علاقة خاصة)
~~~~~~~~~
ثم إنه ما زال يُدنيني منه حتى صِرتُ أَخَصَّ ندمانه ، وكان قد آنس مني ميلا إلى الموسيقى فآثرني بصحبته ،واضطردت بعد ذلك وشائج العلاقة بيننا حتى أصبحنا عقيدي مودة، فكان لا يطيق أحدنا لصاحبه فراقا، وما زال تلطفه بي واحترامه لي حتى حسبته احد اهلي.
وكنت اختلف إليه ساعات كثيرة ، حتى إذا انفض مجلس السمر و تفرق الاخرون ظفرت منه بساعة خلوة فأخذت أتعلم منه اصول العزف ، وانا في هذا كله أُلازِمُهُ ملازمة الشعاع للشمس .
وكان في اول الأمر يملي علي بعض الحان دارجة مشهورة ، والحق أني كنت ازهد في سماعها ، وكان هذا الرجل بما أوتي من قوة فطنة وفراسة يقرأ على صفحة وجهي أمارات الامتعاض، فيبتدرني سائلا عن ذلك، فاجيبه : إن ذائقتي لا تألف هذا الضرب من الأغاني، وليس لي فيها ارب.
فإذا سألني عما أحب أجبته : ام كلثوم وفريد - وجعلت اعدد له اسماء كبار العمالقة - فإن فعلت وعلمتني، لاكونن لك من الشاكرين.
فألفيته وقد وجم وأطرق، ثم اردف يقول :
- هذه ألحان صعبة لا طاقة لك بها ، ومن رام أن يعزفها فليتهيأ للتعب! "
لكني كنت أُلِحُّ عليه أن يفعل وأقول :
- نشدتك الله بحق مودتنا لمَّا اسعفتني بما سألتك .
فيقول :
- ما عجبتُ من أمر قط عجبي من إصرارك في هذه المسألة، فلِمَ كل هذا الإلحاح؟
أجبته :
- هي ألحان اجتمعت فيها خصال الكمال، وإني لآنس في نفسي غريزة التلحين، ثم إني لأجد في ألحان هولاء الأفذاذ من الالهام ما يشحذ طبعي، ويذكي قريحتي، ولعلي بتدارس فنهم أسبر غور عبقرياتهم ، ثم أني لارجو ان اكون منهم!
فلبى ذلك بلسان الموافقة، وأنصرفت من عنده بأكثر ما كنت أؤمل.
فكان اول ما تدارسته منه اغنية " حلو وكداب" لعبدالحليم، فجعل لا يعفق عفقة على وتر الا حفظتها.
وفي أثناء هذا كله اسمع منه ضروبا من التسميات الموسيقية كانت تقع من نفسي موقع الغرابة : كالقرار، والجواب، والمقام الفلاني ، ويضطرني العجز في فهمها إلى التغافل عنها، ثم لم تلبث اذني ان استساغت هذه المسميات.
وكنت في بادي الأمر أركن إلى ذاكرتي في استعادة عزف اللحن، حتى قلت له يوما :
- "إن صعوبة اللحن تتحدى قدرة ذاكرتي، فإن رأيت أن تأذن لي بتدوينها بالحروف"
فاذن لي، ثم جعلت أحمل طرسي وقلمي كلما هم بعزف لحن، ثم أسجل مواقع النغمات بالطريقة البدائية ، ومكثنا على هذه الحال زمنا ، ثم إن هذا الوضع بلغ منا الجهد، فخشيت أن تصيبه السآمة، فينصرف عن تعليمي.
وبينما كنا على ثم قال ذات يوم :
- ألا أدلك على طريق أمكنك أن تجمع فيه بين حاجتين: تختصر الزمن وتبلغ الأمل مما اردت ؟
- فقلت : بلى، هات.
- فقال : " ينبغي لك ان تحذق قراءة النوتة، واعلم أنك متى حذقتها فقد اصبت نفعا عظيما، وأمنت الزلل، فهي تعصمك من الوقوع في خطأ العزف ، فتوفي النغمة حقها ، ذلك أنك متى جمعت اذنا مرهفة وعلما فقد بلغت الغاية في الإتقان في عالم الموسيقى، ثم إن المعرفة بها لازمة لكل مبتدئ وإن الجهل بها قبيح" .
