو ، إذا ما كان الجو شتاء ، وكانت البرودة تأتي من داخل القبور ذاتها .
كان يتجاوب مع ما أقول فور أن يسمع مني الجملة الأولى ، التي تخصه بالسلام من بين كل الموتى الذين في المقبرة :
" واحشني يابابا " . وبمجرد أن أكف عن الإجهاش بالبكاء ؛ بعد أبلغه شوقي له بجملتي الثابتة منذ أن غادرنا أول مرة . كان هو سرعان ما يبدأ بتدفق ما عنده ويحبسه لي عنده منذ آخر زيارة ليّ له وحتى الزيارة الحاضرة ؛ كان يدفق ما عنده إلى روحي مباشرة ؛ وأسمع ما يقول بنفس الصوت الذي كان له ومازال محفوراً في سمعي وفي قلبي ؛ أسمع ما يقول بنفس الصوت الذي كان له ولكن الموت قد أضاف إلي صوته " رنيين صدق " كأن الصدق المطبق التام قد صار لصوته " صدي " وكان الموت قد أضاف لصوته رخامة في التدفق وكأنه صوت مجود يتلو "القرآن " فيصبح صوته وكأن الصوت من الإحاطة بيٌ ، وقد تحول إلى كونه قد أصبح " ملابس" أرتديها فوق ملابسي ؛ يدخل صوته إلى جسمي ، بعد ملامسته للحمي وجسدي ؛ فلا يسمعه إلا أنا ؛ ولا يفطن لحديثه معي ؛ إلا من يتتبع ؛ حركات وجهي وحركات يدي وسكنات شفتاي وضمهما وإنفراجهما وإرتخاء رجلي في مواجهة فواهة قبر أبي ؛ الذي إبتلع " أبي وصديقي " منذ سنوات طالت .
وصارت زياراتي له وحديثه معي ، هى دلالتي ، أنه مازال يحيا في الموت ، وأن موته ليس إلا نعاساً له ، يصحو من غفواته ، حين أزوره ، وقد صار هذاّ ، مؤلماً ليّ أني تأكدت أنني أحييه في موته بزيارتي ؛ وأن لا أفعل ذلك باستمرار ، وأحياناً ما أنساه في موته ، وهو لا يمل من إنتظاري .
أتي قارئ القرآن يتلو ما تيسر له ؛ فتوارى أبي من عينا القارئ وتجول خارج المدفن ؛ بينما أنا أتتبعه في تجواله بين الشجرات وأرنو إليه عبر البوابة الحديد المفرغة الأشكال التي تغلق المدفن بحجراته المتعددة على ساكنيه والذين كانوا هم أهلي وأقاربي من النساء والرجال وبعض من أنسباء العائلة تم إستضافتهم في الموت على الرحب والسعة .
كنت أسمع للمقرئ بنصف أذن يشغلني عنه تجوال أبي وخوفي أن يتوه في الدنيا بعد موت ؛ أو أن يصدمه شيء مما كان هو يكرهه في الحياة من قبل ، وكان يستطيع أن يصرفه ، فماذا سيفعل إذا صادفه وهو ميت ؟! .
كان تجوال أبي في الجوار الذي تغير كثيراً عن ما أصبح عندما سكن أبي القبر قبل سنوات نسيت عددها ؛ يقلقني وكأنه هو بالموت قد صار طفل صغير ، قد انطلق للسير وحده ، بعد أن أفلت يده من يدي ، ويشغلني عن تلاوة المقرئ للقرآن ؛ إنصرافي التام لحزن وشواغلي التي جئت أقتسمها مع أبي .
ختم القارئ تلاوته وقال ليّ : أترغب في أن أتلو شيئا محدداً ؛ فشكرته لكي أصرفه ؛ حتى يعاود أبي رجوعه وأستأنف معه حديثي الذي جئت من أجله والذي انقطع بمقدم قارئ القرآن الذي لم أنصت له تماماً والذي خجلت أن أصرفه بمجرد مجيئه وبدئه التلاوة .
