كتبت الأديبة والصحفية المتميزة أمينة عباس عن مجموعتي المسرحية الصادرة حديثا عن الهيئة السورية العامة للكتاب بعنوان (من المسرح الشعري: ترنيمة حب و أغنية المسافر الوحيد) كتبت في جريدة البعث السورية ما يلي وشكراًلها.
صدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب للمسرحي عبد الفتاح قلعه جي، كتاب بعنوان “من المسرح الشعري”، في الوقت الذي يغيب فيه هذا النوع من المسرح، كتابة وعرضاً، عن خشبات مسارحنا، وضمّ الكتاب مسرحيتين شعريتين هما “ترنيمة حب” و”أغنية المسافر الوحيد” تنتظمان في عمق التجريب على التراث، وصولاً إلى تأصيل هوية المسرح العربي عامةً والسوري خاصةً، والمسرحيتان تعالجان إحدى أكبر القيم الإنسانية وهي الحب الذي يكمن فيه سرّ استمرار الوجود البشري.
الإيقاع الداخلي الخفي
وعن غياب المسرح الشعري في وقتنا الحالي وازدهاره في فترة من الفترات، بيّن قلعه جي في تصريح لـ “البعث” أن الشعر كان هو الأصل ومنه انبثق المسرح، وأن الشعر منذ العهود الكلاسيكية اليونانية وحتى أواخر العهد الوسيط كان لغة المسرح، وبه كُتب، وكان الناس يحضرون المسرح الشعري لغايتين هما الاستمتاع بإنشاد الشعر ورؤية الحكاية المسرحية، ومع المسرح الحديث زالت دولة الشعر لغة في المسرح وحلّ محلها التعبير اللفظي بالنثر أو الجسدي في المسرح الراقص والحركي، والسبب برأيه هو أن الذين كانوا يكتبون للمسرح هم الشعراء الكبار، أما اليوم فقد تسيّد كتّاب النثر الساحة الشعرية، موضحاً أن المسرح الشعري عندنا مرّ بتجارب، أولاها كانت مع أحمد شوقي والقصيدة العمودية ولم يستمر بها لعدم ملاءمتها للشرط المسرحي، ثم كان شعر التفعيلة وقد ابتدعها علي أحمد باكثير وكانت أكثر ملاءمة، ومع تطور العرض وشروطه الحديثة وتبدل أذواق الجمهور أصبح شعر التفعيلة في المسرح غير مستحب برأي قلعه جي بسبب إضراره بإيقاع العرض، وخاصة عند الشعراء الذين لا يفرقون بين الشعر المنبري والشعر المسرحي، فجاء منجزهم للنص المسرحي مصاباً بالترهل ويطغى عليه الإنشاد والترنم أكثر من الالتفات إلى البناء المشهدي، ومع سيادة قصيدة النثر أصبح بعض كتّاب المسرح من الشعراء يعتمدون الشاعرية التي يسميها قلعه جي إيقاع النبض أو الإيقاع الداخلي الخفيّ الذي يعطينا إحساساً طاغياً بأن ما نسمعه هو شعر، لكن هذه الشاعرية برأي قلعه جي لا تُعلَّم ولا تُحدّ، فالقارئ أو المتفرج يحسّ بمدى العذوبة ويخال العرض كتب بلغة الشعر تقليدي الأوزان بفضل الإيقاع الخفي، مؤكداً أننا اليوم بحاجة إلى شاعر مسرحي متمكن من أدواته وحداثته في المسرح ومتمكن من قدرته الشعرية والشاعرية لتوظيفها لغة حداثية جذابة في عمارة مسرحية جديدة شكلاً ومضموناً ليعود المسرح الشعري إلى ألقه وجاذبيته.