وكان بمقالته تلك قد بلغ الغرض من نفسي ، فقلت :
- لله درك! ذلك والله ما أردت، وما كنت قط أحوج إلى هذا مني اليوم، فهلم اتعلم منك، وسأكون لك أطوع من بنانك أتمثَّل كلَّ ما أمرتني به.
فما زال هذا دأبنا حتى حذقت أصول النوتة في مدة عام ونيف ، وهو يتعهدني بالغداة والعشي تعليما وتثقيفا، والحق أنه في إيفائه بهذا الامر قد أنجز حر ما وعد!
~~~~~~~~
(مجالس الطرب )
~~~~~~~~
كانت مجالسنا صالونا ثقافيا نتطارح فيه سِيَرَ العمالقة واخبارهم، وكان هذا الأستاذ " ويكيبيديا" فنية ، ليس في الموسيقى فحسب، بل في كل ما يتعلق بضروب الفن من : تمثيل وسينما ، حتى لا تكاد تسقط منه معلومة عنهم مهما كان شأنها من الأهمية، فإذا استزاده الحاضرون من تلك الأخبار مضى يحدثهم مَثَلُهُ في ذلك مَثَلَُ الغيث اذا ما استمطر جاد وابِلُهُ.
وكان بطلاوة حديثه يقرع سمعي بقصصهم، فأجد في ذلك من الحلاوة ما هو أشهى في فمي من العسل، وكان يبدي من ضروب التشويق في أحاديثه الطلية ما يفوق قصص ألف وليلة، ثم إني كنت لا ادع فرصة الا اهتبلتها فأسأله عنهم بكيف واين! ، والحق أني أصبت منه ثقافة جمة بذلك العصر الاستثنائي للفن العربي.
ثم أننا قد اتفقنا ان نخصص كل ليلة للحديث عن احد أعلام الموسيقى، حتى إذا أتينا على ذكر أخباره ختمنا مجلسنا بلحن له يعزفه لنا صاحبنا، ثم نَنْسَلُّ من عنده وقد قضينا وطرنا من لذة الحديث والموسيقى.
وكان ابتداء ذلك الأمر اني قلت له ليلة :
- إني أروم مدخلا سهلا ألج به إلى عوالم هذه العقول الفذة، فكيف السبيل إلى ذلك؟
فيقول وقد احس شغفي :
- الموسيقى بحر لا حد له فأوغل فيه برفق، وإياك والعجلة في محاولة استيعابه دفعة واحدة ، فإن التعجل لا يدخل شيئا إلا أفسده، ولا ترتق السلم بطريقة عكسية، فإني رأيتك تلتمس الوصول إلى الثمرة قبل أوان نضوجها. وعليك أن تجنح إلى السهل من الأغاني، ودع اغاني ام كلثوم إلى مرحلة لاحقة."
[فاجبته :
- إن ألحان أم كلثوم أحب إلي من سواها، ولا بأس بأن نبدأ بالسهل منها.
فقال :
- إن كنت لا بد فاعلا، فدونك فريد الأطرش، فإن جمله الموسيقية بريئة من التعقيد، واخف وطاة في التحولات المقامية.
ثم ابتدر بعزف "اول همسة" ، فامتع الاسماع بما راق وراع!
ومن طريف ما أذكُرُ أنَّ أحد الظرفاء - وكان ممَّنْ يلزم مجالسنا تلك - إذا ذُكِرَ فريد الأطرش شَرَعَ يقلد غناءه بأسلوب فكاهي ، فكان يشغلنا الضَّحِكُ عن الرد عليه، وأما الأستاذ فكان اذا صدر ذلك الفعل من صاحبنا اشتط غضبه فيوسعه لوما وتقريعا، ويغلظ له في القول قائلا : ويحك، والله لئن عُدْتَ إلى ما عُدْتَ إليه لأنزعَنَّ لسانك من بين فكيك!
ثم كانت الليلة الثانية، وكان الحديث فيها عن العلم الفذ رياض السنباطي، ومما اذكره انه قال فيه :
- ذلك موسيقار ليس له ند ولا شبيه، وهو املك من عرفت لعنان المقامات، وهبه الله قدرة التصرف فيها، وهذه القدرة لم تكن قبله قد اجتمعت لغيره، وإني مهما أطنبت في مدحه فإن ذلك دون حقه.
فقلت :
- صدقت وبالحق نطقت ، فالسحر لا يبارح ألحانه، وإن ام كلثوم قد أوتيت حظا عظيما إذ آثرها بروائع انغامه على ما سواها.
