التجلي الأخير للنسيان !!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التجلي الأخير للنسيان !!

    قصة قصيرة i (الآن أتذكر )
    التجلي الأخير للنسيان !!

    بدأ الجزء القديم من حياتي يطفو فى ذاكرتى ، بعد أن توغل في النسيان ؛ طفا بفعل خاصية الصعود لأعلى لكل ما هو خفيف وسط محيط ثقيل ، كنت قد نسيت أنه قد توغل وسط النسيان الكثيف للذكريات والأشياء ؛ حتى أني فعلا كنت قد نسيته حتى عاد في طفوه الواثقةالمتئد البطيئ ، وبعد تسلل لطيف في البدء ، صار يفرض ظهوره علىّ لأتذكره عنوة ، وكرهاً ، وقد كرهت فقط عنف محاولاته لتذكره عنوة ، فليس لدىّ سبباً يُحملني كرهاً لذكرياتى وطفولتي وحياتي .. ولكن الإجبار على الذكرى مؤلم ومهين ، كما هو الإجبار على النسيان !! .

    جاء ماضيّ ليذكرني بأني كنت قد التصقت بجدتي لأمي ؛ مثلما التصقت بأمي ولكن جدتي استطاعت أن تربطني بها في الفترة التي عاشتها معنا حين كنت طفلاً وقد ماتت جدتي مبكرة فى طفولتي ، حين كنت سبباً مباشراً في موتها الأول الذي حدث وهى تحيا بيننا ، دون أن ندرك أن الموت يخطف والموت يغزو والموت يقتل الأحياء ، الأشد جمالاً بالنسبة لنا في الحياة !! .

    كانت جدتي ساحرة القص ؛ تطل على عالم خفيّ محيط بنا ولكنه محجوب عنا ؛ كانت جدتي تطل على هذا العالم وتأتيني منه بالحكايات التي لا تنتهي ، حتى أني أنا الصغير ، قد ظننت أن الله قد أعطاها مفاتيح خزائن الحكايات ؛ تقدمها لىّ مع وجباتي ؛ كشرط مني لكى أأكل ما يقدم ليّ دون معارضة وكانت جدتي تقدم ليّ الحكايات متى أطلبها وبشرط أيضاً أن تكون لحظتها راضية عني ؛ ولكى ترضى عني ؛ كنت لابد أن أكون طائعاً لها دون أدنى معارضة في أى شيء تطلبه مني لكى أنفذه لها ، تو سماعي طلبها .

    كانت حكايات جدتي تساوي في جمالها وقيمتها عندي وقتها وحتى الآن في لحظات حكيها الأول ، وفي لحظات تجليها ليّ الآن ، وتجلي النسيان عندي بعدما صرت الآن في عمر جدتي حين ماتت ، أو أكثر قليلاً مما عاشت ؛ كانت حكايات جدتي تساوي ثمناً باهظاً ؛ أضحي به ؛ لكي أفوز بالحكايات وهو ألا أوذي أحداً مني بكلمة أو حتى حرفاً ؛ قريباً كان الشخص أو غريباً عنا ؛ ولهذا كنت طائعاً لجدتي من أجل الحكايات ؛ كما كنت طائعاً لما تطلب لأني وجدت ؛ عدم الشر تجاه الآخرين جميلاً ؛ مثلما أيضاَ التلذذ بإذائهم جميلاً ؛ ولكني كنت أميل للجمال الأول غير المؤذىدي للآخرين .

    كنت قد خبرت من حكايات جدتي التي كانت تقصها عليّ لأنام أثناء قصها ؛ أن "الموتى الأشرار" لا ينامون ؛ وكي ما أهرب من طوافهم من حولنا فلابد أن أنام أنا ؛ وإذا نمت فلابد أن أفتح قلبي لكي تأتي ليّ "أرواح الموتي الطيبين المحبين " ؛ فإن أرواح الموتى الطيبين ؛ كما كانت تقول ليّ جدتي ؛ عادة ما تتجول في أحلام النائمين الصغار ؛ لتأتي لهم ببشارات السعادة ؛ التي سوف يخبرون بها الكبار ؛ فإذا ما أتت الأرواح ببشرى أو حلم ؛ فلابد أن أحفظه لها حتى أصحو فأحكيه لها ؛ فهو رسالة لها من أحبابها الذين ماتوا ، وعاشوا في غربة الموت ، يستبد بهم الحنين للأحياء ، ولكي يحيوا قليلاً من الحياة التي فاتهم أن يحيوها .

    كان هذا هو ما أكد ليّ منذ ذلك الحين ، أن الموت ندم كبير ، لا يموت بموت الموتي ، بل يكبر في الموت ، حتى يمل الميت من موته .