قارئ خاص باحث عن مغامرة
يضمّ كتاب “من الشعر المسرحي” مسرحية “ترنيمة حب – ليلى وتوبة” ومسرحية “أغنية المسافر الوحيد – ليلى والمجنون”، وبيّن قلعه جي أن الأولى نموذج للعمل على التراث الأدبي وعرضٌ لجانب من حياة أميرة الشعر في صدر الإسلام ليلى الأخيلية التي كانت سفيرة قومها لدى الملوك والولاة، وإظهار لمكانة امرأة متفرّدة بشعرها ومزاياها وجرأتها في التعبير عن عواطفها وإصرارها على الجهر بالحب واللقاء العفيف بالحبيب ورثائها له بعد مقتله، في حين أن مسرحية “أغنية المسافر الوحيد- ليلى والمجنون” النموذج الثاني في التعامل مع التراث والذي لم يَرِد نظيره حسب علم قلعه جي في أدبيات مسرحنا، حيث فيه انزياح تام للشخصيات الرئيسية قيس وليلى من فضائهما الروائي الواقعي إلى فضاء آخر متعال، فيبدوان وكأنهما يسبحان في الملكوت في رحلة طويلة نحو عالم الكمال والحبيب الأعلى، موضحاً أنها مسرحية سلوكية عرفانية، فقيس هو السالك في طريق المعرفة بهدي من حبيبته ليلى ليصيد بعض الكماليات السلوكية والأخلاقية المعرفية من كبار الشخصيات التاريخية التي يلتقيها ليصل في النهاية إلى مرتبة الإنسان الكامل ويتحد بمحبوبته ليلى ككائنين نجميين ليصبحا كائناً واحداً مؤهلاً للقاء الحبيب الأعلى، منوهاً بأن “أغنية المسافر الوحيد” لا يعتمد في بنيتها الإيقاعية على إيقاعات التفعيلة الشعرية الظاهرية وإنما إيقاع النبض، أي الإيقاعات الخفية الداخلية، وهي المكوّن الأساس في قصيدة النثر التي تحملها الأخيلة والصور والسرد المشعشع والبناء اللغوي والدرامي والعبارات المشحونة درامياً بشحنات الوجد النفسية، مؤكداً أن هذه المسرحية نوع متفرد من أدب الرحلات الخيالية، تتوجّه إلى قارئ خاص باحث عن مغامرة الفكر والروح.
ضرورة العودة إلى التأصيل
وتقديماً لهاتين المسرحيتين كان قلعه جي قد أشار إلى أنه ومنذ سبعينيات القرن الماضي كانت هناك حركة واسعة للتأصيل لمسرح عربي، وكان التراث من أهم موارد هذه الحركة، بالإضافة إلى التاريخ والواقع المتصيّر والمأمول ومرتكزات الوعي الجمالي العربي، وكان هو مع مجموعة من الكتّاب المسرحيين والباحثين يعزفون على أوتار متعددة من التراث، ليلتقوا في لحن واحد هو التأصيل لمسرح عربي الهوية، ولكن مع سيادة العولمة واختراقاتها والحداثة وما بعدها، ومع احتلال المخرج ثم السينوغراف فالكريوغراف مكان المؤلف المسرحي وإزاحته عن الخشبة والدعوة إلى موت المؤلف وسيادة ألوان من المسرح لا تغني النص بل تقزمه أو تلغيه كالمسرح الراقص والحركي ومسرح التعبير بالجسد بدلاً من الكلمة، فقد أدى ذلك إلى اختفاء الموضوعات الوطنية والقومية وذات الخصوصية الاجتماعية في إرساء هوية عربية للمسرح، فبدأتْ شمس التأصيل تغرب، وتوقفت البحوث والعروض المسرحية الكبيرة فيه، وبعد الحال التي وصلتْ إليها أمتنا والانكسارات والهزائم والصراعات الداخلية التي يؤجّجها الغرب على مساحة الوطن الكبير، وبعد تفتت الهوية الواحدة إلى هويات متعددة متناحرة، والاختراقات الواسعة التي حققتها تلك القوى اللاإنسانية باستعمالها القوتين الناعمة ومنها المسرح والفنون والآداب الأخرى، والتقليدية الشرسة مع الغزو المباشر إعلامياً وثقافياً يجد المسرحيون الغيورون على وجودنا وهويتنا ضرورة العودة مجدداً إلى ساحة معركة التأصيل بدعم من المؤسسات الثقافية.
أمينة عباس