ثم يقول :
- دونك ألحانه فاختر ما شئت.
فيقع اختياري على " اروح لمين"، فيقول :
- أحسنت وأصبت، أن هذا لحن محكم النسج قد أتى فيه رياض بكل ضروب وتفرعات الراست" .
ثم يتأبط عوده ويشرع في عزفها وانا أهرع إلى تدوين نغماتها، حتى إذ انتهينا إلى المقطع الثاني توقفت ريشته عن الدوران، ثم قال :
- والله لا زدتك على هذا، يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق ".
فلما كان الاسبوع الثاني ، جعلنا زكريا أحمد عنوان سمرنا، فقال الأستاذ :
- زكريا شيخ اخترع طريقته الخاصة في التلحين، وفرش الطريق لمن جاء بعده من الملحنين فجروا على سننه، واقتفوا أثره، وحسبه فخرا انه حرر الموسيقى العربية التي رسفت طويلا في أغلال الطابع التركي.
فقلت :
- "ولكن ألحانه لأم كلثوم لا يكاد لا يفارقها الحزن" وكنت اقصد لحنه " هو صحيح الهوا غلاب" .
فأجابني :
- نعم، فهو من الملحنين الذين يهرعون إلى مقام الصبا الباكي، وهو بحق لا يبارى في هذا المقام الذي يأنف منه كثير من الملحنون" .
وما هو إلا أن بدأ بعزفها حتى خشعت الأصوات وانهمرت العبرات!
وفي يوم تال صدَّرَ حكاياته بالموجي، فقال:
في ألحان الكثيرين ما يُحمَدُ وما يُذَمُّ ، وقلما يُذَمُّ للموجي لحن، فألحانه معدومة النظير، وهو مع علو كعبه لم يدع موجا إلا ركبه! إنه قارة من الموسيقى ليست لها حدود تحصرها ولا نهاية تحيط بها. فماذا تختار مما لحن؟
قلت :
- " للصبر حدود "
فأجاب ني :
- نعم ما اخترت، ذاك لحن بلغ فيه الموجي النهاية في الجودة والكمال.
ثم جعل يعزفها حتى خلب أسماعنا، ثم غادرنا مجلسه بعد أن قضينا العجب مما سمعنا.
فلما كان الأسبوع الذي تلاه كان حديثه عن بليغ حمدي، فقال :
- ذلك أعجوبة الزمان والمشار إليه بالبنان، وصاحب الجمل التي اذا سمعها سامعها سولت له نفسه أن يأتي بمثلها.
الألحان التي لا يحجبها عن القلب شيء.
تخيروا منها ما شئتم .
فعجل أحدهم بالقول : " كل ليلة وكل يوم "
فجعل يمتدح اختياره قائلا : " هذا لحن ألبس من الحسن حلة الكمال".
ثم جعل يعزفها فأمال أعناقنا، وكانت هذه الاغنية فاكهة أنسنا تلك الليلة، ثم تفرقنا بعدها أيادي سبأ .
سألته مرة - وقد كان تياها، شديد الذهاب بنفسه - :
- ألم تحدثك نفسك بالتلحين، وقد أوتيت ما أوتيته من الموهبة ؟
اجابني بخيلاء :
- بلى، لكن لولا أن طلب الرزق قد شغلني عن هذا الأمر ، لتركت الملحنين لا يأكلون الخبز!
ثم إنا مكثنا على هذه الحال حينا من الدهر، حتى استوعبت قدرا لا بأس به من عيون الغناء العربي ، فصرفت همتي بعد ذلك إلى الدُّربة على ما كان يتلوه علي في النهار من هاتيك الالحان ، وكنت إذا عسعس الليل واحلولك ظلامه أمسكت بالعود وطفقت ألعب بأوتاره ، وكنت احتال على ألا اوقض أهلي بأن اتخذ وسادة أضعها تحت الباب تمنع دندنة العود ان تتسرب إلى آذانهم فتطرد الكرى عن اجفانهم ثم يحدث ما لا تحمد عقباه!
ثم إني اظل أعزف من لَدُنْ غروب الشمس إلى طلوعها، فإذا كان من الغد، عدت إلى مثل هذه الحال وهلم جرا، حتى شاء الله ان يتخذ تفكيري طريقا آخر!
