قصة قصيرة i بُعاد بعيد جداً ؟!
حين اختفت ، كطائرة لم تعد تظهر على شاشة الرادار ، في غرفة الرصد والمراقبة ، دون سبب مفهوم أو يمكن إدراكه بوضوع ، ولهذا فقد خاطبها قلب لقلب ، ووصل لعمر كان معاشاً في رضا ، ومودة كانت دائمة ، وحنين في القرب والبعد :
- " ربما تَمرين بظروف غير سعيدة فقلبي معك وكل مشاعري ؛ وربما تكونين في حال غير ما أظن فهنيئاً لك سعادتك بعيداً عني وهنيئاً لك محبتي الدائمة في قلبي ؛ محبتي التي لا تنفد مهما تباعدنا ؛ وهنيئاً لك سؤالي الدائم عنك ؛ ولكن لأن غيابك غير إعتيادي وحدث مزلزل في حياتي ، فقد حرك أشواقي التي تتكون منها حياتي والتي هى وقود حياتي : غيابك إثر بعادك حرك أشواقي ورغبتي في أن أراك حيث أنت ؛ فلا تكلفي نفسك عناء الحضور ومشقة الإستجابة لمن يرغب في أن يراكي وأن يستزيد من وجودك الذي ما شبع منه " .
كانت رسالته الأولى لها بعد أن إحتجبت عنه لمدة غير قصيرة ، وقد تكونت الرسالة داخله ؛ ولكنه لم يرسلها بأي من الطرق المعتادة لإرسال الرسائل بين البشر ؛ ولكن بمجرد أن تكونت الرسالة داخله وأطل عليها وراجع حرارة نصها وتأكد من المدى الذي تحوطه الرسالة من حياتهما السابقة المشتركة ؛ فقد وصلتها ، في سهولة أدهشته .
وقد جاوبته من فورها ؛ فقد كانت سرعة ومضة إضاءة الرسالة في قلبه قد أكدت له أنها مازالت على قيد الحياة ؛ تُرسل ومضاتها على قلبه على نفس التردد السابق لتبادل مشاعر الإتفاق والمودة والرغبة واللا كره بينهما ، وكأنها تراه من عل ، ومن حيث هى هناك !! .
ثم تٌحير إذا ما كان الموتى الأحياء يرسلون رسائلهم وما يَرغبون بأسرع مما يرسل الأحباء الأحياء ؛ وإذا هى كذلك فقد تكون ماتت ، ثم ترك الأمر بشأن بقائها على قيد الحياة أو كونها تحيا في الموت ؛ ترك الأمر تحسمه طبيعة الرسائل القادمة منها ؛ لتخبر عن نوع حياتها ؛ فقد كان يخشى هو نفسه ما بات يهدده : كون الوجود يتآكل بالموت وأن الموت يأكل الوجود ، وأننا ذاهبون إلى وجود مغاير في وقت ما .
وتفحص ومضة رسالتها في قلبه أولا ووجدها في أبلغ قوة إشارتها ، وهذا ما يعني أنها أقرب إليه مما يتصور ، وأنها حاضرة محيطة ، واستزاد من رسالتها فهماً ، بعدما كانت قد خلقت داخله المعنى تواً :
" أنا أُحَلق في سعادة تصعد بيّ لأعلى حيث يمكننا أن نصعد لفوق بآمان ودون خوف أو تردد ودون إحتياج لأجنحة أي أحد أو أي طائر ودون أن تستعين بأي شيء ؛ لقد أتيح ليٌ من مكاني فوق أن أرى الأشياء أوضح وأجمل وفي داخلها رائحتها ورائحة كنهها ؛ حتى ما كان منها قبيحاً أو كارهاً أو فاتراً ، أو بلا معنى ، كل الوجود هنا حقيقي ومكتمل : أدعوك أن تأتي ".
انبسط كل داخله ، بعدما أدرك منها أن وجوده لم ينتهي فيها ، وأن الوجود لم ينتهي وأنها يتخلق في وجود آخر ، بزمن خاص ، وبقوانين أزلية أخرى ، وقد شرع يجاوبها برسالة جديدة ، تصل الموصول فتعمقه ، فهي تعرف بقربها منه مثل كل هذا القرب التي هى فيه منه ، مدى حالته وكيف هو يكون ؟! وكيف هو كائن :
- " يلزمني وقت حيث يمكنني الرجوع من حيث أنا قد ذهبت . يلزمني وقت لنرى الحياة من بُعاد ؛ حيث يكون بمقدورنا بعد ذلك أن نلتقي ؛ بعد أن يجذب الُبعاد نفسه ؛ أحدنا إلى الآخر .
هل تذكرين ما كنت أردده لك في وقت الالتصاق والوحدة : "إن الإنسان مثل الشمع يذوب ولكن الإنسان يذوب ويتلاشى دون إحتراق ودون إحتراق فتلته السرية التي بها يتم الإشتعال وتواصل الإشتعال" .