لما عاد أبي وقد رأي المقرئ ينصرف ؛ فأنطلقت أشكو له : " لا توجد نقطة ماء في النهر ؛ لا دمعة في العين الآن يا أبي إلا بعصر الروح ؛ ليلي كنهاري ؛ فأنا حزين حتى الوحدة ووحيد حتى الحزن ، لا بصر يبصر ليّ ؛ ولا قلب ينبض ؛ ولا دم يجري في العرق . يموت الموت فيّ ؛ لا حياة : إنقطع النسل وانقطع النفس ؛ والتصق الجسد بالأرض ؛ فما عدت أطير ولو عرضاً . إدعوني لأنهض يا أبي ؛ ضاع مني العزم ، أنادي عليّ فلا أسمع وأنادي على أي أحد فلا يسمع .. أبتلع الخاطر والحلم ؛ فلا يعيش ليّ لا خاطر ولا حلم " .
" كنت أحاول أخيراً يا أبي أن أصنع شيئاً ويراودني الأمل : أصطف ؛ فيأتي من يصطف إلى جانبي ولكن حيث السير إلى اللا سير . أرفرف فلا يهتز ليّ جناح ولا يتحرك هواء . وأخيراً أشعر أن السكون لذة ؛ حيث اللذة بلا طعم ؛ يتجلط الحزن في شرياني وأهفو لنزيف : فلا دم !! لقد بدلوا الوطن : أخذوا الذهب وأعطونا " الفالصو" أضناني البحث عن "عشة " من حقيقة ؛ لا قصر من الوهم ؛ حتى الوطن كله ؛ وكل ما على أرضه أصبح بلا طعم ؛ بلا حزن صادق ؛ الموت الآن يا أبي بلا مشيعيين ؛ بلا من يستطيعون أن يدفنوا الحزن أو يكونوا رحماء بمن لم يمت منهم بعد " .
سمعني أبي حتى فرغت ، وقال بأسي ميت لم يستطع أن يكتم أساه ، ولكنه صار ناضجاً ، بحيث يستطيع أن يقدم نصيحة صائبة :
" لماذا تنقطع عن وصلنا ؟ .. لماذا تنقطع عن زيارتنا ؟! .. لقد صارت "أمك " لا تعرفك !! تسألني عنك وتقول أنها ما عادت تتذكرك وأنها لا تعرفك الآن بعد أن تبدلت أفعالك ؛ عما كنت تفعل حين كنت في رحمها ، وحين كنت في حضنها وحين كنت في حضانتها وحين كنت في رعايتها : لقد تهت وضعت بالتشابه مع آخرين لم يكونوا يوماً شبهاء لك ، ولم تكن أبداً شبيهاً لهم . لقد صرت عادياً وكأنك إنسان عادي ؛ حي عادي ؛ وربما تصير إذا مت ؛ تصير ميت عادي بلا روح وبلا وجود . عندما نفضنا عن أنفسنا تراب الأبدية الهائل ونزلنا معترك الحياة : لا مجبرين ولا راغبين ، وكنا نجهل المصائر ؛ وما ستصير إليه حياتنا من صراعات ، ومن عيش تحت الخطر ، الذي قد يأتي من داخلنا ؛ فقد بقيت الأيام " دائما حزينة " نعيشها بلا طعم ؛ غير طعم العدم ؛ إلا إذا أطلقنا لأنفسنا حريتها الفطرية وعشنا الحرية بتسامي وصدق ، وبيقين بأن العمر قد ينفد فجأة وقد ينفد نهائياً ، فحذار أن ينفد منك يا محمد .
وواصل موجهاً النصيحة المقصودة منه والتي كانت منسابة مغلفة أثناء حديثه :
"حتى ما يحصل الإنسان على ما يرغب من حرية ؛ إذا ما تصادمت حريته مع الآخرين قل لأخواتك وأصدقاءك الذين كنت أعرفهم أنا من خلالك : أطلقوا الرصاص جميعاً في وقت واحد ؛ إما أن تسقطوا جميعا صرعي وإما أن ينفد الرصاص ؛ فيبقي الصراع والحروب حبيسة الأشخاص دون أن تشتعل . الأشرار مجودون في كل الأنحاء ؛ وفي كل زمان وفي كل مكان ؛ وليسوا عالماً إفتراضي .. الشر موجود ليس كمعادل لعالم آخر على الأرض ؛ بل هو العالم السائد الذي يجب أن تسوى على فرضية وجوده كل الأوضاع " .
