مجرد مشاهد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مجرد مشاهد

    مجرد مشاهد
    المشهد الأول:
    يوم ممطر، سحب داكنة ثقيلة تغطي الافق . رياح قوية ومطر ينزل مدرارا سخيا من رحم السماء. طفل لا يتجاوز ربيعه الثاني يقف في العراء وهو يبكي. أمامه أمه وأبوه يتخاصمان، يصيح أحدهما في وجه الأخر، لا يسمع صيحاهما. يذوب صوتهما الخانق في صوت الرياح العاصفة . ما سر عراكهما ، وما الذي جعل الغضب يستبد بهما إلى درجة أنهما لم يأبها لبكائه وصراخه، بل نسيا وجوده تماما.
    تبللت ملابسه، وغرق صندله في الوحل. امتزجت الدموع بالمطر على خديه الناعمين، كأن السماء كانت تشاطره بوابل المطر حزنه وبكاءه. المشهد الماثل أمامه كان يعنيه، كان متأكدا أن الطفل الذي يراه ليس سوى صورته عندما كان صغيرا. ما هي المسافة الزمنية التي تفصله عن هذه اللحظة. لا ديري ، كل ما يعلمه أن ما كان يراه أمامه كان أول حادث مأساوي في حياته، مشهد سيسم حياته مع كل ما سيليه من مشاهد مماثلة بآلام نفسية لا زال يعاني منها حتى الآن.
    المشهد الثاني:
    فجأة اختفى المشهد، اختفى الطفل ووالداه تبخروا في سديم العدم، ليظهر مشهد أخر نقيض المشهد الاول تماما. بدا له شيخ في خريف العمر، يجلس على كرسي من الخيزران في حديقة أرضها معشوشبة بها أشجار برتقال. أمامه منضدة خشبية بقوائم قصيرة عليها طبق من الفواكه ، وامرأة في عقدها الثالث، بيدها سكين .تقشر له تفاحة، تحدثه بلطف، وهي تبتسم.
    لم يراوده شك في أن ذلك الشيخ، هو صورة له في مستقبل بعيد. وكما كان مقتنعا أن الطفل الذي رآه يبكي ووالداه يتعاركان أمامه، ينتمي إلى بقايا صور لطفولة بئيسة عاشها، ولا زالت شظاياها عالقة بين تلافيف دماغه حتى اللحظة. فقد حدس أن ذلك الشيخ الماثل أمامه، هو ذلك الطفل الذي امتد به العمر ألى أن بلغ أرذل العمر . تساءل هل حقا سيعيش إلى أن يصبح شيخا هرما كما يشاهد نفسه الآن. لم يستطع الإجابة عن هكذا سؤال، لكنه كان مقتنعا أن الطفل والشيخ، كانا شخصا واحدا. وانهما معا صورتين له، واحدة في الماضي والثانية في المستقبل.
    ما أثار انتباهه بشكل لافت، هو أن محيى الشيخ كان لا يزال يحمل نفس مسحة الحزن التي رآها على وجه الطفل. جراح الطفولة لازالت تسكن فؤاد الشيخ رغم بلوغه سن الهرم . انكسار النفس الذي تسبب فيه والداه، ها هو يراه مرسوما على ملامحه وهو في سن الشيخوخة. وتلك السيدة التي تعتني به من تكون، هل هي ابنته أو قريبته لا يدري.
    المشهد الثالثة:
    عادت صورة الطفل للظهور، لم تختف صورة الشيخ، اكتملت صورة الاحجية. ما أضيف للمشهد الثالثة، هو احساسه بذاته. رأى نفسه يقف على بعدي مسافة متماثلة ما بين الطفل والشيخ. طفق ينظر تارة نحو الولد ، ثم تارة أخرى إلى الشيخ. من حيث الشكل لم يكن يجمعه مع هذين الكائنين أي تشابه، لكن حزنا عميقا ، كان القاسم المشترك الذي يجمعه معهما، هو ذلك اليقين أنهما صورتان له . كان بدوره يحمل نفس الألم النفسي ، الذي كان ينعكس في مق الطفل والشيخ، يحمله كحجر سيزيف وهو يسير على درب الحياة. اقتنع بعد تفكير غير قصير، أن المشهدين لم يظهرا أمامه هكذا سدى، بل من أجل هدف معين. ما هو هذا الهدف، ما هي الرسالة؟ لم يطل به التفكير، ليصل إلى قناعة أن المشهدين ظهرا له، كفرصة ثانية منحت له كي يصحح الأشياء. أصبح بإمكانه أن ينقد الطفل من عذابه، وان ينقد نفسه أيضا، ليعيش أذا أفلح في ذلك من عيش شيخوخة سعيدة. تمكنت منه ه قناعة ، أن لا علاج له وللشيخ، الا بعلاج الطفل، وانتشاله من براثن تلك اللحظة الأليمة، التي جعلته ينكسر وهو هش ، لم ينه نصف عقده الأول.
    وقبل أن يقر ما الذي عليه فعله، تساءل وهو يتأمل مرة أخرى الفتاة التي تجلس إلى جوار الشيخ ، هل تزوج أم أنه لا يزال أعزبا نكاية في نموذج زيجة والديه ، التي دمر فشلها حياته. بدأ يميل ألى فكرة أن تلك الفتاة قد تكون ابنته. همس لنفسه، وعلى افتراض أنها ابنتي، فهل هذ الابنة هي كل ما انجبته أم لدي أولاد أخرين . لم يستطع الإجابة عن سؤاله. ما كان مقتنعا به هو أنه عاش طويلا إلى أن سئم تكاليف الحياة. المشهد الثاني يقر بذلك.
    الحقيقة أنه لم يكن من هواة العيش الطويل. أرذل العمر بالنسبة له مرحلة مقيتة. لا يحبذها لأن الانسان فيها يتحول الى مجرد شيء، مثله مثل أي قطعة أثاث في البيت. تموت رغباته وأمانيه، ينتظر لحظة المغادرة كأخر أمنية له في الدنيا. الرحيل المبكر شرف للذات. يشبه موت الفارس في ساحة الوغى . هذا كان رأيه، الذي لا شك أن الكثيرين لا يتفقون معه فيه. وهذا أمر طبيعي، لأن الانسان مجبول على حب الدار الفانية.
    فجأة، أطلق ساقيه للريح، في اتجاه الطفل، تمنى وهو يجري بكل ما أوتي من عزم وقوة، أن يصل إلى حيث يقف الطفل وهو يبكي. إذا تمكن من ذلك، لا شك أنه سيتمكن من تصحيح الأمور بين الأبوين الأرعنين ، ويعيد إليهما المودة والرحمة، وبذلك يجنب الطفل معاناته التي ستترتب عليها معاناته يافعا وكهلا ثم شيخا.
    راح يعدو كالمجنون نحو الفتى، تذكر قول أحدهم أن السرعة القصوى تمكن من اختراق الزمن، فهل سيتمكن حقا من اختراقه والو صول هدفه ليغير مصيره.
    -عزيز أمعي
يعمل...
X