فكنت تكملين ما أود قوله بنفس الكلمات الي كنت سأنطقها ، وبنفس المعنى المكتمل داخلي وترددي :
-- " يتلاشى ذاتياً ويذوب من تلقاء نفسه فى الفراغ ؛ مالم يتلقفه من يُعيد إيجاده فى الوجود " .
استكمل رسالته الثانية لها ، فقد ولد تواصلها فيه ، حياة جديدة له ومعاني أخرى له :
- "ربما بعض منا يتخلق من جديد فجأة أمام الآخر فنلتقي ؛ بعد أن يكون كل منا قد طَهر الآخر بالبعاد وكل منا قد طُهر في البعد ؛ أو يكون كل منا قد تطهر ذاتياً في البعاد وأصبح على موجة صدق وحب وشوق أقوى وأوضح وأكثر سهولة في إختراق الكون والأشياء وصمت الموت والموتى الصامتون ، والآخرين والوصول في سلامة إلى بعضنا البعض ؛ والوصول إلى نواة بعضنا ، حيث تصبح النواة هى الوجود الذي يرغبه كل منا للآخر . إن العقل حاضر وإن الروح في تجلي ؛ وهذا هو الوضع الأمثل في الحياة ؛ وهذه هى الحالة المثلى للحياة ، كما كان يتولد فيّ سابقاً ، وكما يتولد فيّ الآن وأنا أعاود الالتصاق بك : لا جنون ولا حرمان ولا عطش لما يروي أي نبتة أحزان ؛ لا دموع فقد " تجوهرت " الدموع في داخل العين التي أصبحت متحفاً لسابق الأحزان وقد تجوهرت الدموع في الحياة ، هى الحقيقة : "أنا الآن نار وأنا الآن نور " .
كانت المعاني التي بثها لها ، قد أوضحت له أنه بحساب الزمن المعتاد ، فإنها في مدار غير ثابت يدور من بعد ، فحين تقترب وحين تبعد بعداً سحيقاً ، وفي كل لحظة هى في حال .
ولكن لم يطل انتظاره ، في انتظار ومضتها الجديدة ، في وعيه وكيانه كله ، وقد جأت ومضتها وقد ردت عليه :
-- " أمازلت تحيا ؟ .. وفى أي مستوى من مستويات الكون أنت ؟ .. وفى أي مستوى من مستويات الحياة ؟ " .
لم يجاوب رسالتها الأخيرة ، لأنه صمت ، صمت الموتى الصامتون ، الذين يرون المصير فيلزمون الصمت ، إلى أن يتحقق المصير ؟! .
محمد الصباغ
حين اختفت ، كطائرة لم تعد تظهر على شاشة الرادار ، في غرفة الرصد والمراقبة ، دون سبب مفهوم أو يمكن إدراكه بوضوع ، ولهذا فقد خاطبها قلب لقلب ، ووصل لعمر كان معاشاً في رضا ، ومودة كانت دائمة ، وحنين في القرب والبعد :
- " ربما تَمرين بظروف غير سعيدة فقلبي معك وكل مشاعري ؛ وربما تكونين في حال غير ما أظن فهنيئاً لك سعادتك بعيداً عني وهنيئاً لك محبتي الدائمة في قلبي ؛ محبتي التي لا تنفد مهما تباعدنا ؛ وهنيئاً لك سؤالي الدائم عنك ؛ ولكن لأن غيابك غير إعتيادي وحدث مزلزل في حياتي ، فقد حرك أشواقي التي تتكون منها حياتي والتي هى وقود حياتي : غيابك إثر بعادك حرك أشواقي ورغبتي في أن أراك حيث أنت ؛ فلا تكلفي نفسك عناء الحضور ومشقة الإستجابة لمن يرغب في أن يراكي وأن يستزيد من وجودك الذي ما شبع منه " .
كانت رسالته الأولى لها بعد أن إحتجبت عنه لمدة غير قصيرة ، وقد تكونت الرسالة داخله ؛ ولكنه لم يرسلها بأي من الطرق المعتادة لإرسال الرسائل بين البشر ؛ ولكن بمجرد أن تكونت الرسالة داخله وأطل عليها وراجع حرارة نصها وتأكد من المدى الذي تحوطه الرسالة من حياتهما السابقة المشتركة ؛ فقد وصلتها ، في سهولة أدهشته .
وقد جاوبته من فورها ؛ فقد كانت سرعة ومضة إضاءة الرسالة في قلبه قد أكدت له أنها مازالت على قيد الحياة ؛ تُرسل ومضاتها على قلبه على نفس التردد السابق لتبادل مشاعر الإتفاق والمودة والرغبة واللا كره بينهما ، وكأنها تراه من عل ، ومن حيث هى هناك !! .