~~~~~~~~
(محمد سرحان
~~~~~~~~~
ثم إنه ما زال يُدنيني منه حتى صِرتُ أَخَصَّ ندمانه ، وكان قد آنس مني ميلا إلى الموسيقى فآثرني بصحبته ،واضطردت بعد ذلك وشائج العلاقة بيننا حتى أصبحنا عقيدي مودة، فكان لا يطيق أحدنا لصاحبه فراقا، وما زال تلطفه بي واحترامه لي حتى حسبته احد اهلي.
وكنت اختلف إليه ساعات كثيرة ، حتى إذا انفض مجلس السمر و تفرق الاخرون ظفرت منه بساعة خلوة فأخذت أتعلم منه اصول العزف ، وانا في هذا كله أُلازِمُهُ ملازمة الشعاع للشمس .
وكان في اول الأمر يملي علي بعض الحان دارجة مشهورة ، والحق أني كنت ازهد في سماعها ، وكان هذا الرجل بما أوتي من قوة فطنة وفراسة يقرأ على صفحة وجهي أمارات الامتعاض، فيبتدرني سائلا عن ذلك، فاجيبه : إن ذائقتي لا تألف هذا الضرب من الأغاني، وليس لي فيها ارب.
فإذا سألني عما أحب أجبته : ام كلثوم وفريد - وجعلت اعدد له اسماء كبار العمالقة - فإن فعلت وعلمتني، لاكونن لك من الشاكرين.
فألفيته وقد وجم وأطرق، ثم اردف يقول :
- هذه ألحان صعبة لا طاقة لك بها ، ومن رام أن يعزفها فليتهيأ للتعب! "
لكني كنت أُلِحُّ عليه أن يفعل وأقول :
- نشدتك الله بحق مودتنا لمَّا اسعفتني بما سألتك .
فيقول :
- ما عجبتُ من أمر قط عجبي من إصرارك في هذه المسألة، فلِمَ كل هذا الإلحاح؟
أجبته :
- هي ألحان اجتمعت فيها خصال الكمال، وإني لآنس في نفسي غريزة التلحين، ثم إني لأجد في ألحان هولاء الأفذاذ من الالهام ما يشحذ طبعي، ويذكي قريحتي، ولعلي بتدارس فنهم أسبر غور عبقرياتهم ، ثم أني لارجو ان اكون منهم!
فلبى ذلك بلسان الموافقة، وأنصرفت من عنده بأكثر ما كنت أؤمل.
فكان اول ما تدارسته منه اغنية " حلو وكداب" لعبدالحليم، فجعل لا يعفق عفقة على وتر الا حفظتها.
وفي أثناء هذا كله اسمع منه ضروبا من التسميات الموسيقية كانت تقع من نفسي موقع الغرابة : كالقرار، والجواب، والمقام الفلاني ، ويضطرني العجز في فهمها إلى التغافل عنها، ثم لم تلبث اذني ان استساغت هذه المسميات.
وكنت في بادي الأمر أركن إلى ذاكرتي في استعادة عزف اللحن، حتى قلت له يوما :
- "إن صعوبة اللحن تتحدى قدرة ذاكرتي، فإن رأيت أن تأذن لي بتدوينها بالحروف"
فاذن لي، ثم جعلت أحمل طرسي وقلمي كلما هم بعزف لحن، ثم أسجل مواقع النغمات بالطريقة البدائية ، ومكثنا على هذه الحال زمنا ، ثم إن هذا الوضع بلغ منا الجهد، فخشيت أن تصيبه السآمة، فينصرف عن تعليمي.
وبينما كنا على ثم قال ذات يوم :
- ألا أدلك على طريق أمكنك أن تجمع فيه بين حاجتين: تختصر الزمن وتبلغ الأمل مما اردت ؟
- فقلت : بلى، هات.
- فقال : " ينبغي لك ان تحذق قراءة النوتة، واعلم أنك متى حذقتها فقد اصبت نفعا عظيما، وأمنت الزلل، فهي تعصمك من الوقوع في خطأ العزف ، فتوفي النغمة حقها ، ذلك أنك متى جمعت اذنا مرهفة وعلما فقد بلغت الغاية في الإتقان في عالم الموسيقى، ثم إن المعرفة بها لازمة لكل مبتدئ وإن الجهل بها قبيح" .