" حذار من أن تضاجع الدنيا وأنت على عجل ؛ سوف تفقد شهوتها منك إلى الأبد !! ولن يبقى لك إلا العجز عن أن تجد من يشتهيك ويرغبك ؛ رغبة الحاجة والإحتياج الشديد ؛ لا رغبة النزوة العابرة ؛ جد في أن تكون لذة الحاجة حتى تكون "العلاج " وحتى تصير الرغبة فيك ؛ هى الرغبة في التكرار أثناء المداومة . لا تضاجع الدنيا وأنت مُتلهف ؛ فسوف تفرغ تلهفك دون أن تستمتع ؛ ودون أن تبقي لنفسك ذكرى التمتع أو لذة المتعة " .
قلت لأبي : أنتظر من الذين أحبهم أن يحبونني أكثر وأكثر ، ولكن لا أحد يحبني قدر حبي له ؟! .
فقال أبي : ولا حتى نفسك ؟! .
فقلت له : إن الموت يغزوني في بطء وفي حسم وفي إصرار !! .
فقال : لو كان الموت يبغضك لغزاك في سرعة وفي غدر .. لماذا تقف تنتظر العاصفة في العراء ؛ ابحث لك عن ساتر تختبيء وراءه أو تختبيء فيه ؛ إنها سوف تبتلع كل الأشياء ؛ ولن يجدي إلا أصلب السواتر " .
فقلت له : إذا كانت العاصفة هى هكذا ؛ كما تصف ؛ فلن يجد معها أي حل سوف نؤتيه : أتقول ما تقول عن كشف للحجب ؛ أم أنك تواسيني يا أبي ؟! .
فقال : " لا تغلب العاصفة القوية الشديدة المستمرة إلا بالحيلة " .
كنت قد وصلت إلي المدافن حيث يسكن أبي وقت "صلاة الظهر" وقد ظللت ساعات طويلة مجهدة منذ لحظة إقراري سفري لأبي وحتى وصلت للقبر ، في عناء جسدي وعناء روحي . كانت رحلة حجي هذي من حيث أعيش ، وحتى مدينتي السابقة ومدينة طفولتي ومدينة أصدقاء أصدقاء عمري ، قد قررت لها لا نهاية ، وطال مكوسي حتى صلاة " المغرب" على معدة خاوية ؛ وقد أتى خادم المدافن ؛ يستطلع وجودي من عدمه ؛ فقد أثار مكوسي الطويل إستغرابه ؛ وقد ظللت بلا تناول طعام أو شرب أي شيء ؛ فلما وجدني حاضراً كهيئتي حين رآني في الظهيرة . قال ألا تريد شيئاً ؛ لقد أطلت هذه المرة .فقلت : "لقد إشتقت لهم " .. وكنت أعني كل من سبقوني إلي الرحيل مغادرين الدنيا من أهلي وأصدقائي ؛ إلى جانب أبي ؛ المعني الحقيقي بالزيارة . وقلت للحارس : سوف أظل قليلا ولن أبيت هنا بالطبع . فقال سوف أصلي " العشاء" في المسجد وأنام في منزلي المجاور للمسجد مباشرة ، لو احتجت شيئاً . شكرته فانصرف ، كان هو حفيد الحارس الأول الذي كان يحرس مقابر بلدتنا وقد توارث حراسة المقابر عن جده ثم عن أبيه .
وفور إنصرافه عاود أبي حديثه ليّ و قال :
قبل موتي بأعوام طويلة ؛ كنت قد رأيت سعادتي قد شاخت مني ؛ في عجلتي ؛ وقد أوصلني هذا إلى هرمي ؛ لقد شخت وهرمت وأصبحت بطعم المر لنفسي ولمن أراد أن يطعمني . كانت سعادتي قد شاخت مني ؛ لأني في مرتي الأولي ؛ قد ضاجعت الدنيا على عجل . ولكني أسترددت شبابي في الموت : أحيانا تكون النفس هى الصديق الوحيد ؛ تصالح مع نفسك يا محمد ؛ فهى ذاتها الدنيا التي تريد أن تراودها عن رغبتها فيك " .