ثم تٌحير إذا ما كان الموتى الأحياء يرسلون رسائلهم وما يَرغبون بأسرع مما يرسل الأحباء الأحياء ؛ وإذا هى كذلك فقد تكون ماتت ، ثم ترك الأمر بشأن بقائها على قيد الحياة أو كونها تحيا في الموت ؛ ترك الأمر تحسمه طبيعة الرسائل القادمة منها ؛ لتخبر عن نوع حياتها ؛ فقد كان يخشى هو نفسه ما بات يهدده : كون الوجود يتآكل بالموت وأن الموت يأكل الوجود ، وأننا ذاهبون إلى وجود مغاير في وقت ما .
وتفحص ومضة رسالتها في قلبه أولا ووجدها في أبلغ قوة إشارتها ، وهذا ما يعني أنها أقرب إليه مما يتصور ، وأنها حاضرة محيطة ، واستزاد من رسالتها فهماً ، بعدما كانت قد خلقت داخله المعنى تواً :
" أنا أُحَلق في سعادة تصعد بيّ لأعلى حيث يمكننا أن نصعد لفوق بآمان ودون خوف أو تردد ودون إحتياج لأجنحة أي أحد أو أي طائر ودون أن تستعين بأي شيء ؛ لقد أتيح ليٌ من مكاني فوق أن أرى الأشياء أوضح وأجمل وفي داخلها رائحتها ورائحة كنهها ؛ حتى ما كان منها قبيحاً أو كارهاً أو فاتراً ، أو بلا معنى ، كل الوجود هنا حقيقي ومكتمل : أدعوك أن تأتي ".
انبسط كل داخله ، بعدما أدرك منها أن وجوده لم ينتهي فيها ، وأن الوجود لم ينتهي وأنها يتخلق في وجود آخر ، بزمن خاص ، وبقوانين أزلية أخرى ، وقد شرع يجاوبها برسالة جديدة ، تصل الموصول فتعمقه ، فهي تعرف بقربها منه مثل كل هذا القرب التي هى فيه منه ، مدى حالته وكيف هو يكون ؟! وكيف هو كائن :
- " يلزمني وقت حيث يمكنني الرجوع من حيث أنا قد ذهبت . يلزمني وقت لنرى الحياة من بُعاد ؛ حيث يكون بمقدورنا بعد ذلك أن نلتقي ؛ بعد أن يجذب الُبعاد نفسه ؛ أحدنا إلى الآخر .
هل تذكرين ما كنت أردده لك في وقت الالتصاق والوحدة : "إن الإنسان مثل الشمع يذوب ولكن الإنسان يذوب ويتلاشى دون إحتراق ودون إحتراق فتلته السرية التي بها يتم الإشتعال وتواصل الإشتعال" .
فكنت تكملين ما أود قوله بنفس الكلمات الي كنت سأنطقها ، وبنفس المعنى المكتمل داخلي وترددي :
-- " يتلاشى ذاتياً ويذوب من تلقاء نفسه فى الفراغ ؛ مالم يتلقفه من يُعيد إيجاده فى الوجود " .
استكمل رسالته الثانية لها ، فقد ولد تواصلها فيه ، حياة جديدة له ومعاني أخرى له :
- "ربما بعض منا يتخلق من جديد فجأة أمام الآخر فنلتقي ؛ بعد أن يكون كل منا قد طَهر الآخر بالبعاد وكل منا قد طُهر في البعد ؛ أو يكون كل منا قد تطهر ذاتياً في البعاد وأصبح على موجة صدق وحب وشوق أقوى وأوضح وأكثر سهولة في إختراق الكون والأشياء وصمت الموت والموتى الصامتون ، والآخرين والوصول في سلامة إلى بعضنا البعض ؛ والوصول إلى نواة بعضنا ، حيث تصبح النواة هى الوجود الذي يرغبه كل منا للآخر . إن العقل حاضر وإن الروح في تجلي ؛ وهذا هو الوضع الأمثل في الحياة ؛ وهذه هى الحالة المثلى للحياة ، كما كان يتولد فيّ سابقاً ، وكما يتولد فيّ الآن وأنا أعاود الالتصاق بك : لا جنون ولا حرمان ولا عطش لما يروي أي نبتة أحزان ؛ لا دموع فقد " تجوهرت " الدموع في داخل العين التي أصبحت متحفاً لسابق الأحزان وقد تجوهرت الدموع في الحياة ، هى الحقيقة : "أنا الآن نار وأنا الآن نور " .
كانت المعاني التي بثها لها ، قد أوضحت له أنه بحساب الزمن المعتاد ، فإنها في مدار غير ثابت يدور من بعد ، فحين تقترب وحين تبعد بعداً سحيقاً ، وفي كل لحظة هى في حال .
ولكن لم يطل انتظاره ، في انتظار ومضتها الجديدة ، في وعيه وكيانه كله ، وقد جأت ومضتها وقد ردت عليه :
-- " أمازلت تحيا ؟ .. وفى أي مستوى من مستويات الكون أنت ؟ .. وفى أي مستوى من مستويات الحياة ؟ " .
لم يجاوب رسالتها الأخيرة ، لأنه صمت ، صمت الموتى الصامتون ، الذين يرون المصير فيلزمون الصمت ، إلى أن يتحقق المصير ؟! .
محمد الصباغ