قصة قصيرة i المدينة السوداء
كانت قد اسودت المدينة التي عاش فيها كل أيام حياته ؛ وكانت قد اسودت نظرته التي يرآها بها ؛ ويرى بها شخوص حياته وعاداته منذ أن يستيقظ وحتى ينهي يومه بالنوم المتأخر في ساعات الفجر التي تشق طريقها نحو اليوم الجديد .
وكان من وراء تراكم المرارات ؛ بعضها فوق بعض ؛ وتعمقها في داخله ؛ أن تداخلت كل العوالم بالنسبة له فقد كان الشك يخالجه أن يكون قد أصيب بداء الوهم والإستغراق في الذاتية والخيال ؛ بعدما أصبح في ظنه أنه مطارداً أمنيا إلى جانب كونه مطارداً شخصياً من شخوص حياته كلهم مرة واحدة ، تطارده الصورة المثلى والصورة المقبولة التي يجب أن يكون عليها في نظرته إلى نفسه ومن وجهة نظر الآخرين . ولما خالجه مزيد من الشك أنه قد أصبح مطارداً في ظلام مدينته وفي فجرها وفي ضحاها ومغربها وفي كل ظلام يحدث من حوله ؛ أصبح هذا الهاجس في حد ذاته مطارداً له مؤرقاً له في صحوه وفي منامه .
وأصبح ذات يوم لديه اليقين بشعور أنه قد أصبح مطارداً من الموت نفسه ؛ يترصده الموت ويتسلل إليه ؛ ويُجد في التفتيش عنه من بين الأحياء ، فبات متوجساً من كل شيء ؛ وخال نفسه متوجساً لأنه استقر داخله أنه مطارد منذ زمن وأنه لم يدرك نفسه مطارداً إلا صبيحة ذلك اليوم الذي أدرك فيه أنه مطارد وأنه بين لحظة وأخرى قد يفقد حريته لفترة غير محددة مجهولة وربما أيضا يفقد حياته على الأرجح بعد تقييده ؛ وربما يفقد حياته إذا ما ظفر الموت بالوصول إليه .
إستطاع بعد فترة أن يتغلب على شعور مطاردة الموت له ؛ بأنه إلى الآن ؛ هو المنتصر في مطاردة الموت له ؛ ولكنه لم يفلح في تنحية استسلامه القاهر بأن باقي المنغصات له مازالت تطارده وقد بات يخشى أكبرها إفساداً للحظات حياته بأنه مؤكد أنه مطارداً أمنيا مرفوض سياسيا ؛ ملفوظ اجتماعياً لكونه ناقماً ضد الوجود ذاته وضد نظام الحكم في بلده ؛ ولما تأكد أنه أصبح مطارداً فعلاً بعد أن عجز عن مبارحة الشعور بأنه في أي لحظة ستحط على كتفيه يد غليظة تؤكد سقوطه في المطاردة التي بدأت دون بداية ؛ ولما بارح الظن أن الإستغراق في الشعور بأنه غارق في المطاردة قد أصبح كل حياته ؛ أتاه بعض الشعور بالراحة لأنه استطاع أن يكشف لنفسه أنه مطارد قبل أن يطبق عليه المطاردون .
وزاد شعوره بالثقة في قدراته بعدما بارح الظن إلي الاستقرار في اليقين أنه مطارد . وقرر بإرادته أن يعيش مطارداً مشرداً ، خير من أن يعيش مقيداً ؛ لا يحصل على الحد الأدنى من الآمان داخله ومن حوله . وبعدما عاش لفترة خائفاً داخل منزله ؛ خائفاً أثناء نومه خائفاً خارج بيته ؛ مل من الظلام الذي يراه بعينيه دون أن يحل الظلام بعد في نفس يومه ؛ ومل نفسه ومن الهواء الذي حوله ومن الطعام القليل الذي أصبح يحصل عليه ، ومن النوم المتقطع الذي لا يسيطر فيه على نفسه وعلى إداراته للمطاردة ، بل أنه مل مدينته السوداء ، التي أظلمت داخله وخارجه ، وأصبح يحصل على النور الذي يجعله يمشي في شوارعها بمنتهى الصعوبة وبأبهظ كلفة يدفعها من حياته .
