ذكريات ملحن فاشل٥

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ذكريات ملحن فاشل٥


    ( موسيقار فاشل)
    ~~~~~~~
    لمَّا كانت رأسي قد حفلت بتلك الأفكار ، وسرى هذا الداء في شراييني ، زين لي الوهم اني قد غدوت ملحنا، فعزمت على اختبار موهبتي في التلحين، وجعلت لا اسمع عبارة إلا لحنتها.

    ثم تطورت الحال فتحولت إلى تلحين بعض القصائد ، وكنت اطمع أن أضارع السنباطي في ألحانه! ، وكان جمهوري الأول ثلة من الأصدقاء المقربين ، فإذا ضمنا مجلس تابطت عودي وشرعت بالدندنة، فيبتدرونني قائلين : هلا اعفيتنا، عافاك الله!

    ولكني لا أحفل بتوسلاتهم وأشرع في ما عزمت عليه، وهم منكرون علي جرأتي، ممعنون في عذلي ، حتى إذا تأبطت عودي وهممت ان اعزف جعلوا اصابعهم في اذانهم ثم ولوا مدبرين لا يلوون على شيء، ومنهم آخرون يغلب عليهم الضحك حتى فحصوا سجاد الحجرة بأرجلهم.
    وكنت اهمس في نفسي وأنا أكاد اتميز من الغيظ : إن أمية الذوق داء لا دواء له، وما منعهم ان يقبلوا على الحاني إلا أنهم صدفوا عن هذه الفن الرفيع !

    ~~~~~~
    ( كر وفر)
    ~~~~~~
    ازمعت اول الأمر أن اصنع مقطوعة موسيقية! فما زلت اقدح زناد فكري والخاطر يأبى علي ذلك، فمكثت أياما وأنا على هذه الحال لا أصنع شيئا .
    وكنت إذا اعترتني بعض الملالة أمسكت عن التلحين، ثم انصرف إلى بعض شأني رجاء ان يهبط الخاطر ، وكنت في هذا الفعل احاكي ما كان يقوم به بعض للملحنين الكبار وقد سئل يوما : كيف تصنع إذا استعصى عليك خاطر التلحين؟ فيجيب : "اتشاغل عنه حتى يسرع إلي" .

    ثم جعلت اتعلل بليت وعسى رجاء ان أنال فرصة من فراغ البال ، ثم أمكث ساعات وساعات لا تكف فيها ريشتي عن الصعود والهبوط ثم لا يكون من وراء ذلك شيء ذو بال، وهمومي تتلاعب بي كما يتلاعب الموج بالغريق، وانا أعلل النفس بالآمال واقول : يا فتى لو صبرت لكان خيرا لك.

    فلم تزل تلك الهواجس يهجن همي، وانا في حيرتي أحير من ضب، حتى تصادف مرة أني كنت اقلب ديوان حافظ إبراهيم، فوقعت عيناي على قصيدة ( لمصر أم الربوع الشام تنتسب) فعزمت على تلحينها، واخترت لها مقام الراست، وبعد عدة محاولات امتنع علي المقام ، فاحجمت عنه إذ لم أجد فيه غناء، ثم تحولت إلى مقام الكرد، وكنت في هذا الاختيار اقفو أثر عمنا السنباطي الذي كان يجنح إلى هذا المقام في تلحين تحفه الموسيقية لام كلثوم.

    شمرت لتلحينها ساعد الجد، وكنت آليت ألا أضع العود حتى أدرك شأوي، ثم عكفت عليه أسبوعين، وكان جبيني في خلالها يرشح عرقا، وبعد الُّلتيَّا والتي أنهيت تلحين اول سطرين، وبلغ سروري بهما مبلغا عظيما، حتى ظننت انني اعدت لتلحين القصيدة العربية مجدها الغابر! ولكن مَنْ يمدح العروسَ إلا أهلها؟!

    ولكن ثمة سؤال كان يهاجمني من كل الزوايا :
    هل سيقى لحنا بيني وبين نفسي أم أعرضه على احد يفتيني فيه؟
    تلكأت اول الأمر ، وما زلت أقدم رجلا وأؤخر أخرى حتى عزمت أن أعرض لحني على صاحبنا.

    ~~~~~~~~~
    ( آخر الزمر طيط!)
    ~~~~~~~~~
    شخصت إلى صاحبنا مهرولا، فلما صرت إليه ابتدرني سائلا : إنك لاتاتيني في مثل هذه الساعة إلا لأمر جلل، فما شأنك؟
    - فقلت :إني صنعت لحنا، فإن رأيت أن تسمعه مني فافعل.
    - فقال : هات اسمعنا.
    حتى إذا فرغت من عزفي، وقدرت ان لحني لم يقع من نفسه بحيث توخيت، قال : حسبك حسبك!

    ثم البث واجما كاسف البال قد علاني الشحوب لا أدري ما اصنع، فتركني حتى سكن جأشي، ثم صرف وجهه إلي
    و قال :هون عليك يا فتى.
    - فقلت له :
    "لقد حزبني هذا الأمر وضقت به ذرعا، ولست ادري ما اصنع، ولقد شغلني عن شؤوني وكل مصالحي، فبماذا تشير علي؟ " وكنت أطمع منه بفرج يجلو كربتي.
    - فقال :
    "إنك تلتمس ما لا سبيل إليه، و تكلف نفسك ما لا تطيق، و إن لهذا علة لا تعرفها أنت ، ألا فاعلم إنما هذه بذرة تزرعها السماء في من تختاره اهلا لها ، وانت لا تملك البذرة،
    فهل يصح في القياس ان يُحصَدَ زرع بغير بذر؟!
    وقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم : ( يزيد في الخلق ما يشاء).

    فلما عيل صبري وأخذني اليأس من كل جانب تضاعف بؤسي، وعلمت أن هذا أمر دونه خرط القتاد، فانقطع رجائي منه.
    ثم تدبرت حالي وقلت متحسرا : ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه!
    وجعلت اخاطب عودي : إني مفارقك لا محالة!
    فما جَسَرْتُ بعد ذلك أن اهجس بهذا الأمر في نفسي فضلا عن أن أظهره!

    ~~~~~~~~
    ( كسراب بقيعة! )
    ~~~~~~~~
    بعد أن جاوزت طور المراهقة والصباح ازوررت عن هذا العبث الذي لاطائل منه بعد أن استبان لي أني لم اصنع ألحانا إنما صنعت سخفا كثيرا!
    وانقشعت سحابة الأوهام التي اضلت عقلي دهرا طويلا ، والحمدلله أن " تخلصت قائبةٌ من قُوب !"
    ولقد علمت أن العاقل من يترك التماس ما لا سبيل اليه.
    ثم دعوت الله إن يقيني شر نفسي فهي أقرب أعدائي إلي!
    ومنذ ذلك الحين انطلقت أوهامي في التلحين ذات اليمين، وانطلقت انا ذات الشمال!

    ~~~~~~~~~~~~~~~~~~
    محمد سرحان
يعمل...