وكان بمقالته تلك قد بلغ الغرض من نفسي ، فقلت :
- لله درك! ذلك والله ما أردت، وما كنت قط أحوج إلى هذا مني اليوم، فهلم اتعلم منك، وسأكون لك أطوع من بنانك أتمثَّل كلَّ ما أمرتني به.
فما زال هذا دأبنا حتى حذقت أصول النوتة في مدة عام ونيف ، وهو يتعهدني بالغداة والعشي تعليما وتثقيفا، والحق أنه في إيفائه بهذا الامر قد أنجز حر ما وعد!
~~~~~~~~
(مجالس الطرب )
~~~~~~~~
كانت مجالسنا صالونا ثقافيا نتطارح فيه سِيَرَ العمالقة واخبارهم، وكان هذا الأستاذ " ويكيبيديا" فنية ، ليس في الموسيقى فحسب، بل في كل ما يتعلق بضروب الفن من : تمثيل وسينما ، حتى لا تكاد تسقط منه معلومة عنهم مهما كان شأنها من الأهمية، فإذا استزاده الحاضرون من تلك الأخبار مضى يحدثهم مَثَلُهُ في ذلك مَثَلَُ الغيث اذا ما استمطر جاد وابِلُهُ.
وكان بطلاوة حديثه يقرع سمعي بقصصهم، فأجد في ذلك من الحلاوة ما هو أشهى في فمي من العسل، وكان يبدي من ضروب التشويق في أحاديثه الطلية ما يفوق قصص ألف وليلة، ثم إني كنت لا ادع فرصة الا اهتبلتها فأسأله عنهم بكيف واين! ، والحق أني أصبت منه ثقافة جمة بذلك العصر الاستثنائي للفن العربي.
ثم أننا قد اتفقنا ان نخصص كل ليلة للحديث عن احد أعلام الموسيقى، حتى إذا أتينا على ذكر أخباره ختمنا مجلسنا بلحن له يعزفه لنا صاحبنا، ثم نَنْسَلُّ من عنده وقد قضينا وطرنا من لذة الحديث والموسيقى.
وكان ابتداء ذلك الأمر اني قلت له ليلة :
- إني أروم مدخلا سهلا ألج به إلى عوالم هذه العقول الفذة، فكيف السبيل إلى ذلك؟
فيقول وقد احس شغفي :
- الموسيقى بحر لا حد له فأوغل فيه برفق، وإياك والعجلة في محاولة استيعابه دفعة واحدة ، فإن التعجل لا يدخل شيئا إلا أفسده، ولا ترتق السلم بطريقة عكسية، فإني رأيتك تلتمس الوصول إلى الثمرة قبل أوان نضوجها. وعليك أن تجنح إلى السهل من الأغاني، ودع اغاني ام كلثوم إلى مرحلة لاحقة."
[فاجبته :
- إن ألحان أم كلثوم أحب إلي من سواها، ولا بأس بأن نبدأ بالسهل منها.
فقال :
- إن كنت لا بد فاعلا، فدونك فريد الأطرش، فإن جمله الموسيقية بريئة من التعقيد، واخف وطاة في التحولات المقامية.
ثم ابتدر بعزف "اول همسة" ، فامتع الاسماع بما راق وراع!
ومن طريف ما أذكُرُ أنَّ أحد الظرفاء - وكان ممَّنْ يلزم مجالسنا تلك - إذا ذُكِرَ فريد الأطرش شَرَعَ يقلد غناءه بأسلوب فكاهي ، فكان يشغلنا الضَّحِكُ عن الرد عليه، وأما الأستاذ فكان اذا صدر ذلك الفعل من صاحبنا اشتط غضبه فيوسعه لوما وتقريعا، ويغلظ له في القول قائلا : ويحك، والله لئن عُدْتَ إلى ما عُدْتَ إليه لأنزعَنَّ لسانك من بين فكيك!
ثم كانت الليلة الثانية، وكان الحديث فيها عن العلم الفذ رياض السنباطي، ومما اذكره انه قال فيه :
- ذلك موسيقار ليس له ند ولا شبيه، وهو املك من عرفت لعنان المقامات، وهبه الله قدرة التصرف فيها، وهذه القدرة لم تكن قبله قد اجتمعت لغيره، وإني مهما أطنبت في مدحه فإن ذلك دون حقه.
فقلت :
- صدقت وبالحق نطقت ، فالسحر لا يبارح ألحانه، وإن ام كلثوم قد أوتيت حظا عظيما إذ آثرها بروائع انغامه على ما سواها.