ولما تأكد أن سلس البول الذي أصابه مؤخراً ونقاط الماء الساخنة التي تحرق قضيبه ، تحدث له من أثر إجهاده من المطاردة ؛ حاول بكل قدرته أن يقلل مخاوفه من إحساسه بخطر المطاردون له ؛ فكان يختبيء داخل الخوف نفسه وكان يتنكر في هيئة المطاردين ؛ ليختبيء منهم فيهم ؛ بل قرر أن يطاردهم هو ؛ حتى يستمر في الشعور بلذة المطاردة إذا ما تعبوا هم أو ملوا من ملاحقته .
في ذروة شعوره بخطر المطاردين ؛ اكتشف أنه أيضا مطارد من داخله وأن بعضه يأكل بعضه وفي ذروة هذه الحرب التي هو واقع فيها ؛ التقطته أو إلتقطها ، لم يكن هذا شيئاً مهماً بالنسبة له ؛ المهم أنه وجد بعض الآمان وقرر أن يهرب إليها .
قال لها : "أحتاج أن أهرب فيك وأن أهرب إليك وأن أهرب من حولك وأن أهرب داخلك وأحتاج أن أختبأ لديك وأن أختبأ فيك " .
فلما وجدها مرحبة راضية به ، عاشا المطاردة السرية معاً ؛ ما يطارده من خارجه وما يطارده من داخله وعاشا الإختباء سوياً وعاشا مطاردة الخوف من المطاردة والمطاردين ومغامرة أن يطاردوا المطاردون أحياناً ؛ سوياً .
جرب كل الإختباءات معها وجرب كل الإختباءات فيها : عندما جربا أن يختبأ في عينيها ؛ وجدا أنه في عينيها كان مكشوفا ، وفي دلاية عقدها كان ظاهراً منه وجهه ، فكان الأئمن له أن يختبأ بين نهديها وأن يحتويه إنضمام ثدييها أو يختبأ بين فخذيها ؛ وفي تجربة أخرى للإختباء حيث يمكنه أن يتجول معها حيثما ذهبت وإلى الأماكن التي أصبحت نفسه تهفو إليها ؛ صعد إلى سوار الفل الذي كانت تعلقه دائماً في رقبتها نضراً زهياً على صدرها وتماه في مثل حباته وتكور حتى صار واحداً من ورداته .
كانا إذا تخفى هو كانت هى هيئته وصورته ومفردات كلامه ولسانه ومعاني أفكاره ؛ كان قد أختبأ تماماً وتخفى تماماً واختفى تماماً داخلها وأصبحت هى ظاهره المرئي من الإنسان والذي يستطيع به أن يمشي ويتكلم في آمان ؛ عبر لسانها وعبر وجهها ومن داخل ثيابها ومن حدقة عينيها ؛ كانت هو وكان هى .
قالت له يوما :
- "لا تخاف حتى من الموت مادمت إلى جوارك ومادمت في داخلي ؛ لا تخاف المستقبل ولا تخاف الجوع ولا تخاف أعداءك ؛ فهم كلهم دون قوتنا معاً ، ولكن ما أخشاه أنا : أن تنتهي حياتنا معاً بإختفاء من يطاردونك وبإنتهاء "المُطَاردة" المُطارٍدة " .
قال : "بل تنتهي علاقتنا بموتي ؛ سأكتب ما صنعت ليّ فأنا أعيش منك وأحيا فيك وأكتب منك وأكتب لك " .
كانت كل أيامه معها ؛ أمناً فبينما المفتشون
" المطاردون" يرحون ويجيئون يفتشون عنه خارجها ؛ كان هو مختبأ داخلها ، ينعم بلمس
" الحلمة " التي مدته بغذائه طوال فترة إختباءه الآمن ؛ وقد ظلا معاً حتى تسرب منه إليها ما جعلها "حبلي " به وبكل كيانه ؛ وباتت تنتظر أن تلده جديداً صحيحاً معافى غير مطارد .