فقلت له : أعترف لك يا أبي ؛ بما لا أستطيع أن أحدث أحداً به : لقد شاخت روحي فعلا ولم تفلح كل محاولات علاجي لها ولقد فقدت ذاكرة روحي ؛ فلم أفلح في إسترجاع شبابي وحتى دون أن أفلح في تذكر فترة شباب روحي الضائع مني . أريد أن أنام لأستريح في حضن ألف إمرأة محبة ولو كان هذا يخالف عرف الأديان . أريد أن أنام كي ما تكف خلايا جسمي عن أكل جسمي وأكل روحي ؛ فيحدث موت روحي . لا أريد أن أنام حتى أطلق روحي ؛ ولكي ما تكف روحي عن بعثرة روحي في كل حلم وفي كل زمن وفي كل آوان .
فقال أبي وكأنه يرى ما بداخلي ، دون أن أظهره أو أبوح به ، سواء له الآن أو سابقاً ، لم أبح له أو غيره :
- " تواصل مع روحك أنت تخاصمها وتود غيرها !!.. كيف وصلت إلينا ؟! .. لابد وأن نكون أولاد حي من حي : أنجبنا "حي أول " فلا تشغل نفسك بمن هو الحي المباشر لك ، ولكن إذا أردت أن تشغل نفسك بسلسلة الأحياء ؛ فأنت مولود من حي ؛ لا يموت ؛ لأنه مستمر في بعث الأحياء منه . لا تشغل نفسك بهذا السؤال :
" كيف وصلت الحياة إلينا إذاً ؛ فسوف يصرفك السؤال عن الوجود في الحياة ؛ وسوف يصرفك السؤال عن الإستمتاع بكونك حي " .
غفوت بجوار فتحة القبر المغلقة وقبل أن أفيق من غفوتي رأيت أبي في حلم يشاجرني ويصيح بي وسط زحام منمن لا أعرف ويقول لنا بغضب واضح في معالم روحه :
- " لستم أبنائي ؛ فلا تنسبوا أنفسكم ليّ كذبا وزوراً ؛ بل أنا من الروح الأول ؛ ولقد أنجبت لكم أباءكم وأباء أباءكم وأباء أباء أباءكم إلى مالا أذكر : أبحثوا عن أباءكم المباشرين وانتسبوا إليهم " .
صحوت بعد صلاة " الفجر" وقد بدأت الدنيا في التلألئ بضوء الصباح وصوت شدو يعلو جماعياً ؛ ثم يخفت لمجموعات العصافير التي تسكن أشجار المدافن ، وشعرت بيد تهزني في رفق وكأنها كانت تحاول إيقاظي لبرهة مضت ، كان هو حارس المدافن الذي نظر إليّ بأسي وقال : "لما فتحت فوهة القبر ؟! لما فتحت فوهة قبر أبيك بلا داعي !! " .
أفزعني هذا لأني لم أفعل . يقينا لم أفعل ؛ كنت جائعاً ومجهداً ولقد زاد فزعي عندما نظر الحارس ومعه "التربي" في داخل قبر أبي وقال ليّ : "جثمان أبيك غير موجود !!" .
صرخت فيهم : أين أبي ؟؟ .
فقالا ليّ : "نحن الذين نسألك ؟؟ .. لقد بت بلا داعي أمام القبر ؛ والآن فم القبر مفتوح وأبيك غير موجود ؛ فأين ذهب ؟! " .
عندما نظرت بعدهما إلى داخل القبر ولم أجد الجثمان ، وأنا الذي أمضى أمام القبر ؛ ليلته ساهراً ؛ إلا لحظات الغفو التي باغتتني ، وعندما وجدت القبر خالياً ؛ لم يساورني الشك في إختفاء الجثمان ولكن ساورني الشك في أن أبي قد مات أصلا .
محمد الصباغ