ثم يقول :
- دونك ألحانه فاختر ما شئت.
فيقع اختياري على " اروح لمين"، فيقول :
- أحسنت وأصبت، أن هذا لحن محكم النسج قد أتى فيه رياض بكل ضروب وتفرعات الراست" .
ثم يتأبط عوده ويشرع في عزفها وانا أهرع إلى تدوين نغماتها، حتى إذ انتهينا إلى المقطع الثاني توقفت ريشته عن الدوران، ثم قال :
- والله لا زدتك على هذا، يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق ".
فلما كان الاسبوع الثاني ، جعلنا زكريا أحمد عنوان سمرنا، فقال الأستاذ :
- زكريا شيخ اخترع طريقته الخاصة في التلحين، وفرش الطريق لمن جاء بعده من الملحنين فجروا على سننه، واقتفوا أثره، وحسبه فخرا انه حرر الموسيقى العربية التي رسفت طويلا في أغلال الطابع التركي.
فقلت :
- "ولكن ألحانه لأم كلثوم لا يكاد لا يفارقها الحزن" وكنت اقصد لحنه " هو صحيح الهوا غلاب" .
فأجابني :
- نعم، فهو من الملحنين الذين يهرعون إلى مقام الصبا الباكي، وهو بحق لا يبارى في هذا المقام الذي يأنف منه كثير من الملحنون" .
وما هو إلا أن بدأ بعزفها حتى خشعت الأصوات وانهمرت العبرات!
وفي يوم تال صدَّرَ حكاياته بالموجي، فقال:
في ألحان الكثيرين ما يُحمَدُ وما يُذَمُّ ، وقلما يُذَمُّ للموجي لحن، فألحانه معدومة النظير، وهو مع علو كعبه لم يدع موجا إلا ركبه! إنه قارة من الموسيقى ليست لها حدود تحصرها ولا نهاية تحيط بها. فماذا تختار مما لحن؟
قلت :
- " للصبر حدود "
فأجاب ني :
- نعم ما اخترت، ذاك لحن بلغ فيه الموجي النهاية في الجودة والكمال.
ثم جعل يعزفها حتى خلب أسماعنا، ثم غادرنا مجلسه بعد أن قضينا العجب مما سمعنا.
فلما كان الأسبوع الذي تلاه كان حديثه عن بليغ حمدي، فقال :
- ذلك أعجوبة الزمان والمشار إليه بالبنان، وصاحب الجمل التي اذا سمعها سامعها سولت له نفسه أن يأتي بمثلها.
الألحان التي لا يحجبها عن القلب شيء.
تخيروا منها ما شئتم .
فعجل أحدهم بالقول : " كل ليلة وكل يوم "
فجعل يمتدح اختياره قائلا : " هذا لحن ألبس من الحسن حلة الكمال".
ثم جعل يعزفها فأمال أعناقنا، وكانت هذه الاغنية فاكهة أنسنا تلك الليلة، ثم تفرقنا بعدها أيادي سبأ .
سألته مرة - وقد كان تياها، شديد الذهاب بنفسه - :
- ألم تحدثك نفسك بالتلحين، وقد أوتيت ما أوتيته من الموهبة ؟
اجابني بخيلاء :
- بلى، لكن لولا أن طلب الرزق قد شغلني عن هذا الأمر ، لتركت الملحنين لا يأكلون الخبز!
ثم إنا مكثنا على هذه الحال حينا من الدهر، حتى استوعبت قدرا لا بأس به من عيون الغناء العربي ، فصرفت همتي بعد ذلك إلى الدُّربة على ما كان يتلوه علي في النهار من هاتيك الالحان ، وكنت إذا عسعس الليل واحلولك ظلامه أمسكت بالعود وطفقت ألعب بأوتاره ، وكنت احتال على ألا اوقض أهلي بأن اتخذ وسادة أضعها تحت الباب تمنع دندنة العود ان تتسرب إلى آذانهم فتطرد الكرى عن اجفانهم ثم يحدث ما لا تحمد عقباه!
ثم إني اظل أعزف من لَدُنْ غروب الشمس إلى طلوعها، فإذا كان من الغد، عدت إلى مثل هذه الحال وهلم جرا، حتى شاء الله ان يتخذ تفكيري طريقا آخر!
~~~~~~~~
(محمد سرحان