محمد الصباغ
كانت قد اسودت المدينة التي عاش فيها كل أيام حياته ؛ وكانت قد اسودت نظرته التي يرآها بها ؛ ويرى بها شخوص حياته وعاداته منذ أن يستيقظ وحتى ينهي يومه بالنوم المتأخر في ساعات الفجر التي تشق طريقها نحو اليوم الجديد .
وكان من وراء تراكم المرارات ؛ بعضها فوق بعض ؛ وتعمقها في داخله ؛ أن تداخلت كل العوالم بالنسبة له فقد كان الشك يخالجه أن يكون قد أصيب بداء الوهم والإستغراق في الذاتية والخيال ؛ بعدما أصبح في ظنه أنه مطارداً أمنيا إلى جانب كونه مطارداً شخصياً من شخوص حياته كلهم مرة واحدة ، تطارده الصورة المثلى والصورة المقبولة التي يجب أن يكون عليها في نظرته إلى نفسه ومن وجهة نظر الآخرين . ولما خالجه مزيد من الشك أنه قد أصبح مطارداً في ظلام مدينته وفي فجرها وفي ضحاها ومغربها وفي كل ظلام يحدث من حوله ؛ أصبح هذا الهاجس في حد ذاته مطارداً له مؤرقاً له في صحوه وفي منامه .
وأصبح ذات يوم لديه اليقين بشعور أنه قد أصبح مطارداً من الموت نفسه ؛ يترصده الموت ويتسلل إليه ؛ ويُجد في التفتيش عنه من بين الأحياء ، فبات متوجساً من كل شيء ؛ وخال نفسه متوجساً لأنه استقر داخله أنه مطارد منذ زمن وأنه لم يدرك نفسه مطارداً إلا صبيحة ذلك اليوم الذي أدرك فيه أنه مطارد وأنه بين لحظة وأخرى قد يفقد حريته لفترة غير محددة مجهولة وربما أيضا يفقد حياته على الأرجح بعد تقييده ؛ وربما يفقد حياته إذا ما ظفر الموت بالوصول إليه .
إستطاع بعد فترة أن يتغلب على شعور مطاردة الموت له ؛ بأنه إلى الآن ؛ هو المنتصر في مطاردة الموت له ؛ ولكنه لم يفلح في تنحية استسلامه القاهر بأن باقي المنغصات له مازالت تطارده وقد بات يخشى أكبرها إفساداً للحظات حياته بأنه مؤكد أنه مطارداً أمنيا مرفوض سياسيا ؛ ملفوظ اجتماعياً لكونه ناقماً ضد الوجود ذاته وضد نظام الحكم في بلده ؛ ولما تأكد أنه أصبح مطارداً فعلاً بعد أن عجز عن مبارحة الشعور بأنه في أي لحظة ستحط على كتفيه يد غليظة تؤكد سقوطه في المطاردة التي بدأت دون بداية ؛ ولما بارح الظن أن الإستغراق في الشعور بأنه غارق في المطاردة قد أصبح كل حياته ؛ أتاه بعض الشعور بالراحة لأنه استطاع أن يكشف لنفسه أنه مطارد قبل أن يطبق عليه المطاردون .
وزاد شعوره بالثقة في قدراته بعدما بارح الظن إلي الاستقرار في اليقين أنه مطارد . وقرر بإرادته أن يعيش مطارداً مشرداً ، خير من أن يعيش مقيداً ؛ لا يحصل على الحد الأدنى من الآمان داخله ومن حوله . وبعدما عاش لفترة خائفاً داخل منزله ؛ خائفاً أثناء نومه خائفاً خارج بيته ؛ مل من الظلام الذي يراه بعينيه دون أن يحل الظلام بعد في نفس يومه ؛ ومل نفسه ومن الهواء الذي حوله ومن الطعام القليل الذي أصبح يحصل عليه ، ومن النوم المتقطع الذي لا يسيطر فيه على نفسه وعلى إداراته للمطاردة ، بل أنه مل مدينته السوداء ، التي أظلمت داخله وخارجه ، وأصبح يحصل على النور الذي يجعله يمشي في شوارعها بمنتهى الصعوبة وبأبهظ كلفة يدفعها من حياته .