    كنت حريصاً على نقل ما يرسله لها أهلها الميتون من رسائل خلال أحلامي : فلما كنت أصحو ناسياً أحلامي ؛ فكانت تحتضنني وتقول :
    - " لا تنسى في المرة القادمة يا محمد ، ولا تضيع عمرك وأحلامك بالنسيان ؛ وتذكر أنه أثناء النوم ؛ تبحث اﻷرواح المحبة الهائمة ؛ عن أى صورة من صور التجلي والظهور لنا ؛ الموتى لا يموتون في الموت إلا إذا كانوا من غير المحبين أو فقدوا أحبابهم أو قد نسيهم أحبابهم ، لا تنس أبداً من تحبهم " .

    كانت جدتي طيبة عادة معي ولكني كنت أحاول أن أتمرد عليها أحياناً ، بنشوة الإحساس بأن التمرد والثورة من علامات الكبر في العمر والمكانة والقيمة ؛ فكنت أتمرد بألا أكون السلة الصغيرة التي تأتي من خلالها رسائل أقربائها الموتى إليها ؛ وكنت أتمرد لكي لا أكون مركب الأحلام الذى عليه أن يُبحر لكى ما يأتي لها بالأحلام الضائعة منها والأحلام الهائمة والتائهة في بحر النوم ؛ الذي علي أن أستسلم للدخول إليه متى أمرتني بذلك .

    كنت أخاف من أن أعتاد زيارات أقرباءها الموتى ليّ وقد قررت ألا أقوم بذلك في نوبة ثورة وتمرد ؛ لأني قد بدأت في الخوف من الإختلاط بهم ؛ فلما قلت لها مرتي الأخيرة القاتلة : " لا أحب أقرباءك ولا أحلامهم ولا حياتهم التي أطلع عليها وأراها ، كأني قد أصبحت واحداً منهم وأعيش معهم في موتهم ، أنا لا أريد أن أعيش في الموت يا جدتي " .

    لم تُكرر طلبها مني بالنوم لأجلها لأنها ماتت بعدها ، لا أذكر جيداً هذه النقطة الآن وسوف أعصر ذاكرتي المجهدة لأتذكرها : ربما ماتت في نفس الليلة أو بعدها بيوم واحد على الأكثر ، ولكني أذكر أني قد آلمتها جداً عندما قلت لها لحظتها :

    - " لماذا لا يزورنك أقاربك الطيبون أنت يا جدتي ، هل كنت تكرهينهم في حياتهم ، أم هم من كانوا يكرهونك؟؟ !! " .

    الآن أتذكر : لما حدثت جدتي عن رغبتي في عدم زيارة أقرباءها الموتى لأحلامي قبل موتها هى فقد انسحبت في هدوء وذهبت لتنام في مكانها المعتاد ؛ وبعدها صمتت ولم تتكلم ؛ فقد نمت وصحوت لأجدها قد ماتت أثناء نومي ؛ ماتت فعلاً ؛ في نفس المساء ؛ و
    فقد ظل ملازما ليّ الإحساس بالذنب ، طوال طفولتي ، عندما صحوت من نومي ووجدتها قد ماتت ، وقد تغير شكل الحياة في بيتنا وخيم الحزن والسواد وآتى الأهل والأغراب ، ففقدت خصوصية حياتي لأيام كثيرة بعد وفاتها . لم يبارحني الندم وكأنه يحدث بيّ موتاً متواصلاً ؛ أني بتمردي وبسؤالي لها عن سبب عدم تواصلها مع أقربائها الموتى ، فقد قتلت جدتي .

    لما تكررت الآن زيارات ذكرياتي عن جدتي وحياتها وموتها وأقربائها الموتى الأحياء ، التي كانت تتواصل معهم عن طريق زيارتهم لأحلامي . ولما تكررت زيارات ذكرياتي عن ماضي المنسي كله عنوة ، تأتي في عنوة شديدة وكأنها عاصفة وكأنها فيضان وكأنها طوفان ، تأتي عنوة ؛ وفي تدفق فيضاني لا يمكن وقفه ، فقد عشت في قلق بلا نوم وبلا أحلام ، أثناء لحظات النوم الخاطف القليلة جداً ، وتوجست بأن شيئاً خطيراً ، سوف يحدث في الحياة ، ليس حياتى أنا خاصة ، ربما في حياة كل الناس عامة ، بعد أن تسلحت الذكريات بسلاح الإجبار على الرجوع ، وتجرع عدم النسيان ، وقد أصبح للذكريات المنسية القدرة على الرجوع متى شاءت !! .

    محمد الصباغ
يعمل...
X