ولما تأكد أن سلس البول الذي أصابه مؤخراً ونقاط الماء الساخنة التي تحرق قضيبه ، تحدث له من أثر إجهاده من المطاردة ؛ حاول بكل قدرته أن يقلل مخاوفه من إحساسه بخطر المطاردون له ؛ فكان يختبيء داخل الخوف نفسه وكان يتنكر في هيئة المطاردين ؛ ليختبيء منهم فيهم ؛ بل قرر أن يطاردهم هو ؛ حتى يستمر في الشعور بلذة المطاردة إذا ما تعبوا هم أو ملوا من ملاحقته .
في ذروة شعوره بخطر المطاردين ؛ اكتشف أنه أيضا مطارد من داخله وأن بعضه يأكل بعضه وفي ذروة هذه الحرب التي هو واقع فيها ؛ التقطته أو إلتقطها ، لم يكن هذا شيئاً مهماً بالنسبة له ؛ المهم أنه وجد بعض الآمان وقرر أن يهرب إليها .
قال لها : "أحتاج أن أهرب فيك وأن أهرب إليك وأن أهرب من حولك وأن أهرب داخلك وأحتاج أن أختبأ لديك وأن أختبأ فيك " .
فلما وجدها مرحبة راضية به ، عاشا المطاردة السرية معاً ؛ ما يطارده من خارجه وما يطارده من داخله وعاشا الإختباء سوياً وعاشا مطاردة الخوف من المطاردة والمطاردين ومغامرة أن يطاردوا المطاردون أحياناً ؛ سوياً .
جرب كل الإختباءات معها وجرب كل الإختباءات فيها : عندما جربا أن يختبأ في عينيها ؛ وجدا أنه في عينيها كان مكشوفا ، وفي دلاية عقدها كان ظاهراً منه وجهه ، فكان الأئمن له أن يختبأ بين نهديها وأن يحتويه إنضمام ثدييها أو يختبأ بين فخذيها ؛ وفي تجربة أخرى للإختباء حيث يمكنه أن يتجول معها حيثما ذهبت وإلى الأماكن التي أصبحت نفسه تهفو إليها ؛ صعد إلى سوار الفل الذي كانت تعلقه دائماً في رقبتها نضراً زهياً على صدرها وتماه في مثل حباته وتكور حتى صار واحداً من ورداته .
كانا إذا تخفى هو كانت هى هيئته وصورته ومفردات كلامه ولسانه ومعاني أفكاره ؛ كان قد أختبأ تماماً وتخفى تماماً واختفى تماماً داخلها وأصبحت هى ظاهره المرئي من الإنسان والذي يستطيع به أن يمشي ويتكلم في آمان ؛ عبر لسانها وعبر وجهها ومن داخل ثيابها ومن حدقة عينيها ؛ كانت هو وكان هى .
قالت له يوما :
- "لا تخاف حتى من الموت مادمت إلى جوارك ومادمت في داخلي ؛ لا تخاف المستقبل ولا تخاف الجوع ولا تخاف أعداءك ؛ فهم كلهم دون قوتنا معاً ، ولكن ما أخشاه أنا : أن تنتهي حياتنا معاً بإختفاء من يطاردونك وبإنتهاء "المُطَاردة" المُطارٍدة " .
قال : "بل تنتهي علاقتنا بموتي ؛ سأكتب ما صنعت ليّ فأنا أعيش منك وأحيا فيك وأكتب منك وأكتب لك " .
كانت كل أيامه معها ؛ أمناً فبينما المفتشون
" المطاردون" يرحون ويجيئون يفتشون عنه خارجها ؛ كان هو مختبأ داخلها ، ينعم بلمس
" الحلمة " التي مدته بغذائه طوال فترة إختباءه الآمن ؛ وقد ظلا معاً حتى تسرب منه إليها ما جعلها "حبلي " به وبكل كيانه ؛ وباتت تنتظر أن تلده جديداً صحيحاً معافى غير مطارد .
محمد الصباغ